قصصهن وسرديات العنف اليومية
لمى قنوت
يهدم الفكر النسوي الحواجز المصطنعة بين المجالين الخاص والعام، فكل خاص هو عام، والعكس بالعكس، والقصص التي قد تبدو أنها قصص شخصية للنساء بتنوعاتهن، هي أنساق لعلاقات قوة وإخضاع أنتجها النظام الذكوري الاستبدادي والرأسمالي والاستعماري المتقاطع مع جميع أنماط الاضطهاد، وبالتالي فهي أنساق سياسية، لا تنفع معها الحلول الفردية والجزئية، بل حلول جذرية لا تفاضل بين أنظمة القمع، ولا تتكيف معها، بل تجعل من المقاومة فعلًا يوميًا من أجل الحرية، ومن أجل عالم دون استبداد وقمع واضطهاد وجوع واستغلال. يتناول هذا المقال قصة إحدى السوريات، كنموذج لهياكل القمع المنهجية.
تسرد شابة مقيمة في حي القدم بدمشق (25 عامًا) في لقاء مصور بُث عبر صفحة “شوف” على “فيس بوك”، ما حصل معها منذ ثماني سنوات، حين أحبت شابًا من طائفة مختلفة عن طائفتها، وتزوجا زواجًا “عرفيًا” (قبل منعه بقرار) دون توثيقه في المحكمة، لأنه كان مطلوبًا للخدمة الاحتياطية، وبحضور شاهدين أسلم زوجها.
أخبرها أحد المحامين بأنها عندما تصبح في الشهر الثامن يمكنها رفع دعوى على زوجها لتثبيت النسب، وبالتالي يتم تثبيت زواجهما. تشرح الشابة أن عائلة زوجها قاطعته في البداية وبعد فترة صالحته، وخلال وجودهما في أحد الأسواق عام2019، حصلت مشكلة أمامهما في الشارع، فتدخل زوجها، وبعد اشتباك كلامي مع أحد المعنيين بالمشكلة، أشهر سلاحه بوجه زوجها ورشه، ثم هرب، وتُرك زوجها ينزف على الأرض، وتوفي، دون تتدخل القوى الأمنية، وكانت الشابة الشاهدة على هذه الجريمة في الشهر الثاني من حملها.
باعت الشابة أغراض بيتها لتوفي ديون زوجها وانتقلت لتعيش في بيت أهل زوجها، وبعد تسعة أشهر عرض عليها شقيق زوجها الزواج بذريعة أنه سيربي ابنها، رغم أنه متزوج ولديه أولاد. رفضت الشابة أن تتزوجه، ورفضت أيضًا أن تشهد زورًا أمام المحكمة بأن من قتل زوجها قتله دفاعًا عن النفس، وذلك بعد دفع عائلته مبلغ 12 مليون ليرة سورية كفدية، فطلبت منها عائلة زوجها الخروج من بيتهم واستولوا على جهاز هاتفها الخلوي، وبدأوا بابتزازها وتهديدها بعد إجراء “مونتاج” لصورها للطعن في “سمعتها” والتشكيك بنسب حفيدهم، من أجل الضغط عليها لتشهد زورًا في المحكمة. ورغم أنها طالبتهم بإجراء تحليل لتأكيد نسب طفلها، طردوها وابنها من منزلهم. كما رفض أهلها استقبالها مع ابنها، واعتبروا أن طفلها “ابن غريب”، وطلبوا منها تركه أمام بيت عائلة زوجها كشرط لاستقبالها.
بعد وساطات كثيرة، وافقت عائلة من أقرباء والدها على استقبالها مع ابنها، لكن الشابة عانت معهم كثيرًا بسبب تعييرها بوالدتها التي تزوجت. أضافت الشابة أنها بعد عام هربت إلى بيت أختها، ثم إلى بيت أمها، وبدأت تعمل نتيجة وضعها المادي السيئ. وبعمر 20 عامًا تزوجت شخصًا عمره 50 عامًا، هربًا من أوضاعها، كما تقول، وكان متزوجًا ولديه أولاد، وكانت أوضاعه المادية جيدة، إلا أنها خلال الحجر الصحي بسبب “كوفيد– 19” ساءت، وسُرق معمله والبضاعة الموجودة فيه.
تستطرد الشابة وتقول، إن لديها ولدًا (عمره سنتان) وبنتًا (ثلاث سنوات ونصف) من زوجها، بالإضافة إلى ابنها الكبير (ست سنوات) من زوجها المتوفى، والذي كانت تتمنى أن يعامله زوجها الحالي كما يعامل أطفاله.
يحتقن صوت الشابة وهي تبكي وتقول، إنها حزينة على ابنها الكبير الذي لا يلقى الحنان إلا منها، وهي تعبت من دور الأم والأب، ولم تعد تستطيع سد حاجاته المادية، وأنها تدق مئة باب لتشتري له ملابس العيد، وتستخرج أوراقه الثبوتية (عقد زواجها، شهادة ميلاد الطفل، شهادة وفاة الزوج) عند المحامي الذي طلب منها لقاء تسجيله على اسم زوجها مبلغ مليون ونصف المليون. تختم الشابة قصتها بأنها لا تريد شيئًا من هذه الدنيا إلا تسجيل طفلها كي لا تفوته المدرسة.
تخبرنا قصص النساء عن ديناميات العنف ضدهن، وسبل مقاومتهن حين يقفن بمفردهن في مواجهتها، والطرق التي يلجأن إليها للنجاة والتعافي، وبقدر ما يُترجم السرد الممارسات والخيارات الشخصية والتجارب اليومية مع العنف، يستجوب التحليل النسوي هياكل السلطة والقوة التي تولد العنف وتعيد إنتاجه في المؤسسات بمعناها الواسع، والممتدة من مؤسسة الأسرة إلى المؤسسات الدينية والمدنية وجميع مؤسسات الدولة. ويرصد التحليل النسوي بنيان الهيمنة الذكورية في المجتمع الأبوي والعنف المبني على النوع الاجتماعي وأنماطه وتراتبيته وتقاطعيته مع جميع أشكال العنف السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني.
تتعدد طبقات التمييز ضد هذه الشابة وابنها بناء على الدين، فجزء من سرديتها ومعاناتها، أن أهل زوجها رفضوا ابنها لأنه تربى “تربية مسلم”، وأهلها بدورهم اعتبروا طفلها “غريبًا” بحسب معاييرهم. لا شك أن التمييز الذي تدفع ثمنه النساء بتنوعاتهن وطفلاتهن وأطفالهن هو نتيجة عدة عوامل، مثل انغلاق الجماعات الدينية على بعضها في سوريا، وتسييس الهوية الذي اشتغل عليه النظام، وعدم إقرار الزواج المدني، ودسترة الطائفية في المجتمع والتمييز ضد النساء وبينهن عبر نص المادة الثالثة من الدستور (فقرة 4): “الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية”، التي حرمتهن من حقوقهن المدنية وسلطت المرجعات الدينية على حيواتهن. كما أن إتاحة الزواج المختلط قانونيًا عبر إشهار إسلام شكلي لغير المسلم تجعل من المادة “42” التي تكفل حرية المعتقد موضع تشكيك، فعواقب عدم الانصياع لهذا الشرط تمنع تسجيل واقعة الزواج في المحاكم الرسمية، وتجعل من الأطفال مجهولي النسب، إضافة إلى حرمان النساء من حقوقهن. إن عدم إقرار قانون أسرة مدني حديث، وتجاهل حظر التمييز ضد النساء بتنوعاتهن دستوريًا مع إقرار آليات رصد وعقوبات صارمة ضد الانتهاكات، هو تجذير لعنف التمييز ضدهن.
أسس العنف الذي أدارته الدولة ضد المجتمعات التي ثارت ضد نظام الأسد لانتشار السلاح واستخدامه ضد المدنيين في الشوارع، وارتفاع معدلات الجرائم بغياب تام لدور الشرطة في حفظ الأمن، كمقتل زوج الشابة في أحد الأسواق، الأمر الذي جذر الإفلات من العقاب وأسس لاستحالة وصول المهمشات والمهمشين إلى العدالة.
إن العنف المجتمعي ضد النساء بتنوعاتهن بشكل عام وضد الأرامل بشكل خاص، والاستقواء عليهن واستسهال الطعن في أخلاقهن، ورفض خياراتهن الشخصية، وتهميش قصصهن في سرديات جانبية بعيدة عن الصراع، و/أو اعتبار الانتهاكات التي يتعرضن لها مجرد أضرار جانبية وظاهرة تصاحب النزاع، هي انعكاس وامتداد لهياكل العنف المنهجية والتقاطعية القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الموجهة ضدهن قبل النزاع، وستستمر بعده، ما لم يتم الإطاحة بأنظمة وهياكل القمع كافة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :