علي عيد
يمكنني استحضار دليل معاصر ومحلي حيال الخديعة التي جعلت الإعلام جزءًا من لعبة التحكم بالشعوب، فمقدار ما يناضل الصحفيون في سبيل معايير المهنة وأخلاقياتها، يتعرض الجمهور للخديعة، وكلما رفدت التكنولوجيا قطاع الإعلام بأدوات تقنية جديدة آخرها “الذكاء الاصطناعي”، ارتفع منسوب الخوف من التضليل والتزييف وتسطيح المعرفة وتوجيه الرأي العام.
أحاول هنا محاكاة ما ذكره الباحث الأمريكي هربرت أ.شيللر في كتابه “المتلاعبون بالعقول”، الصادر عام 1973.
فخلال عقد من الزمن، وردًّا على حراك الربيع العربي، (دون تقييم شخصي للأهداف والمآلات، وإنما فقط تأكيدًا لحق الشعوب في التعبير وفق مواثيق أممية) اشتغلت وسال الإعلام على جزئية في غاية التأثير، وهي استخدام نموذج الاستطلاع كوسيلة إقناع، بتكرار وضع الجمهور أمام خيارين، الإرهاب الإسلامي أو الأنظمة الحاكمة، وحدث هذا في سوريا، إذ كان السؤال المطروح دائمًا، بشار الأسد أم “داعش”، واحتل هذا الثنائي البرامج الحوارية ونشرات الأخبار وحتى أحاديث الشارع في الصحافة الغربية أيضًا بفعل التوجيه الممنهج، والقدرة على الوصول باستخدام قوة جديدة اسمها “الجيش الإلكتروني”.
يقول هربرت أ.شيللر في كتابه، إن شركة “جالوب” للتحليلات والمشورة طرحت على الأمريكيين عام 1968 سؤالًا يقول: من يستطيع التعامل أفضل برأيك مع الحرب الفيتنامية، ريتشارد نيكسون أم هيوبرت همفري.
الرجلان كانا مرشحين للرئاسة آنذاك، وكانا داعمين لحرب فيتنام بشكل أو بآخر، ولم يترك المجال في استطلاع “جالوب” لتخيير الناس بين دعاة السلام وإنهاء الحرب وبين المدافعين عنها، وانتهى السباق بفوز نيكسون.
في سوريا حصل ذات الشيء، وربما في ليبيا واليمن والسودان ومصر وغيرها من الدول التي شهدت موجة عارمة من المظاهرات والحراك المناهض للسلطة وأدواتها.
بعد 50 عامًا، هل تغير شيء؟ يبدو أن ما تغير من تحليل بسيط لأدوات السيطرة، هو أن المؤثرين الجدد في الإعلام كأدوات، يسرحون في عالم منفلت شكلًا، اسمه وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه منضبط مضمونًا لمصالح شركات كبرى، فبمقدار ما يتحقق الانتشار، يتحقق الربح لمنصات “فيس بوك” و”تويتر” و”إنستجرام” و”يوتيوب” و”تيك توك”.
ويبدو التعارض واضحًا في الصراع على القيم الأساسية المتفق عليها عالميًا في “كونجرس” تونس للفيدرالية الدولية للصحفيين عام 2019، وبين مصالح الشركات، ما حدا بكثير من وسائل الإعلام للتفكير في آليات اللحاق والمواكبة قبل الانتهاء من الاتفاق على مبادئ أخلاقية في المحتوى الذي توفره وسائل التواصل الاجتماعي عبر المؤثرين الأفراد الذين دخلوا المنافسة.
“المتلاعبون بالعقول” قدم تلخيصًا لخطر استخدام الإعلام وتقنيات التضليل وتزييف الوعي، وحرب المعلومات والاختراق الفكري خلال فترة الحرب الباردة، إذ يلعب الإعلام دورًا في “قلب هرم القيم”، عبر تحكم المال والشركات المسيطرة، ويوهم الرأي العام بفكرة “التعددية” أمام حقيقة أن المؤثرين هم القادرون على الوصول (مع اختلاف طبيعة المؤثرين بين منطقة وأخرى وزمن وآخر)، والمكر في استخدام المصطلحات، كالحديث عن “قيم العالم الحر” وفق الرؤية الأمريكية، عبر إقناع الجمهور بأن مصالح الفرد ورفاهيته مرتبطة بالحفاظ على مصالح المنتجين والشركات، وربما يحسن هنا التأكيد أن مصالح الأخيرتين في أمريكا توازيها مصالح لأطراف أخرى في مناطق أو جغرافيات أخرى مثل سوريا أو اليمن، إذ تسعى الأطراف المتصارعة لاستخدام الإعلام لإقناع الجمهور بأن مصيره مرتبط بهذه السلطة وأدواتها أو هذا الفصيل وتوجهاته.
تشير الدراسات والأبحاث في السنوات العشر الأخيرة إلى ميل الشارع إلى المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي بدل الصحافة التقليدية.
ويستنتج بحث خاص بعنوان “خطاب الكراهية ضمن وسائل الاتصال الموجه من الإعلاميين والناشطين وقادة الرأي السوريين”، أن مواقف قادة الرأي كانت “متغيرة بحسب موازين القوى، وتبدلات الظروف السياسية، وأحيانًا بحس الدول التي يقيمون فيها، ومصالحهم الشخصية”، وأن خطابهم “يعزز الانقسام الوطني”، وخلصت الدراسة التي أنجزها فريق بحثي لصالح رابطة الصحفيين السوريين، إلى أن “الخطاب الإعلامي” فشل في مواجهة خطاب الكراهية للمؤثرين وقادة الرأي، حسب رأي جانب الخبراء في الدراسة المسحية التحليلية.
وفي جانب التحليل الذي تناول المضمون على مدار عشرة أشهر من عام 2019، ظهر تفوق قادة الرأي (المؤثرون) في الوصول، كما أشار التحليل إلى أن قادة الرأي والإعلاميين والناشطين المؤيدين للحكومة السورية استخدموا بشكل ممنهج وكبير مصطلحات “إرهابيون/دواعش/حاضنة إرهاب” في وصف الأطراف الأخرى المعارضة، بينما استخدم المؤثرون وقادة الرأي والإعلاميون في الطرف المعارض مصطلحات “بعثيون/أسديون/منحبكجية/شبيحة/مرتزقة/ميليشيات طائفية” لوصف الطرف الآخر المؤيد للسلطة.
تنبه نتائج الدراسة إلى دور التكنولوجيا والأدوات الجديدة وتأثيرها في الرأي العام، ومدى سطوة القادرين على الوصول في تكوين التوجهات وتعميق التباعد واستمرار الصراع.. وللحديث بقية.