خطيب بدلة
قبل حوالي 20 عامًا، دأب مثقفون من اللاذقية وطرطوس وجبلة والقرى المجاورة على عقد لقاء نصف شهري، في مطعم “تنور أبو أيمن” بمنطقة رأس شمرا قرب اللاذقية، يستمر من الثامنة مساء حتى الواحدة ليلًا، ويناقشون قضية سياسية أو ثقافية أو اجتماعية ما، وفي كل مرة يدفع فاتورة المطعم أحد أفراد المجموعة، بموجب ورقة لتنظيم الدور، وقد عُرفوا باسم “جماعة الثلاثاء الثقافي”.
انضممتُ إلى هؤلاء الأصدقاء سنة 2005، وعلى الرغم من بعد المسافة، ووعورة طريق إدلب اللاذقية، داومت على الحضور، فكنت أسافر بسيارتي مساء، وأعود إلى بيتي في وقت الفجر تقريبًا. وفي ذات يوم، اقترح أحدهم أن يكون اللقاء في مطعم آخر، يقع في الشرق من مدينة جبلة، لأن صاحب المطعم صديقه الشخصي، ويمكن أن يقدم لنا أفضل المأكولات بأسعار معتدلة. المهم، التقينا، وتناولنا العشاء، وتناقشنا في قضية ما، ثم انصرفنا، كالمعتاد. بعد حوالي شهر من هذا اللقاء، قص علينا أحد الحاضرين حكاية كنا نحن أبطالها دون أن ندري، وهي التالية:
في الليلة ذاتها، وبمحض المصادفة، وردتْ “إخبارية” إلى فرع “الأمن السياسي” بحماة، تفيد بأن مجموعة من الأشخاص سيجتمعون الليلة في مكان سري من سهل الغاب، لتشكيل حزب جديد، قريب في أيديولوجيته من ”حزب “العمل الشيوعي” المعادي للنظام، فانطلقت بضع دوريات تجوب المكان المشار إليه بحثًا عن مكان الاجتماع. ولأنهم لم يعثروا على شيء من هذا، أرسلت قيادتهم برقية إلى فرع “الأمن السياسي” في اللاذقية، تطلب منه التقصي عن الموضوع في ريف اللاذقية الشرقي، باعتباره في حالة تماس مع سهل الغاب الذي يقع إلى الغرب من حماة. وفرع “الأمن السياسي” باللاذقية، بدوره، أبلغ جميع الدوريات العائدة للفروع الأمنية الأخرى، بضرورة المساعدة في التقصي عن اللقاء المحتمل، وكان من حسن حظ إحدى الدوريات أنها عثرت على كثافة من السيارات الخاصة المتوقفة أمام مطعمنا، تحمل لوحات تشير إلى محافظات اللاذقية وطرطوس وحماه وإدلب، وسرعان ما تحدث رئيس الدورية باللاسلكي طالبًا المؤازرة من الدوريات الأخرى، وخلال أقل من ساعة أصبح المطعم الذي كنا نتعشى فيه مطوقًا!
أرسل قائد القوات التي تطوق المكان عنصرًا إلى داخل المطعم، خلسة، فرأى الطاولة الكبيرة التي كنا متحلقين حولها، وسمع أصوات نقاشاتنا الحادة، فأبلغ صاحب المطعم بأن يخرج، ويقابل “المعلم”، فخرج الرجل مرعوبًا. سألوه عما يجري، فقال إنها وليمة عشاء عادية لـ”جماعة الثلاثاء الثقافي” الذين يجتمعون عادة في رأس شمرا، ولكنهم، الليلة، جاؤوا إلى هنا، وأنه لا يوجد أي احتمال أن يكونوا بصدد تشكيل حزب جديد معادٍ للسلطة، فانسحب القسم الأكبر من الدوريات وبقيت مجموعة صغيرة ساهرة في الخارج تراقبنا حتى انفضت السهرة، وخرجنا، وذهب كل واحد منا في حال سبيله. وفي اليوم التالي استدعي أحد زملائنا إلى فرع “أمن الدولة” باللاذقية، حيث أبلغوه بضرورة الانتباه لمثل هذه الأمور التي تبعث على الريبة، وعدم تغيير مكان السهرة، لأن هذا يسبب إرباكًا للجهات الأمنية الساهرة على مصلحة الوطن!