محمد فنصة | حسن إبراهيم | يامن مغربي | حسام المحمود
ما بين تجارب وسائل الإعلام العالمية بتوظيف الذكاء الاصطناعي (Artificial intelligence) في عملها وتطوير محتوى إبداعي، وبين توجه كبرى الشركات التقنية لبرمجة تطبيقات تخدم الصحافة، ما زالت مؤسسات الإعلام السورية بعيدة عن الركب المتسارع نحو استثمار ثورة الذكاء الاصطناعي في تطوير الأنماط الصحفية المختلفة.
وتنقسم المعوقات المؤثرة على تضمين أدوات الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار السورية، بين معوقات لوجستية وتقنية ومعرفية، تضاف إليها قيود حكومية تحد من الوصول إلى بعض هذه الأدوات بما يخص الصحفي المقيم داخل سوريا.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف، فوائد أدوات الذكاء الاصطناعي للصحفيين، وتسأل تقنيين وصحفيين حول مخاطره على المهنة، وتبعات مواكبة هذا التطور من عدمها على المؤسسات العاملة في قطاع الإعلام.
أدوات للصحفيين والمؤسسات
ارتبط عالم الذكاء الاصطناعي بمختلف المجالات، بما فيها عالم الصحافة، منها ما يفيد الصحفيين في عملهم اليومي، ومنها ما يفيد المؤسسات الإعلامية في إضفاء وصول أفضل لجمهورها.
الرئيس التنفيذي لمجموعة “أوش” للتكنولوجيا وصناعات الذكاء الاصطناعي، شحاته السيد، قال لعنب بلدي، إن مجال الصحافة والإعلام يشهد تطورات سريعة مع ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي وتوظيفها في هذا المجال، وإنه باستخدام الأدوات المناسبة يمكن مساعدة الصحفيين على إنتاج محتوى إخباري بجودة عالية وفي وقت أسرع.
ومن أبرز المجالات التي تفيد فيها أدوات الذكاء الاصطناعي الصحفيين، القدرة على توليد نصوص ومحتوى أولي بناء على البيانات والحقائق المتاحة، ما يوفر الوقت والجهد في إعداد التقارير، كما تتيح أدوات التلخيص إمكانية تلخيص النصوص الطويلة بسرعة لاستخلاص النقاط الرئيسة منها.
وتسهم الترجمة الآلية في تمكين الصحفيين من تغطية أحداث من مناطق مختلفة بلغات متعددة بدقة وبسرعة، في حين تقدم أدوات البحث الذكية إمكانية البحث في كم هائل من المعلومات للحصول على الاقتباسات والأرقام ذات الصلة بالموضوع، وفق السيد.
وتتيح الأدوات المتطورة إمكانية التحقق من المعلومات والادعاءات، في حين توفر أدوات أخرى إمكانية إنتاج محتوى بصري وسمعي من رسوم بيانية ومقاطع مصورة، وصوتيات بجودة عالية وتكلفة أقل.
وبفضل التقنيات المتقدمة في التنبؤ وتحليل البيانات، أصبح بالإمكان اكتشاف أنماط واتجاهات الجمهور، وهو ما يساعد على إنتاج مواد صحفية أكثر عمقًا وتخصصًا، بحسب السيد.
الصحفي الاستقصائي عبد اللطيف حاج محمد، وهو خريج مدرسة “لندن” للاقتصاد في مجال اكتشاف الذكاء الاصطناعي، ويدرس في مجال أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، قال لعنب بلدي، إنه وفي خضم “ثورة الذكاء الاصطناعي”، ظهر عدد لا يمكن إحصاؤه من الأدوات التي يمكن أن تساعد الصحفيين بطرق مختلفة، من بينها أداة “Bard” التي أطلقتها “جوجل” مؤخرًا باللغة العربية، وهي واحدة من بين أدوات أخرى تعمل عليها الشركة، وفق حاج محمد.
وتختبر “جوجل” أداة معروفة داخليًا باسم المشروع “Genesis”، يمكن أن تأخذ تفاصيل الأحداث الجارية، على سبيل المثال، وتنتج منها محتوى إخباريًا، كما قال أشخاص مطلعون لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في تموز الماضي.
وعرضت “جوجل” هذه الأداة على كبرى المؤسسات الإخبارية الأمريكية، مثل “نيويورك تايمز”، و”واشنطن بوست”، وصحيفة “وول ستريت جورنال”، وشركة “News Corp” المالكة لعدة وسائل إعلامية، التي أبدت قلقها من “تسخيف” هذه الأداة لجهد الصحفيين في إنتاج مواد دقيقة ومبدعة.
وتعد الأداة المبنية على الذكاء الاصطناعي، وفق الشركة، بمنزلة نوع من المساعد الشخصي للصحفيين، لأتمتة بعض المهام وتوفير الوقت، مع الأخذ بعين الاعتبار المسؤولية الأخلاقية، وأنها ستساعد في توجيه صناعة النشر بعيدًا عن أخطاء الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل “ChatGPT”.
تقنيات نحو وصول أفضل للجمهور
أبرز التقرير السنوي لعام 2023 الخاص بمعهد “رويترز” لدراسة الصحافة، توجه الجمهور لتلقي المعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومع تطور التقنيات المضافة إلى هذه المنصات باستخدام الذكاء الاصطناعي، أوصى التقرير وسائل الإعلام بالتركيز أكثر على تحديد كيف يمكن استخدام وسائل التواصل في جذب أشخاص جدد للمتابعة.
وحذر التقرير من “موجة” مدفوعة باستخدام الذكاء الاصطناعي من المحتوى الإخباري المخصص، ولكن من المحتمل أن يكون “غير موثوق به”.
يمكن استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي لإنشاء ملخصات إخبارية وتوصيات مخصصة بناء على تفضيلات المستخدم وسلوكياته، وهو ما يمكن أن يساعد الصحفيين في الوصول إلى جمهور أكبر وإنشاء أخبار أكثر صلة وجاذبية، وفق الصحفي الاستقصائي عبد اللطيف حاج محمد.
ومن بين أنظمة الذكاء الاصطناعي المتوفرة حاليًا، يرى حاج محمد ثلاث تقنيات لا بد أن يبحث عنها الناشرون وأن تستثمر فيها القيادات الإعلامية:
1. “معالجة اللغات الطبيعية” (NLP): وهي أنظمة ذكاء اصطناعي، يمكنها قراءة النص وكتابته وترجمته وإنشاء نصوص، مثل منصة “ChatGPT” التي تعتمد على تقنية “البرمجة اللغوية العصبية”.
2. نظام “التوصية”: وهي تقنية ذكاء اصطناعي، تعتمد على “التعلم الآلي” و”التعلم العميق”، ويمكن استخدامها لتخصيص المواقع، ومن أمثلة استخداماتها، تلقي المستخدمين إعلانات عن منتجات بحثوا عنها سابقًا، كما تُستخدم في توصيات المقالات.
3. “رؤية الحاسوب” أو التعرف على الصور: وهي تقنية لديها القدرة على التعرف على الصور.
وعبر التقنية الأخيرة، عمل ممثلون من ثماني مؤسسات إخبارية عالمية على مشروع باسم “AIJO” (اختصار من أول حرفين للذكاء الاصطناعي وأول حرفين للصحافة بالإنجليزية)، يستفيد من قوة الذكاء الاصطناعي في عدة معايير منها، لفهم وتحديد وتخفيف تحيزات غرفة الأخبار، عبر التعرف على الرجال والنساء في الصور، وحساب مدى مساواة الظهور في التقارير والأخبار، وبشكل مشابه بالنسبة لمدى التنوع العرقي في مساحة الأخبار المنشورة.
بدوره، قال الرئيس التنفيذي لمجموعة “أوش” للتكنولوجيا، شحاته السيد، إنه عن طريق تقنية “النمذجة التنبؤية”، يمكن التنبؤ بالأحداث الإخبارية الحالية، واتجاهات الرأي العام باستخدام البيانات، ما يسمح بإنتاج محتوى ذي صلة.
ويجب تحسين محركات البحث داخل الموقع الإخباري بجعلها أكثر ذكاء لتلبية احتياجات البحث لدى القراء، كما يمكن استخدام “الروبوتات” لأتمتة المهام الروتينية، مثل نشر المحتوى ورصد مواقع التواصل الاجتماعي، بحسب السيد.
الذكاء الاصطناعي كتعريف هو محاكاة عمليات الذكاء البشري بواسطة الآلات، وخصوصًا أنظمة الكمبيوتر، ويوجد حاليًا عديد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، أهمها “الأنظمة الخبيرة”، و”معالجة اللغات الطبيعية”، والتعرف على الصوت، و”رؤية الآلة” أو التعرف على الصور، ويُستخدم الذكاء الاصطناعي كمصطلح بهيئته الحالية منذ عام 2003، ويُدرس أكاديميًا كفرع من قسم علم الحاسوب. |
موانع استخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة السورية
تواجه المؤسسات الإعلامية السورية وصحفيوها معوقات عدة لاستخدام الأدوات الجديدة للذكاء الاصطناعي، ما يهدد إمكانية الاستفادة منها في تطوير عملها والمحتوى المقدم للجمهور، سواء كان مرئيًا أو مسموعًا أو مكتوبًا.
وتنقسم هذه المعوقات إلى ثلاثة أقسام رئيسة، مالية وتقنية وتدريبية.
العربية والنقص المعرفي والقبضة السلطوية
ترتبط العوائق التقنية التي تواجهها المؤسسات والصحفيون المستقلون بشكل مباشر بعاملين أساسيين، الأول هو عدم دعم معظم الأدوات الجديدة للغة العربية، وهو ما قد يخلق عائقًا كبيرًا أمام الصحفي في أثناء عمله، وكذلك عدم استثمار وسائل الإعلام في أقسام يجتمع بها مبرمجون ومحللو بيانات وصحفيون لتصميم واختبار أدوات تخدم العمل الصحفي، سواء عبر الذكاء الاصطناعي أو غيره.
وبحسب الصحفي السوري مراد القوتلي، تنتظر المؤسسات السورية، كمثيلاتها العربية، ما ينتج في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وتحاول استخدامه، لكن لا تصل كل الأدوات والبرامج التي تخدم العمل الصحفي إلى المنطقة، وإن وصلت يبقى استخدمها محكومًا بأنها بالأصل أداة خاصة بالمؤسسة التي طورتها و أنتجتها، لذا فمن النادر أن يكون لوسيلة إعلام عربية أداة خاصة بها تعمل بالذكاء الاصطناعي.
الرئيس التنفيذي لمجموعة “أوش” للتكنولوجيا وصناعات الذكاء الاصطناعي، شحاتة السيد، قال لعنب بلدي، إن أبرز الصعوبات تتمثل في ندرة الأدوات والتطبيقات الخاصة بالذكاء الاصطناعي باللغة العربية مقارنة باللغة الإنجليزية، من ناحية الصرف والإعراب والنحو، كما أن هناك انشغالًا للشركات الرائدة في هذا المجال للعمل باللغة الإنجليزية، باعتبارها لغة عالمية ومهيمنة.
ويضاف إلى ما سبق، ضعف دقة بعض أدوات الترجمة الآلية والنسخ التلقائي للنصوص العربية، نظرًا إلى تعقيدات الأخيرة، وقلة توفر البيانات والمحتوى العربي الضخم اللازم لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، وصعوبة الوصول إلى الخوارزميات المتطورة، لسيطرة عدد محدود من الشركات عليها.
ويمكن حل هذه المشكلات عبر تشجيع الشركات الناشئة العربية لتطوير أدوات ذكاء اصطناعي ملائمة للغة العربية واحتياجات المحتوى الإعلامي، وإتاحة مجموعات البيانات الضخمة للقطاعين الخاص والعام، لتدريب وتطوير خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وإنشاء مختبرات مشتركة بين الجامعات ومؤسسات الإعلام، للبحث وتطوير توظيف الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي، وفق السيد، الذي أشار إلى ضرورة توفير البنية التحتية التقنية اللازمة من أجهزة وشبكات لاستيعاب هذه التقنيات.
فيما يرى الصحفي الاستقصائي المختص بالذكاء الاصطناعي عبد اللطيف حاج محمد، أن التعلم المستمر أداة مهمة في يد الصحفيين، ويمكنهم تخصيص وقت للاطلاع على كل ما هو جديد والتغييرات التي تطرأ على مهنة الصحافة.
أحد المعوقات كذلك هو عملية التدريب على أدوات الذكاء الاصطناعي التي قد تحتاج إلى خبرة معينة للتعامل معها للوصول إلى أفضل النتائج الممكنة، وفي ظل عدم وصول التقنيات بكاملها إلى المؤسسات الصحفية السورية والعربية، يبدو هذا الأمر صعبًا.
الصحفي مراد القوتلي أشار إلى أن أوروبا وأمريكا تملكان بالفعل جهات تقدم تدريبات على أدوات الذكاء الاصطناعي، لكن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحتاج إلى مزيد من الوقت.
ويعتقد القوتلي أن المؤسسات الإعلامية والصحفيين السوريين والمنطقة العربية ما زالوا حديثي العهد بالتعرف إلى قدرات الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي، التي بدأت عمليًا مع طفرة “ChatGPT” في عام 2022.
وأضاف في حديثه لعنب بلدي، أن هذا الأمر لا ينفي وجود عديد من الصحفيين ممن قطعوا شوطًا طويلًا في زيادة مهاراتهم باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي وتحليل نقاط ضعفها وقوتها، ويمكن الاستعانة بخبرتهم.
وبالإضافة إلى ما سبق، لا يدور الحديث في الصحافة السورية أو بين الصحفيين السوريين داخل سوريا عن استخدام الذكاء الاصطناعي في عملهم، إذ تحجب السلطات مواقع أهم أدوات الذكاء الاصطناعي الرائجة مثل “ChatGPT” و”Bard”.
وتحجب السلطات السورية باستمرار مواقع وصفحات مختلفة على الإنترنت، أغلبها مواقع تابعة للمعارضة، ومنها بعض المواقع العالمية المفيدة مثل مواقع وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها ألغت الحظر لاحقًا عن وسائل التواصل بعد الضغط الشعبي.
لقطة شاشة لهاتف محمول ذكي يحاول فتح موقع روبوت المحادثة “Bard” الخاص بشركة “جوجل” من سوريا
عوائق مالية أمام المؤسسات المستقلة
تقدم معظم أدوات الذكاء الاصطناعي خدمات مدفوعة باشتراكات سنوية أو شهرية، كما تتطلب بعض هذه الأدوات تدريبات خاصة للصحفيين لتعلم استخدامها، ما يؤدي إلى أعباء مالية إضافية على المؤسسات، أو على الصحفيين المستقلين.
وتشكّل هذه المعوقات تحديًا أمام المؤسسات الصحفية المستقلة التي قد لا تتلقى تمويلًا سنويًا كبيرًا من جهة محددة وبشكل مستمر ودائم.
الصحفي السوري مراد القوتلي قال لعنب بلدي، إن التكلفة المادية المرتفعة لبرامج وأدوات الذكاء الاصطناعي تشكّل تحديًا للاستثمار فيها، موضحًا أن أدوات الذكاء الاصطناعي لا تقتصر على “ChatGPT”، وإنما هناك برامج وأدوات مخصصة لتحليل البيانات وسلوك الجمهور وغيرها، وتكلفة الاشتراك بها مرتفعة.
وبينما تواجه المؤسسات الصحفية في المنطقة تحديات مالية كبيرة، تجد نفسها أيضًا أمام تحدٍّ جديد يتمثل بالاستثمار في أدوات الذكاء الاصطناعي، سواء عبر إنتاجها أو الاشتراك بخدماتها المدفوعة، وفق القوتلي.
وتلعب أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة دورًا فاعلًا في العمل الصحفي وتطويره، وهو ما دفع القوتلي لإنشاء دليل خاص به جمع فيه هذه الأدوات مع تحليل نقاط ضعفها وقوتها، مشيرًا إلى أن المؤسسات الصحفية التي لا تولي اهتمامًا بالذكاء الاصطناعي، ستجد نفسها متأخرة جدًا خلال السنوات الخمس المقبلة.
الرئيس التنفيذي لمجموعة “أوش” للتكنولوجيا وصناعات الذكاء الاصطناعي، شحاتة السيد، قال لعنب بلدي، إن ارتفاع تكلفة امتلاك أدوات الذكاء الاصطناعي وصعوبة تمويلها من قبل المؤسسات الإعلامية، يعد أحد المصاعب الكبيرة التي يواجهها العمل الصحفي.
ويعد إنشاء صناديق دعم مالي وحاضنات أعمال لدعم مشاريع الذكاء الاصطناعي أحد الحلول التي يمكن للمؤسسات اتباعها لحل هذه المشكلة، وفق السيد.
من جهته، قال الصحفي الاستقصائي عبد اللطيف حاج محمد، إن الشركات الإعلامية الكبيرة فقط من لديها الموارد المالية اللازمة للاستثمار في التقنيات الباهظة الثمن، وتطوير الخوارزميات الخاصة بها في هذا المجال.
بينما يرى القوتلي أن الحلول قليلة في هذا الإطار، لكن يبقى أن يلجأ الصحفيون والمؤسسات إلى استخدام النسخ المجانية كحل مؤقت، على الرغم من فائدتها المحدودة، وعدم إمكانية استخدامها بشكل مجاني لفترة طويلة.
هل يهدد الذكاء الاصطناعي عمل الصحفيين؟
هددت سرعة التحول الرقمي مئات آلاف الوظائف على الصعيد العالمي، إذ يتغير عالم الأعمال بمرور الوقت، ويشير مستقبل العمل إلى منظور مستنير حول ما تحتاج إليه الشركات والمؤسسات وفق معطيات الرقمنة والتطورات التكنولوجية، وسط تزايد ثورة “الروبوتات” وتقديرات عن حلول الذكاء الاصطناعي بديلًا للبشر في عديد من الوظائف.
ووفق دراسة لمعهد “ماكينزي” عن مستقبل العمل لعام 2023، قد يضطر واحد من كل 16 عاملًا إلى تغيير مهنته بحلول عام 2030، بما يمثل أكثر من 100 مليون عامل عبر اقتصادات ثماني دول كبرى، تمثل مجتمعة أكثر من 60% من سكان العالم.
واعتبرت الدراسة أن نمو الوظائف سيكون أكثر تركيزًا في الوظائف التي تتطلب مهارات عالية، مثل مجالات الرعاية الصحية أو العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
وعلى صعيد الصحافة والعمل الإعلامي، أظهر تقرير معهد “رويترز” للأخبار الرقمية عام 2023، بأن الجمهور يفضّل استقاء الأخبار من المشاهير والمؤثرين وشخصيات وسائل التواصل الاجتماعي بدلًا من الصحفيين والإعلاميين.
وأظهرت توقعات مركز التعليم والقوى العاملة بجامعة “جورج تاون” الأمريكية، أن وظائف غرفة الأخبار، بما في ذلك مذيع الأخبار المرئي والإذاعي والمراسل وكاتب فريق العمل، ستنخفض بنسبة 3% في الفترة من عام 2022 إلى 2031.
مساعد وليس مستحوذًا
الأستاذة المساعدة في كلية الإعلام بجامعة “القاهرة” الدكتورة منى عبد المقصود، قالت لعنب بلدي، إن مستقبل العمل الصحفي مع الذكاء الاصطناعي هو مستقبل “واعد”، بسبب سرعة تطوره الكبيرة، وتعتقد أنه يوفر على الصحفي كثيرًا من المهام التي كانت تستنفد وقته ومجهوده في سبيل إنتاج عمل روتيني لا يحتاج إلى كثير من الإبداع.
وأعطت عبد المقصود مثالًا بأن الذكاء الاصطناعي سيوفر على الصحفي العمل في جمع المعلومات وتنظيمها، والتعامل مع البيانات الضخمة وتنقيحها، كما كان سابقًا، إذ يعتمد الصحفي حاليًا على الترجمة الفورية، والوصول إلى عدد من مصادر المعلومات عن طريق المصادر المفتوحة، وكذلك التواصل مع صناع القرار والدوائر الخاصة بالمسؤولين من خلال منصات التواصل الاجتماعي.
وفي الجزء المتعلق بالتحقق من المعلومات، لفتت عبد المقصود إلى أن الفترة الماضية شهدت تطوير عدد كبير من الأدوات التي يمكنها مساعدة الصحفي على أن يتأكد ويتحقق من المعلومة وينقحها ويستند بها إلى أدلة وبيانات من أجل بدء الاعتماد عليها في الرصد.
“استثمار الذكاء الاصطناعي في تطوير عمل الصحفي سيوفر كثيرًا من الجهد ويجعله يركز في الأمور الإبداعية والابتكارية، وأي صحفي لم ولن يطور أدواته بوجود الذكاء الاصطناعي أو بعدمه، فإنه يكتب نهاية مسيرته الصحفية بنفسه”.
د. منى عبد المقصود – أستاذة مساعدة في كلية الإعلام بجامعة “القاهرة” |
ماتيا بيريتي وهو مدير مشروع “JournalismAI” (مبادرة عالمية تمكن المؤسسات الإخبارية من استخدام الذكاء الاصطناعي) التابع لكلية لندن للاقتصاد، اعتبر أن الذكاء الاصطناعي لا يسرق الوظائف الصحفية، ولا يحل مكان الصحفي، لكنه يمكن أن يأخذ بعض المهام، والمستخدم هو من يقرر ماهيتها.
وذكر بيريتي أنه يمكن للذكاء الاصطناعي تنفيذ عدة مهام تدعم عمل الصحفي، وكأي ابتكار تقني آخر من قبل، فإنه يغير أدوار غرفة الأخبار، لكن الأمر متروك للصحفيين بعد ذلك، ليقرروا ما يطلبوه من الذكاء الاصطناعي، إذ لا يمتلك الذكاء الاصطناعي الطموح في حد ذاته، ولا القدرة على سرقة الوظائف على المدى المنظور.
المدربة في صحافة البيانات و”الميديا” والتحقق من الأخبار، الدكتورة أروى الكعلي، ترى أنه لا يمكن أن يستولي الذكاء الاصطناعي على عمل مدققي المعلومات، إنما يمكنه مساعدتهم وتوجيههم عبر أدوات مختلفة، ومدققو المعلومات هم من يتأكدون من صحة الخبر ومدى صحة مصادره.
وذكرت الكعلي أنه لا يمكن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في توليد عمل صحفي، لأن ما يقدمه بحاجة إلى تدقيق، كما أنه يقدم معلومات خاطئة ويمكنه الخلط.
تقييم المدربة الكعلي جاء خلال جلسة تدريبية حضرتها عنب بلدي افتراضيًا، حول تدقيق المعلومات والذكاء الاصطناعي مقدّمة من منتدى “باميلا هوارد” لتغطية الأزمات العالمية بالتعاون مع “شبكة الصحفيين الدوليين”.
وبعد اكتشاف عديد من أخطاء المعلومات في منصات الذكاء الاصطناعي للمحادثات التوليدية، ظهر مصطلح “هلوسة الذكاء الاصطناعي”، الذي يصف اختلاق “روبوتات” المحادثة للمعلومات المقدمة، وهي مشكلة يشكك عديد من الخبراء التقنيين بإمكانية حلها.
المواكبة مطلوبة
توقعت الأكاديمية عبد المقصود أن الصحفي الذي يكتفي فقط بجمع المعلومات بشكل يدوي أو الترجمة الآلية أو المقابلات الإعلامية بشكل سطحي، أو حتى يقتصر على مهارات التحليل الأساسية والمهارات الروتينية العادية، سوف “يختفي”، ولن يكون له مكان في مستقبل الصحافة.
وحتى فيما يتعلق بالتفكير النقدي وحل المشكلات والابتكار والإبداع، رجحت عبد المقصود الوصول إلى مرحلة معينة في المستقبل يكون فيها الذكاء الاصطناعي منافسًا للإنسان، لافتة إلى ضرورة استعداد الإنسان لكيفية توظيف الذكاء بما يخدم قدراته وإمكانياته.
وبحسب تقرير معهد “رويترز” حول اتجاهات وتوقعات الصحافة والإعلام والتكنولوجيا لعام 2023، أوضح أنه لا بد من تدريب الصحفيين على العمل مع الذكاء الاصطناعي من أجل تجنب أو تقليل آثار النزوح الوظيفي الذي قد يحدثه.
ولفت التقرير إلى ضرورة أن تستثمر المؤسسات الإخبارية في تدريب الصحفيين للعمل مع أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل فعال، وأن تتعاون المؤسسات الإخبارية والمطورون والهيئات التنظيمية لوضع معايير وإرشادات للاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي التوليدي في الصحافة.
هل يهدد أخلاقيات المهنة؟
تتبع مختلف وسائل الإعلام آليات عمل ومواثيق مهنية تحكم أسلوب تعاطيها مع مختلف جوانب العمل، ورغم اختلاف هذه المواثيق بصيغها اللغوية، بما ينسجم مع أسلوب عمل المؤسسة وهويتها، ومدى استقلاليتها، فإن ستة مبادئ أو قيم صحفية وإعلامية على الأقل تشكّل قاسمًا مشتركًا تنشد كثير من وسائل الإعلام تحقيقها في تغطيتها، وهي الدقة والحياد والموضوعية والنزاهة والمصداقية والاستقلالية.
وأمام أي اختلافات بين ما هو ضيق على مستوى مؤسساتي، وآخر أكثر اتساعًا على المستوى المهني ككل، جرى، في حزيران 2019، تبني “الإعلان العالمي لأخلاقيات المهنة للصحفيين”، وهو نسخة معدلة عن “إعلان بوردو” الصادر عام 1954، تحت اسم “إعلان مبادئ الاتحاد الدولي للصحفيين الخاص بممارسة مهنة الصحافة”.
ويتكون “الإعلان المطوّر” من ديباجة و16 بندًا، تحدد قواعد وأسلوب تعامل الصحفي مع مصادره وزملائه، والسبل التي يمكن استخدامها للحصول على الأخبار والبيانات، مع ضرورة اعتراف الصحفي بأن الغش وتشويه الحقائق والقذف ونشر الإساءة وتلطيخ السمعة، والاتهامات العارية عن الصحة، تعتبر “إخفاقًا مهنيًا خطيرًا”.
كما نصت المادتان الخامسة والسادسة من الإعلان، على أنه لا ينبغي لمبدأ السرعة في نشر المعلومات أو الأخبار العاجلة التقدم على مبادئ التحقق من مصادرها، ومنح الأطراف المعنية فرصة الرد عليها، كما على الصحفي بذل قصارى جهده لتصحيح أي معلومات نشرها واتضح أنها غير دقيقة.
وأمام هذه المبادئ وغيرها كثير مما يصب في نفس الإطار، يؤكد عاملون في الصحافة وفي التحقق من المعلومات ضرورة وجود قواعد للذكاء الاصطناعي تحدد ما هو متاح وممكن، وتساعد الصحفي في تطوير أدواته، وما هو خطر على المهنة ويمس أخلاقياتها من ممارسات أو استخدامات غير منضبطة.
أوضح مؤسس منصة “تأكد”، أحمد بريمو، لعنب بلدي، أن الحديث عن معايير تحكم استخدامات الذكاء الاصطناعي ليس سابقًا لأوانه، فالمحتوى المضلل وغير الدقيق أو المزيف بتقنيات الذكاء الاصطناعي موجود ومنتشر، ووقعت في فخه مؤسسات إعلامية كبرى وصحفيون، وجرى التعامل مع المحتوى باعتباره محتوى دقيقًا، كالصور التي انتشرت لاعتقال الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب.
وبرأي بريمو، فهذه الأمور أضافت عبئًا على مدققي الحقائق والصحفيين لزيادة التوعية لمستخدمي مواقع التواصل والمؤسسات الإعلامية والصحفيين، وفيما يتعلق بوسائل الذكاء الاصطناعي لمكافحة المحتوى المضلل، فهناك بعض التقنيات التي ربما يستخدمها الأشخاص لدوافع بحثية لا تبدأ بالفضول ولا تتوقف عند الأغراض البحثية، والتي تقدم محتوى مبالغًا به، وغير موضوعي تمامًا، ما يستدعي القلق على مستقبل الصحافة أو المعلومات سواء كصحفيين أو معاصرين لتجربة جديدة حاضرة بقوة.
“من الضروري تطوير مواثيق الشرف الإعلامية والمعايير التي تتبع من قبل الصحفيين فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، وهذا يحتاج إلى وقت طويل ليصل إلى منطقتنا العربية، ووقت أطول ليتفهمه الصحفي ومتلقو المعلومة في الوقت نفسه”.
أحمد بريمو – مؤسس منصة “تأكد” |
ويتعرض المتلقي يوميًا لكثير من المعلومات المغلوطة مع ظهور محتوى لا يخضع لمعايير الدقة والموضوعية، لكن الوصول إلى الذكاء الاصطناعي سيسهل انتشار ظاهرة “الصحفيين المزيفين” و”المبرمجين المزيفين” و”الفنانين المزيفين”، فهذه الأدوات لا تحاكي مهن الجميع، لكنها ستحول كثيرين إلى أشخاص غير أكفاء في مهنهم، وفق بريمو، الذي اعتبر أن المسألة تتطلب كثيرًا من الجهد والتوعية والحذر، فالصورة اليوم يمكن أن تكذب، والصوت يمكن تقليده أو إنشاء نسخة مطابقة له.
أكد بريمو ضرورة تطوير الأدوات من أجل مدققي الحقائق، والمتأثرين بهذه الظاهرة، للتوصل إلى وسائل تمكّن من اكتشاف المحتوى القائم على هذه التقنية وتمييزها عن المحتوى غير الحقيقي، مع ضرورة نشر مزيد من التوعية الإعلامية، وإنشاء مناهج متعلقة بالتربية الإعلامية لتدريسها، بما يشبه مناهج محو التقنية الأمية.
واتفق الصحفي الاستقصائي عبد اللطيف حاج محمد مع بريمو في أن تطور بعض البرامج إلى حد بعيد في توليد المعلومات وتنظيمها لا ينفي دور الصحفي في التحقق من المعلومات التي تصله، دون إنكار أن هناك أساسيات في التحقق من المعلومات والصور والفيديوهات وأنواع مختلفة من البيانات لم يدركها بعض الصحفيين بعد.
كما أشار الصحفي إلى ضرورة العمل على دليل شامل يوضح الخطوط العريضة لاستخدام الذكاء الاصطناعي، إذ يمكن أن يكون لدى أنظمة الذكاء الاصطناعي تحيز مدمج من قبل المنشئين يؤدي إلى إعطاء الأولوية لقصص أو وجهات نظر معينة على غيرها، أو إهمال مجموعات بشرية على أسس سياسية مثلًا، وخنق وجهات نظرها.
ويرى الصحفي مراد القوتلي في إقامة النقاشات على مستوى المؤسسات الصحفية وسيلة لتحديد آليات استعمال الذكاء الاصطناعي، وتحديد الجوانب الأخلاقية والمهنية في التعامل مع هذه التكنولوجيا، دون إهمال ضرورة التعاون بين المؤسسات الصحفية، وتحديدًا في منطقة مثل الشرق الأوسط، بما يخدم الدفع قدمًا بالعمل الصحفي والتوافق على أسس للأدوات الجديدة في المهنة.
عنب بلدي سألت الذكاء الاصطناعي
تعد أداة “ChatGPT” إحدى أشهر أدوات الذكاء الاصطناعي المنتشرة، والتي تُستخدم في عديد من المجالات والقطاعات، بما في ذلك الصحافة.
عنب بلدي استخدمت الأداة وسألتها عما يمكن أن تقدمه للصحفيين وكانت إجابتها كالتالي:
1- توليد الأفكار: يمكن للأداة أن تساعد الصحفيين عبر تبادل الأفكار حول المقالات والعناوين الرئيسة وزوايا القصص الإخبارية، عبر تقديم فكرة عامة موجزة عن موضوع محدد وطلب نموذج لتوليد أفكار إبداعية.
2- المساعدة البحثية: يمكن استخدام الأداة لجمع معلومات أساسية أو إحصائيات وسياقات للتقارير والمقالات، عبر طلب تقديم بيانات أو حقائق أو تفسيرات تتعلق بالموضوع المطلوب.
3- الصياغة والتخطيط: يمكن أن تساعد في صياغة الخطوط العريضة أو المسودات الأولية للمقالات، عبر طلب التوسع في أقسام مختلفة أو الحصول على تفاصيل داعمة.
4- التحضير للمقابلات الصحفية: يمكن استخدام الأداة لمحاكاة أسئلة وأجوبة المقابلة، يساعد هذا الأمر بتوقع الردود المحتملة وتحسين النتيجة النهائية.
5- التحرير والتدقيق اللغوي: تساعد الأداة في مراجعة وتحرير المحتوى المكتوب واقتراح جمل بصياغة بديلة وتصحيح أخطاء نحوية وإملائية.
6- الدقة: تساعد الأداة بالتحقق من صحة المعلومات ودقتها قبل تقديمها للجمهور.
7- شرح الموضوعات المعقدة: يمكن للأداة شرح موضوعات معقدة للصحفيين بطرق بسيطة، ما ينعكس على المواد المقدمة للجمهور لاحقًا.
8- الأخبار العاجلة: يمكن لـ”ChatGPT” إنشاء ملخصات سريعة بناء على المعلومات المتاحة، ما يساعد في إنجاز الأخبار العاجلة.
9- محتوى تفاعلي: تساعد الأداة بإنشاء عناصر تفاعلية كاستطلاعات الرأي والاختبارات.
10- الترجمة: تقدم ترجمة سريعة من عدة لغات مختلفة.
الأداة أشارت في ختام إجابتها، إلى أنها وعلى الرغم من كونها أداة قيمة للصحفيين، فإن من الضروري التحقق من المعلومات الواردة، وأن يكون الصحفي على دراية بالاعتبارات الأخلاقية والتحيزات المحتملة ضمن المعلومات، وفق ما ترجمته عنب بلدي.