التجويع والإذلال ودعوات الإضراب العام
لمى قنوت
تعكس القرارات الاقتصادية والسياسية لنظام الأسد في سوريا مدى التخبط وسوء الإدارة والافتقاد إلى الأهلية في معالجة الأوضاع الكارثية التي أوصل البلاد إليها، والإصرار على صوابية النهج الأمني التدميري- الإجرامي، وتكراره لو أعيد الزمن إلى عام 2011، وذلك حسب ما أدلى به بشار الأسد في المقابلة التي أجراها مع “سكاي نيوز عربية” في 9 من آب الحالي.
لافتٌ إصرار الأسد على السياسات والتقديرات التي خلفت دمارًا شاملًا للبلاد، فحتى حليفه حسن نصر الله، اعترف بعد الحرب التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على لبنان، في تموز 2006، إثر خطف “حزب الله” جنديين إسرائيليين، بخطأ التقدير، حين قال بمقابلة تلفزيونية في 27 من آب 2006، “لو علمتُ أن عملية الأسر كانت ستقود الى هذه النتيجة لما قمنا بها قطعًا”
تشير التقديرات إلى أن أكثر من 15.3 مليون شخص يحتاجون إلى مساعدة إنسانية في عام 2023، مقارنة بـ14.6 مليون في عام 2022، وأن 90% من السوريين والسوريات تحت خط الفقر. وبدل أن تخفف السياسات الاقتصادية هذه المعاناة، تصدر القرارات لتعمق مستويات الفقر والجوع والحرمان، وتمارس التلاعب بزيادة الرواتب 100% من جهة، ثم ترفع الدعم عن المحروقات من جهة أخرى، فتبتلع الراتب والزيادة، وتضاعف أسعار المواد الغذائية والخدمات.
في واقع الحال يأخذ نظام الأسد سوريا ومواطنيها ومواطناتها رهينة خياراته وتحالفاته التي حولت سوريا ومن فيها إلى حقل رمي، بدأها هو باستخدام شتى أنواع الأسلحة، المحرمة وغير المحرمة، وسار على هديها حليفه الروسي، الذي كان يفخر وزير دفاعه، سيرغي شويغو، بتجريب أكثر من 350 نوع سلاح في سوريا. ودون أي رادع وطني، يعتبر الأسد أن توسيع الوجود الروسي في سوريا هو أمر جيد، فالوجود “العسكري الروسي يجب ألا يقوم على أي شيء مؤقت”، وأن توسيع قواعده وزيادة عددها هو أمر لوجستي وفني إذا رغبت روسيا بذلك، وقد حُذف هذا التصريح من فيديو المقابلة المنشور على موقع الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون.
أما حليفه الإيراني، فقد جعل من سوريا ممرًا بريًا يربطها من العراق إلى لبنان، عزز من خلاله نفوذه وهيمنته العسكرية والأيديولوجية، وأمّن لوكلائه وللميليشيات المرتبطة به دعمًا عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، كما ويستخدم سوريا ورقة مثلما يستخدم لبنان والعراق وشمال اليمن. ولعل دلالات الوصائية على نظام الأسد والتغلغل في سوريا كانت بارزة في عدة مشاهد خلال زيارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى دمشق في 3 من أيار الماضي، مثل استقبال رئيسي في المطار، واستدعائه لوزير الخارجية السوري مع مسؤولين سوريين إلى مقر إقامته بوجود العلم الإيراني وغياب العلم السوري، وأجواء الاحتفاء في مقام “السيدة زينب”.
يستخدم (وسيستخدم) الأسد، كعادته، التسويف والمماطلة والابتزاز في تنفيذ مطالب بيان عمان المنعقد في 1 من أيار الماضي وما يلحقه من متابعات تنفيذية لتحقيق بنود المخرجات، رغبة منه بتدفق المال الخليجي لسد عجز التدهور الاقتصادي الحاد، والعجز المتنامي في الموازنة، والانهيار المتسارع لليرة السورية، وارتفاع مستوى التضخم وتأمين موارد لشبكات النهب التابعة له.
تتعالى الأصوات السورية الغاضبة والداعية للإضراب العام والعصيان المدني احتجاجًا على إصرار النظام على إذلال الشعب وتجويعه، لكن، وكي ينجح هذا العمل السياسي المقاوم، عليه أن يترافق مع هيئات وشبكات تنظيمية موازية للمساعدة المتبادلة بين الناس، وشعارات ومطالب واضحة، يحددها الناس على الأرض، وفق رؤيتهم وأولوياتهم، وبشكل يضمن سلامتهم وأمنهم. ثمة أهداف وتكتيكات مختلفة بين الإضراب العام المؤقت والإضراب العام الطويل الأمد، وقد يشجع نجاح الإضراب المؤقت على تعبئة الناس للانخراط في الإضراب العام الطويل الأمد، الذي يعتبر عملًا ثوريًا لتفكيك هياكل السلطة.
تاريخيًا، استخدمت الحركات العمالية والحركات الاجتماعية الإضرابات كوسيلة ثورية ضد هياكل القمع والاستغلال والإخضاع وتكميم الأفواه، واستخدمت الحركات النسوية الإضرابات ضد قتل النساء بتنوعاتهن في أغلب دول العالم، بالشوارع والمدارس وأماكن العمل وغيرها من المساحات، مستلهمات الروح النضالية من إضرابات العاملات في بدايات القرن الـ20. ويحفل التاريخ السوري باستخدام الإضراب كأداة ثورية في مناهضة نظم القمع، كالإضراب السوري الستيني (60 يومًا) في عام 1936، الذي ترافق مع مظاهرات مناهضة للاحتلال الفرنسي، والذي يعتبر نموذجًا ملهمًا لنضال الشعب السوري في إعلان استقلال سوريا، وإضراب التجار لمدة ثلاثة أيام في عام 1965، ودعوة النقابات المهنية للإضراب في 31 من آذار 1980، وإضراب الكرامة في 1 من تشرين الأول 2011، وغيرها من الإضرابات التي نُفذت في العقد الأخير.
إن بقاء الطغمة الحاكمة جاثية على صدورنا ليس قدرًا، طالما أن العزيمة والإرادة المستقلة هي خيار للتغيير الجذري في بناء سوريا الحرة والمستقلة، والخالية من هياكل القمع والاستبداد، ومن جميع الجيوش والميليشيات التي تحتل أراضيها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :