التعرض الطويل يترك آثارًا نفسية وجسدية

صانعو محتوى صغار يعزلون الأطفال عن محيطهم الاجتماعي

camera iconطفلة تتابع اليوتيوبر الطفل "ريان" عبر منصة يوتيوب (عنب بلدي)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – فاطمة المحمد

بأعمار صغيرة يطل صانعو محتوى عبر شاشات أجهزتهم الذكية، يشاركون جمهورهم سواء عبر تسجيلات مصورة أو “بثوث” مباشرة، نشاطاتهم الترفيهية وألعابهم واحتفالاتهم وبعضًا من ظروف حياتهم وطقوسها.

وتتضمن هذه التسجيلات التي تحصد ملايين المشاهدات ظروف رفاهية وبذخ، وقد تكون حلمًا لأطفال وعائلات في واقع أنهكه التعب والفقر وسنوات الحرب الطويلة، ما يهدد بترك أثر سلبي على سلوك الأطفال المتابعين وصحتهم النفسية.

تناقش عنب بلدي في هذا التقرير انعكاس هذه التسجيلات على شخصية أطفال سوريين وسلوكهم وقبولهم لمجتمعهم، والطريقة المثلى لتعاطي الأهالي معهم.

تذمر وتأثر بالمدونين

ينشط أطفال عبر “يوتيوب” ومنصات أخرى عارضين تسجيلات مصورة لنشاطات ترفيهية متنوعة ضمن منازل أثاثها فاره، وللسفر إلى أماكن مختلفة، وإقامة حفلات باذخة، وشراء ألعاب وعرضها.

فاطمة باكير، أم سورية لأربعة أطفال، قالت لعنب بلدي، إن طفلتها بدأت في سن الرابعة بمتابعة مقاطع فيديو على منصة “يوتيوب” لمدونين عرب وأجانب صغار، دون أن تشعر بأي أضرار لذلك حتى لمست نوبات غضب وعدم رضا وتغيرات سلوكية وشخصية عليها.

وأضافت أنها لاحظت تغييرات في طلبات طفلتها، ومنها الرغبة المتزايدة في شراء ألعاب باهظة الثمن، وإقامة حفلة بطراز معين كالتي قامت بها مدونة الفيديو التي تتابعها طفلتها.

حالة التذمر والشكوى والغضب لدى الطفلة باتت تتزايد مع أي رفض أو عدم استجابة للأم في تلبية أو شراء الطلب المراد، رغم تأمين العائلة ألعابًا وحاجيات أساسية لها.

ولاحظت فاطمة، المقيمة في هاتاي جنوبي تركيا، موجات الحزن والغضب التي تنتاب طفلتها، إضافة إلى انعدام الشهية لتناول الطعام مهما كان مفضلًا لديها، وحاولت أن تعزز الحوار معها بعد فهمها لطبيعة المشكلة الحاصلة، بأن ما تراه يختلف عن الواقع، وخفضت ساعات المشاهدة، ووجهتها إلى محتوى أكثر فائدة.

الطفلة ريماس (خمس سنوات) تعيش حالة مشابهة لطفلة فاطمة، إذ تمضي وقتًا طويلًا على “يوتيوب”، ما انعكس على سلوكها، إذ تقوم بتصرفات غريبة بعضها لا يتناسب مع ثقافة العائلة وعاداتها.

وقالت شقيقة ريماس، الشابة ريان تمرو، لعنب بلدي، إن شقيقتها كانت تقضي وقتها باللعب مع أفراد العائلة أو مع أطفال الجيران، ولكن منذ متابعتها لمدوني الفيديو الذين يقاربونها في العمر، لم تعد تشعر بالرضا، وبدأت بتقليد كل ما تراه، وتطلب نوعية أكل معينة وترفض أخرى، وترغب بالذهاب إلى أماكن لم تكن تعرفها في السابق.

وذكرت ريان أن شقيقتها كانت تعرض عليهم صور الألعاب التي تشاركها المدونة وتطلب منهم شراءها، لافتة إلى أنه في حالة رفض تلبية الطلب كانت تقول إن أفراد العائلة لا يحبونها.

“فجوة وتغيير في الهوية”

الاختصاصية النفسية نور المحمد، قالت لعنب بلدي، إن من المهم إدراك العائلات أن الإنترنت أتاح انفتاحًا كبيرًا على ثقافات ومجتمعات متنوعة بقيم ومبادئ مختلفة، وأن ما يعتبر غير لائق في مجتمع ما، هو طبيعي جدًا في مجتمعات أخرى.

وأضافت أن هذا الاختلاف بالقيم أدى إلى تسرب قيم سلبية وتعزيزها بهذا النوع من المحتوى، وأصبحت القيمة المادية والاستهلاكية والعادات السلوكية والغذائية غير الصحية منتشرة جدًا بين الأطفال اليوم.

وترى الاختصاصية النفسية أن اختلاف الوضع المعيشي والثقافي بين واقع صانع المحتوى (الإنفلونسر) والمتابع، شكّل فجوة كبيرة بين الطفل وواقعه، وخلق قلقًا وإحساسًا بالذنب والتقصير لدى الأهل في محاولتهم إرضاء أطفالهم وردم الفجوة.

واعتبرت المحمد أن عدم وعي الطفل بسبب عدم امتلاكه المحاكمة العقلية الكافية لتصفية وتصنيف هذا المحتوى يشكّل خطرًا كبيرًا عليه، ويترك آثارًا سلبية جسدية ونفسية واجتماعية وثقافية تؤثر على نمو الطفل.

“محتوى الإنترنت البعيد عن الواقع يؤثر على هوية الطفل، فالمؤثر وصانع المحتوى ووسائل التواصل ترسم هوية الأطفال ومعتقداتهم، كيف يرتدون ويأكلون، وهذا التأثير طويل الأمد لا يمكن رؤيته بشكل مباشر وهنا تكمن خطورته”.

نور المحمد – اختصاصية نفسية

ولفتت إلى ارتفاع نسبة الأطفال الذين يصابون باضطرابات وأمراض عقلية لتصل إلى 20%، وهي نسبة “مخيفة”، على حد وصف الاختصاصية النفسية.

وذكرت أن هذه الاضطرابات تشمل الاكتئاب، والقلق، وتشوه صورة الجسد، واضطرابات الأكل.

وأضافت أن الدراسات الحديثة أثبتت أن الأطفال المعرضين لوسائل التواصل الاجتماعي يعانون مشكلات سلوكية، وتقلبات مزاجية حادة ونوبات غضب، وأنه لوحظ وجود مشكلات بالتركيز، والانعزال عن الواقع، وتدني مستوى الثقة بالنفس، والانخداع السريع بالمظاهر، ومشكلات بالتقدير الذاتي والمهارات الاجتماعية.

ومن الجهة العضوية، يعاني هؤلاء الأطفال ضعف البصر، والصداع النصفي، والإرهاق، والتأثير على استيعاب الدماغ، بحسب الاختصاصية.

رفض الطفل لواقعه

قالت الباحثة المساعدة في مركز “عمران للدراسات” حلا حاج علي، لعنب بلدي، إن الطفل الذي يرى هذه الصورة المثالية في مقاطع الفيديو تتكون لديه حالة من الرفض للمجتمع الذي يعيش فيه لأنه أقل من هذه الصورة.

ولا يتمكن هذا الطفل من تحليل المحتوى بطريقة سليمة كالأشخاص البالغين الذين يميزون التهويل والتضخيم، ويدركون وجود “الفلاتر” وإعادة إنتاج هذا الفيديو عدة مرات ليخرج بهذه الصورة المثالية والرائعة.

وأضافت حاج علي أن هذا يؤدي إلى تشكل الحقد على المجتمع المحيط، لعدم تمكنه من تأمين مثل تلك البيئة المثالية.

وأصبح كثير من المحتوى المرئي غير هادف، وتعززت ثقافة الاستهلاك والسعي باتجاه الرفاهية والأخطار والمغامرة، التي تلفت نظر الأطفال.

ويُترجم رفض الأطفال لواقعهم على شكل تمرد على الأهل أو نوع من السلوكيات غير المرغوبة، أو يمكن أن يتسبب بحالة من العزلة مع المجتمع الخارجي سواء المدرسة أو الأصدقاء والأقارب، ورفض الطفلة أو الطفل لهذا النمط من الحياة التي كبروا وعاشوا فيها، ولربما لم يروا غيرها، بحسب الباحثة.

ونبهت حاج علي إلى أن الإحصائيات الأخيرة بيّنت أن مشاهدة هذا المحتوى بشكل متكرر، يتسبب بتراجع الأطفال عن التفاعل ضمن الحصص الدراسية، وتراجع في المستوى الدراسي بشكل عام، إضافة إلى ضمور في مهارات التفكير.

الوعي بالمشكلة هو نصف الحل

شددت الاختصاصية نور المحمد في حديثها لعنب بلدي على أن أهم خطوة لعلاج المشكلة هو الوعي بها، لافتة إلى ضرورة استخدام تقنيات لإدارة المحتوى الذي يشاهده الطفل، فكما يوجد محتوى سلبي يوجد آخر إيجابي يستطيع الطفل مشاهدته باعتدال.

ويجب على الأهل تحديد مدة زمنية لاستخدام الطفل للأجهزة الذكية بالاتفاق معه والاطلاع المسبق على المحتوى قبل مشاهدته، واستخدام التقنيات الحديثة في تفعيل الرقابة الأبوية على محتوى “يوتيوب” وغيره من المواقع التي يستخدمها الطفل.

كما يجب تشجيع الطفل على الاختلاط بالعالم الخارجي وبناء صداقات حقيقية، وتنمية الحس النقدي لديه من خلال سؤاله عن رأيه ومشاعره وعن الصح والخطأ بهذا النوع من المحتوى، ومحاورته بشكل مبسط لبناء وعي لديه حول الآثار السلبية للمحتوى، والتواصل الحقيقي والفعال بين الأهل والطفل الذي يسهم بشكل كبير في بناء شخصيته وحمايته.

إعلانات تحت غطاء الترفيه

نشرت المفوضية الأوروبية أن حوالي واحد من كل ثلاثة مستخدمين للإنترنت هو طفل، وأن هؤلاء الأطفال يدخلون على الإنترنت في سن أصغر من أي وقت مضى من خلال مجموعة متنوعة من الأجهزة، ويمضون وقتًا طويلًا على الإنترنت، يتصفحون وسائل التواصل الاجتماعي، ويلعبون الألعاب، ويستخدمون تطبيقات الهاتف المحمول، وهذا يحدث في كثير من الأحيان دون إشراف البالغين.

وفق دراسة بحثية أجرتها جامعة “هونج كونج المعمدانية” في عام 2021، على 30 طفلًا بين 10 و12 عامًا، قالت إن معظم الأطفال غير قادرين على تمييز ما إذا كانت الفيديوهات تتضمن إعلانات، أو فهم وجود نية للبيع والترويج للمنتج.

وتؤثر هذه الإعلانات على الأطفال من خلال توفير محتوى ممتع، بحيث يتخذ الأطفال قرارًا بشرائه بطريقة غير واعية، وتكون نسبة شراء المنتج بين الأطفال أعلى عندما يعرضه المدون ضمن الفيديو.

وأفاد المشاركون في الدراسة من الأطفال، أنهم سيطلبون من والديهم شراء المنتج أو العلامة التجارية بعد مشاهدتها في مقطع الفيديو.

وتوصلت الدراسة إلى أن بعض الأطفال يقدمون على شراء منتجات محددة بعد مشاهدة مقاطع فيديو ترفيهية تروجها، ويتفاوضون مع أولياء أمورهم لتحقيق طلبات الشراء الخاصة بهم، مقابل أن يحصلوا على تفوق دراسي أو إنجاز معيّن.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة