أنت صحفي.. أنت في خطر

  • 2023/08/13
  • 11:46 ص
الصحفي السوري علي عيد

الصحفي السوري علي عيد

علي عيد

خلف كلمة صحفي أو إعلامي، تختبئ قصص وحكايات، منها المبهج ومنها الموجع، ومنها ما يترك ندبًا في شخصية أبناء “مهنة المتاعب”، وليس الحديث هنا عن ضحايا الصحافة في الحروب فقط، إذ قدّم خيرة أولادها حياتهم ثمنًا وهم على الخطوط الأولى، وكذلك رمت المهنة بأبنائها الشجعان في السجون، وبينهم من جرى اغتياله بسبب تجرؤه في كشف الفساد السياسي والمالي.

مثال ضحايا المهنة من الصحفيين الاستقصائيين خلال السنوات القليلة الماضية، اغتيال المدونة المالطية دافني كاروانا غاليزيا بتفجير سيارتها في ضواحي العاصمة فاليتا عام 2017، والصحفي الأوكراني بافيل شيرميت بانفجار قنبلة زرعت في سيارته في كييف عام 2016، واغتيال الصحفي اليوناني سوكراتيس جيولياس بالرصاص في أثينا عام 2010، والقائمة تطول.

أخطر ما في مهنة الصحافة، أنها قد تشغلك أو تترك أثرًا في حياتك قبل أي قصة وبعدها أكثر من انشغالك في إنتاجها أو كتابتها.

خلال بحثك عن المعلومة أنت مضطر لتشغيل حواسك كلّها، وأنت مدعو للتفكير أكثر من عالم رياضيات، لأنك غالبًا ما تواجه قضايا لا تعرف إلى أين تقودك، وليست هناك وصفة جاهزة لمعالجتها بين يديك.

كصحفي أنت تتعامل مع أعقد مكون على وجه الأرض، إنه الإنسان، وأنت لا تتعامل مع قصص اعتيادية، فالقضايا التي تشغلك خارجة عن المألوف في غالب الأحيان، وبينما تعتقد أن طريدتك التي تسعى لاصطيادها واستخلاص حقيقتها هي رجل سياسة، أو مال، أو أعمال، أو رياضة، تكتشف بأنك فريسة لكل هؤلاء معًا. يكرهون الجانب الاستقصائي في عملك، يريدونك موظف تسويق ودعاية، وشتان بين الغايتين.

وراء مجد وسائل الإعلام وشعاراتها الرنانة شخص اسمه صحفي، وعندما تضع محطة تلفزيونية كلمة “الحقيقة” شعارًا لها، فهي تعتمد عليك، هي تدفع لك أحيانًا أقل مما تدفع لموظف صيانة المبنى الذي يغادر عمله دون كوابيس، لكنها تطلب منك أن تثبت جدارتها، وتحاسبك عندما تقصّر في نبش المعلومات والبحث وراءها، وهي تستثمر في شغفك أكثر من جهدك الذهني والعضلي أو مواصفاتك التقنية.

قد تتعرض لهزات نفسية عنيفة وأنت تقابل الشهود إذا كانوا من ضحايا الحروب مثلًا، وقد تتعرض لصور صادمة وأنت تغطي الكوارث، وربما تتقاطع في هذا مع رجل الإسعاف والإنقاذ والمحامي والطبيب، لكن خندقك الذي ترابط عليه غير خنادقهم.

غالبًا ما تنتهي كل مهمة للصحفي بهواجس أكبر، واحتمالات متاعب مع أطراف المعركة غير المرئيين، هذا عوضًا عن الرأي العام، فالطبيب يؤدي مهنته وخلفه قسم “أبقراط” ومجلدات من البحوث الطبية في تشخيص الأمراض، وبعدها لن يجد جمهورًا من ملايين الناس حتى ولو ارتكب خطأ طبيًا دون قصد، والمحامي يتحصن بمعرفته العميقة بالقانون، وهو يملك حق الدفاع حتى عن المجرمين، أما الصحفي فليست أمامه فرص للمناورة على الحقيقة، وقد تنتهي حياته المهنية لأنه اكتشفتها.

الصحفي مطالب عندما يلاحق قضية إهمال طبي بأن يلاحق كل معلومة طبية ذات صلة، وعندما ينبش في قضية فساد عمل هندسي في البناء والتشييد، عليه أن يراجع متخصصين ويفهم طبيعة عملهم ومقادير وخلطات مواد البناء، وعندما يتولى استقصاء حول عقود النفط الفاسدة فهو مطالب بفهم عمل الشركات واستثماراتها ونظام العقود والتشابكات بين القوى الكبرى المتحكمة بهذا القطاع.

الصحفي خصم لكل شخصية عامة، ومحقق في كل قضية تهم النّاس، إن نجح كسب في رصيده المهني، لكن هذا يعني أنه يكسب مزيدًا من أعداء الحقيقة الشرسين.

يقول بيان مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك، في تشرين الثاني 2022:

“يكشف الصحفيون عن قضايا يفضل البعض إخفاءها. ويبحثون عن الحقيقة في الأعماق والخفايا، ويتقصَّون المعلومات ويفكونها. ويصونون الحقائق ويمنعون طمسها. لكنّ هذا العمل البالغ الأهمية يعرّضهم للخطر. فهم يواجهون يوميًا الضرب أو المحاكمة، أو يُحتَجَزون خلف القضبان أو يشهدون أفراد أسرهم يتأذَون، لمجرد قيامهم بعملهم”.

في سوريا مثلًا، يدفع الصحفيون فاتورة باهظة منذ سنوات، إذ وثقت رابطة الصحفيين السوريين مقتل أكثر من 460 صحفيًا في سوريا خلال الفترة بين عامي 2011 و2023، مقابل أكثر 1470 انتهاكًا في ذات الفترة.

وقتل 1668 صحفيًا في العالم بين عامي 2003 و2022، أي بمعدل 80 صحفيًا سنويًا، وفق إحصائيات منظمة “مراسلون بلا حدود”.

على مستوى الحياة الشخصية لأبناء المهنة، يعتقد كثيرون أن الصحافة مهنة نجوميّة، من يدخل بلاطها يصبح شخصية عامة أو صانع سياسات ورأي عام، والحقيقة غير ذلك، إنها مسؤولية مستمرة، مهنة قلقة، أبناؤها الحقيقيون تلاحقهم الاضطرابات النفسية والصحية، وينتظرون في أي لحظة خطرًا أمنيًا داهمًا يهدد حياتهم، لذا يكثر بين كوادرها المدخنون والمصابون بأمراض ضغط الدم والسكر، والمهددون بالذبحات القلبية… وللحديث بقية.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي