حسن إبراهيم | حسام المحمود | خالد الجرعتلي
راقب اللاجئون السوريون في تركيا نتائج الانتخابات التركية التي جرت جولتها الثانية في 28 من أيار الماضي، أملًا بالتوصل إلى نتيجة تخلصهم من المخاوف التي تساورهم جراء خطابات وتعهدات المعارضة التي وضعت مسألة وجودهم في صلب اهتماماتها، لكن ما تبع تلك الانتخابات لم ينهِ تلك المخاوف مقدار ما أججها، خصوصًا مع تعديلات في الحكومة، شملت وزارة الداخلية، ومؤسسات معنية بملف اللاجئين والمهاجرين إجمالًا، وأبرزها دائرة الهجرة التركية.
هذه التغييرات تبعتها حملة رسمية أعلنها وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، لمكافحة الهجرة غير الشرعية في البلاد، ومن نتائج تلك الحملة ترحيل مئات السوريين من عدة ولايات تركية إلى شمال غربي سوريا، رغم حيازتهم بطاقة “الحماية المؤقتة” التركية (الكملك).
تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع باحثين متخصصين ومعنيين وقانونيين، حالات التضييق التي يعيشها السوريون في تركيا، والسياسة الداخلية التركية حيال الملف ككل، ودور قانون “الحماية المؤقتة” بالتحكم في أوضاعهم، إلى جانب أوضاع من رُحّلوا إلى الشمال المنهك، ومحاولة تحديد الجهات المعنية بالدفاع عن السوريين وحقوقهم في بلد لجوئهم.
قبل وبعد الانتخابات.. تضييق مستمر
في 9 من تموز الماضي، قال وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، إنه أصدر تعليمات بشأن ملاحقة المهاجرين غير النظاميين الذين يقيمون بشكل غير قانوني في عموم البلاد، وليس في اسطنبول وحدها.
كما أوضح خلال لقاء صحفي حينها، أن عناصر الشرطة والدرك وفرق خفر السواحل يشاركون في حملة ضبط المهاجرين غير النظاميين.
هذه الحملة تترافق مع تعهدات تركية رسمية بخفض عدد المهاجرين غير النظاميين في جميع الولايات بشكل ملحوظ خلال مدة تتراوح بين أربعة وخمسة أشهر.
وفي حين تتواصل الحملة، وتحديدًا في بداياتها، تداول ناشطون ووسائل إعلام تركية تسجيلات مصورة أظهرت حالات غير منضبطة للتعامل مع اللاجئين، تبعتها تصريحات للوزير نفسه، في 26 من تموز، أكد خلالها أن الدولة التركية ومنذ بدء الحملة الأخيرة، وجهت تعليمات لجميع عناصر الشرطة والقوات العسكرية، بالتضييق على المهاجرين “غير الشرعيين”.
وتعليقًا على عملية عودة اللاجئين، أكد وزير الداخلية أنها تسير بشكل طوعي وآمن وليس بالإهانة والإجبار، مبينًا أن عدد المهاجرين غير الشرعيين في تركيا بلغ نحو 4.9 مليون شخص، جميعهم عناوينهم مقيدة وواضحة لدى الدولة من دخول وإقامة وخروج، بينما وصل عدد اللاجئين السوريين تحت “الحماية المؤقتة” إلى ثلاثة ملايين و325 ألفًا و16 لاجئًا.
من جانبه، دعا الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 13 من تموز الماضي، إلى ضرورة عدم الخلط بين المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين في تركيا، مؤكدًا أن المواطنين الأتراك سيشعرون بالتغييرات الواضحة في قضية المهاجرين غير الشرعيين خلال وقت قصير.
ولا تعتبر مسألة التضييق على السوريين وليدة الأشهر الماضية في تركيا، فإلى جانب خطاب الكراهية والتمييز المتواصل منذ سنوات، وحوادث العنف التي تأتي كنتيجة واستجابة لخطاب سياسي تحريضي مناهض لوجودهم على لسان بعض الساسة المعارضين، يُمنع السوريون منذ عام 2016 من مغادرة الولايات المسجلين فيها إلى ولاية أخرى دون الحصول على إذن سفر صادر عن دائرة الهجرة التركية.
وكانت وزارة الداخلية التركية أعلنت، في شباط 2022، وضع آلية جديدة فرضت فيها قيودًا على إقامة السوريين المسجلين داخل تركيا ضمن بند “الحماية المؤقتة”، بهدف التحكم بمناطق الاكتظاظ والتركيبة السكانية لنحو 800 حي في 52 ولاية، بحيث لا تتجاوز نسبة الأجانب في الحي 25% من السكان.
ويحتاج السوريون الذين كانوا يقيمون في الولايات التي ضربها زلزال “6 من شباط” وخرجوا إلى ولايات أخرى إلى إذن سفر من دائرة الهجرة التركية، مدته ثلاثة أشهر، لكن الموافقة تُمنح لأصحاب المنازل المصنفة ضمن خانة “المتضررة بشدة”، مع الإبقاء على شرط تقييم ضرر المنازل، بعد استئناف “الهجرة التركية” منح إذن السفر للمرة الثالثة في 28 من تموز، منذ حدوث الزلزال.
اللاجئون.. “ضيوف” على الطاولة التركية
عرّفت رئاسة الهجرة التركية قانون “الحماية المؤقتة” الذي يعيش بموجبه السوريون في تركيا، على أنه شكل من أشكال “الحماية”، طورته تركيا لإيجاد حلول فورية في حالات التدفق الجماعي للاجئين.
اسم القانون يُظهر أنه يرتكز بشكل أساسي على حماية اللاجئين المقيمين في البلاد، وقوننة حياتهم، إذ يحمل بنودًا تصب في هذا الاتجاه، أبرزها “عدم الإعادة القسرية”، وهو البند الأبرز الذي يُخرق بشكل متكرر منذ أكثر من عام.
ومع مرور أكثر من عشر سنوات على إقامة السوريين في تركيا بموجب “الحماية المؤقتة”، لا يزال القانون غير واضح، وتشوبه عديد من الخروقات التي يصنفها المدافعون عنه على أنها “أخطاء فردية”.
“الحماية المؤقتة” بعيدًا عن الأوراق الحكومية
سهّلت بعض النقاط القانونية الهشة في نظام “الحماية المؤقتة” بتركيا ارتكاب أخطاء وصلت إلى الترحيل لبعض الأشخاص، رغم وجود خطر يهدد حياتهم في المكان المراد ترحيلهم إليه، بحسب عدد من الحالات التي وثقتها عنب بلدي على مدار الأشهر الماضية، منها حالة الصحفي خالد الحمصي الذي رُحّل إلى سوريا رغم تقديمه ثبوتيات حول تعرضه لمحاولات اغتيال في المنطقة المراد ترحيله إليها.
ومن بين الممارسات التي سهلتها الثغرات الموجودة في القانون، أنه يحق للموظف إلغاء الحماية عن أي لاجئ سوري، بسبب تقدير الموظف لجزئية معيّنة، دون الرجوع إلى محكمة تقضي بوجوب إلغاء الحماية أم لا.
القانوني التركي حليم يلماز، وهو بين المجموعة المشاركة في الأعمال التحضيرية لـ”قانون الأجانب والحماية الدولية” في تركيا، قال لعنب بلدي، إن قانون “الحماية المؤقتة” هو وضع يُمنح “بشكل جماعي” من قبل مجلس الوزراء أو رئيس الجمهورية في حالة الهجرة الجماعية، وفق قانون الأجانب والحماية الدولية رقم “6458” في التشريع القانوني التركي، وهو شكل من أشكال “الحماية الدولية”.
وأضاف أنه عادة ما يستمر العمل بهذا القانون لمدة قصيرة لا تتجاوز ثلاث سنوات، كونه حماية “مؤقتة” لأشخاص نزحوا إثر ظروف “استثنائية” في بلدانهم الأصلية، وبالنظر إلى وصف “استثنائي” فهذا يعني انتهاءه خلال مدة وجيزة يمكن حصرها بستة أشهر مثلًا، أو بضع سنوات على أكثر تقدير، بحسب يلماز.
القانوني التركي قال، إنه حتى الآن بلغت مدة سريان “الحماية المؤقتة” في تركيا عشر سنوات بالضبط بشكل قانوني، لكن من غير الواضح كم من الوقت سيمتد.
وعلى الرغم من أن الحلول الدائمة ليست مطروحة اليوم، يرى يلماز أن الحكومة التركية تعمل على توفير حل دائم للاجئين في البلاد، عبر منحهم الجنسية التركية، لكن بطبيعة الحال لا يمكن تطبيق هذا الإجراء على الجميع.
وبالنسبة لمعظم السوريين في البلاد، لا توجد حلول مطروحة لوضعهم القانوني، ويجب توفير حل لهم أيضًا، وبالطبع ليس بالضرورة أن يكون هذا الحل هو “المواطنة”، وقد يكون على شكل “الحماية الدولية” أو العودة “الطوعية” للبلاد، في حال زالت الأسباب التي أدت إلى النزوح، بحسب القانوني التركي.
|
قانون يقيس مصالح طرف واحد
اقتصرت القرارات الصادرة عن الحكومة التركية فيما يتعلق بملف اللاجئين السوريين على مراعاة الخطاب السياسي الذي يستغلهم في البلاد، دون النظر إلى مصلحة اللاجئ نفسه من هذا القرار.
السياسي السوري- التركي وعضو حزب “المستقبل” التركي المعارض خالد خوجة، قال لعنب بلدي، إن التعاطي مع القانون من طرف واحد تعود أسبابه إلى أن اللاجئ ليس له من يحميه، باعتبار أن مكاتب الأمم المتحدة في تركيا لم تعد تهتم بوضع السوريين، ويتركز نشاطها على أوضاع اللاجئين من جنسيات أخرى.
ويعتقد خوجة أن كف يد الأمم المتحدة عن ملف السوريين كان بطلب من تركيا، يعني تم نقل ملف السوريين من الأمم المتحدة إلى إدارة الهجرة، وأصبحت الأخيرة تتعاطى مع الموضوع من طرف واحد.
وأضاف خوجة أن التعامل الإجرائي يختلف تمامًا عن تعامل الورق الرسمي، إذ يمكن رصد ذلك من خلال عدة حالات، علمًا أن القانون يمنع بالتأكيد أي تصرف عنصري، أو بناء على موقف شخصي، لكن السبب في هذه الانتهاكات يكمن في أن لا مرجعية أو سلطة أعلى من الموظف الذي يقابل اللاجئين باستمرار.
وفي حال وصلت هذه الانتهاكات إلى سلطة أو مرجعية أعلى، تواجه حالة من الإنكار التام، حتى تحولت إلى “ثقافة عامة” تنص على عدم تقبل السوريين.
وفي تشرين الأول 2022، نفت رئاسة الهجرة التركية “مزاعم” منظمة “هيومن رايتس ووتش” الأممية، بشأن اعتقال واحتجاز وترحيل مئات اللاجئين السوريين إلى سوريا تعسفيًا.
وذكر بيان “الهجرة” أنه من ضمن إجراءات “العودة الطوعية”، يوقّع السوريون على استمارات “العودة طوعًا” بحضور شاهد، ويوجَّه الأجانب إلى البوابات الحدودية التي يريدون الخروج منها.
يلماز قال لعنب بلدي، إن تقييد تركيا لحركة سفر السوريين داخل البلاد مثلًا، يعتبر من الأمور المثيرة للجدل، إذ يخرق المادة “12” من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنص على حرية السفر بالنسبة للأفراد المقيمين في البلاد.
المادة “12” من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:
– لكل فرد يوجد على نحو قانوني داخل إقليم دولة ما، حق حرية التنقل فيه وحرية اختيار مكان إقامته.
– لكل فرد حرية مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده.
– لا يجوز تقييد الحقوق المذكورة أعلاه بأي قيود غير تلك التي ينص عليها القانون، وتكون ضرورية لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم، وتكون متماشية مع الحقوق الأخرى المعترف بها في هذا العهد.
– لا يجوز حرمان أحد تعسفيًا من حق الدخول إلى بلده.
القانوني التركي أشار إلى بعض الحالات التي قد تقيّد حقوق بعض الأفراد على أساس “حماية النظام العام”، وفي الوقت نفسه، يرى يلماز أن المشكلة الرئيسة في هذا الصدد ووفقًا للمادة “13” من دستور جمهورية تركيا، أنه “لا يمكن تقييد الحقوق والحريات الأساسية للأفراد إلا بموجب القانون، بغض النظر عما إذا كانوا أجانب أو لاجئين أو مهاجرين…”.
وبالنظر إلى تضارب القوانين أعلاه، فإن حظر السفر بين المدن من قبل إدارة الهجرة ووزارة الداخلية “يفتقر إلى أساس قانوني”، ما يطرح بالفعل مشكلة “خطيرة” لتيار التشريعات في تركيا، وفق يلماز.
“المشكلة الأساسية في تركيا أن الحظر والتقييد يتم عبر تعاميم وأنظمة دون سند قانوني، ما يطرح مشكلة خطيرة بالحقوق والحريات الأساسية للأفراد”.
حليم يلماز – قانوني تركي |
“فجوة قانونية”
منذ بدء وصول السوريين إلى تركيا عام 2011، اعترفت الحكومة التركية بهم كتدفق جمعي للاجئين، وليس كمجرد لاجئين أفراد، وصنفتهم كـ”ضيوف”، لكن هذا الوصف لم يتناسب مع أحكام القانون التركي أو الدولي لتسيير معاملاتهم ووجودهم.
القانوني التركي المطّلع على تفاصيل قوانين “الحماية الدولية” و”المؤقتة” في تركيا، قال إن المرحلة التي تبعت استقبال اللاجئين، تعرضت لوجود “فجوة قانونية” نسبيًا.
وفي نيسان 2013، أقرت تركيا “الحماية المؤقتة” قانونًا لإدارة ملف اللاجئين، كان حينها معقولًا لو استمرت الحالة وقتًا قصيرًا، مع منع الإعادة القسرية للاجئين من تركيا، وفق يلماز.
ومع امتداد فترة العمل بـ”الحماية المؤقتة” لأكثر من عشر سنوات، تحول السوريون إلى مادة للسياسة الداخلية التركية، وباتوا معرضين لجرائم “كراهية عنصرية”، بحسب القانوني التركي، موضحًا أن سوء الفهم والمعلومات الخاطئة تجعل السوريين هدفًا، مع عدم توفير “الحماية المؤقتة” حلًا دائمًا، كما استبعد في الوقت نفسه التوصل إلى حل أكثر جدوى على المدى القريب من “الحماية المؤقتة”.
من يدافع عن اللاجئين السوريين في تركيا؟
أمام المشكلات والمعاناة المستمرة التي يواجهها السوريون في بلدان لجوئهم، تُطرح تساؤلات حول الجهات أو المؤسسات أو المنظمات التي يفترض أن تتولى الدفاع عن حقوقهم.
وفي ظل عدم وجود موقف موحد وصريح وثابت من حالة التضييق التي يتعرض لها السوريون في تركيا، راسلت عنب بلدي رئيس “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد الرحمن مصطفى، في 2 من آب الحالي، وطرحت عليه سؤالين حول الجهات المعنية بالدفاع عن حقوق السوريين أمام عمليات ترحيل تجري خارج الأطر القانونية من تركيا، والدور المنوط بـ”الحكومة المؤقتة”، وما إذا كان هناك أي خطوات مستقبلية بهذا الصدد، لكنها لم تتلقَ ردًا حتى إعداد هذا الملف.
الموقف الأوروبي والأمريكي
في الوقت نفسه، رفض المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي، لويس ميغيل بوينو، التعليق على أوضاع السوريين في تركيا، موضحًا أن موقف الاتحاد بشأن عودة اللاجئين إلى سوريا لم يتغير.
وقال المتحدث لعنب بلدي، إن الشروط لعودة اللاجئين السوريين، على النحو الذي حددته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، غير مستوفاة حاليًا.
كما شدد على عدم دعم الاتحاد الأوروبي العودة المنظمة إلى سوريا، ما لم تكن هناك ضمانات موثوقة بأن عمليات العودة هذه طوعية وتحت رقابة المجتمع الدولي.
“في جميع مناقشات الممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد، جوزيب بوريل، مع الشركاء المعنيين، أثار مسألة العودة القسرية وتلقى تأكيدات بأن اللاجئين لن يُعادوا قسرًا إلى سوريا حتى استيفاء هذه الشروط”.
لويس ميغيل بوينو – المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي |
ورغم عدم صدور تصريح أوروبي حيال عودة اللاجئين من تركيا إلى سوريا، أجرى البرلمان الأوروبي، في 12 من تموز الماضي، تصويتًا، دعمت أغلبية الأصوات فيه إبقاء اللاجئين السوريين في لبنان، ما قوبل بردود فعل غاضبة من قبل المسؤولين اللبنانيين حينها، إذ أرسل وزير الخارجية اللبناني، عبد الله بوحبيب، رسالة إلى جوزيب بوريل، للتنديد بالقرار.
وفي 2 من آب، علّق المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر، على مشروع “العودة الطوعية” لمليون لاجئ سوري من تركيا إلى شمال غربي سوريا، وقال في إحاطة صحفية، “نشجع جميع الأطراف على التصرف بطريقة تعزز التعايش السلمي واحترام حقوق الإنسان”، مشددًا في الوقت نفسه على ضرورة أن تكون العودة إلى سوريا لأي لاجئ، طوعية وآمنة وكريمة ومستدامة ومنسقة مع المفوضية.
كما أكد ميلر عدم معارضة بلاده العودة الطوعية الفردية، مستبعدًا أن تكون الظروف الحالية تسمح بعودة على نطاق واسع، “لا نعارض العودة الطوعية الفردية، لكن الظروف في سوريا لا تسمح بعودة منظمة على نطاق واسع”.
“إشكاليات” حماية
اعتبر رئيس “الائتلاف الوطني السوري” السابق، خالد خوجة، أن مسألة حماية اللاجئين والدفاع عنهم تصطدم بإشكاليات، منها الاكتفاء الأوروبي والأممي بالدعم المالي لتركيا، لتحمل أعباء إدارة ملف اللاجئين، دون متابعة الموضوع أو الانتهاكات.
كما أن السلطات المحلية في تركيا، ورغم وجود حالات قانونية ودعاوى تُرفع بحق هذه الانتهاكات من منظمات تركية تُعنى بحقوق الإنسان، فإنها تتأخر بالبت في هذه القضايا.
إناس نجار، مديرة الاتصال في “اللجنة السورية- التركية المشتركة”، أوضحت لعنب بلدي أن القضايا والمشكلات التي يواجهها السوريون في تركيا بحاجة إلى تدخل من أكثر من جهة لحلها، فمشكلة العنصرية تتطلب التحلي بالمسؤولية الفردية والمؤسساتية والاجتماعية، كما يجب الأخذ بالمنحى القانوني ورفع دعاوى ضمن المحاكم.
وبالنسبة للترحيل، فالجهات المخولة بالتعامل مع الملف هي التي تخاطب الحكومة التركية والمسؤولين الأتراك ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات القانونية في تركيا، وفق قولها.
وحول الدور الذي تقوم به “اللجنة” حاليًا بهذا الصدد، بيّنت نجار أن هناك جمعًا للحالات التي يجب أن تخضع لتسويات قانونية لا للترحيل، كالحالات التي تكون فيها لدى اللاجئ محكمة، أو عليه “كود”، مؤكدة ضرورة تحويل هذه الحالات للمحاكم، لا الترحيل الفوري.
وقالت نجار، إنها تواصلت مع وسائل الإعلام السورية في تركيا للحصول على معلومات حول أشخاص مرحّلين رغم امتلاكهم أوراقًا قانونية، لكنها لم تصل إلى حالات من هذا النوع، معتبرة أن من يجري ترحيلهم لديهم مشكلات قانونية، لكن جرى ترحيلهم قبل عرضهم على المحكمة، ما يعني وجود سبب، “ربما هناك من يستعمل خط هاتف محمول باسم اللاجئ، أو عليه دعوى قضائية ما أو غير ذلك، ومع ذلك فالترحيل قبل العرض على المحكمة طريقة غير قانونية”، أضافت نجار.
معابر تستقبل المرحّلين.. الشمال منهك
تشهد المعابر الحدودية مع تركيا حركة عبور يومية لسوريين مرحلين قسرًا من معابر “باب الهوى” و”باب السلامة” و”تل أبيض”.
وقال مدير معبر “تل أبيض”، فايز القاطع، لعنب بلدي، إنه خلال تموز الماضي، عاد 1830 سوريًا من المعبر، بينهم 1220 من المرحّلين.
مدير المكتب الإعلامي لمعبر “باب الهوى”، مازن علوش، قال لعنب بلدي، إن شهر تموز شهد عمليات ترحيل عبر المعبر لـ1207 أشخاص، نحو 50 شخصًا منهم أُلقي القبض عليهم خلال محاولة الدخول إلى تركيا بطريقة “غير نظامية”.
وأوضح علوش أن أكثر من 1150 منهم بصموا على أوراق عودة طوعية، والقسم الأكبر منهم كان بطريقة “غير طوعية” عبر إجبارهم على توقيع ورقة العودة.
وتتحفظ بعض المعابر، ومنها “باب السلامة”، على ذكر مفردات “ترحيل” أو “إعادة قسرية”، ويُدرج المرحّلون تحت بند “العائدين طوعًا”، رغم اقتياد السلطات التركية هؤلاء الأشخاص وتسليمهم إلى سلطات المعبر.
وشملت إحصائية “العائدين طوعًا” خلال تموز 2236 شخصًا من “باب السلامة”، وقال مصدر من المعبر طلب عدم ذكر اسمه، إن أكثر من 1600 شخص منهم رُحّلوا قسرًا، لكن مع تبصيمهم على أوراق “عودة طوعية”.
خيارات ضيقة و”تهريب” محفوف بالمخاطر
في 2 من آب الحالي، وصل محمد خليل (23 عامًا) إلى إدلب عبر معبر “باب الهوى” الحدودي، برفقة نحو 25 سوريًا، 14 منهم يملكون أوراقًا ثبوتية من ولايات مختلفة، بعد تبصيمهم على أوراق “عودة طوعية”، على الرغم من أنهم لا يريدون ذلك، وفق الشاب.
وقال الشاب لعنب بلدي، إنه لا يملك خيارًا سوى محاولة العودة إلى تركيا عبر طرق “غير نظامية” تحمل أخطار الموت، من أجل العمل وإعالة عائلته المكونة من سبعة أفراد، والقاطنة في مخيم شمالي معرة مصرين بريف إدلب، لافتًا إلى أن مصدر دخل عائلته الوحيد يتراوح بين 2000 و2500 ليرة تركية يرسلها من معاشه الشهري بالعمل في مصبغة ملابس.
ويعاني شمال غربي سوريا ترديًا في الواقع المعيشي والاقتصادي ضمن منطقة تضم 4.5 مليون إنسان، 4.1 مليون منهم بحاجة إلى مساعدة، و3.3 مليون منهم يعانون انعدام الأمن الغذائي.
وتعرّض محمد العثمان (22 عامًا) من بلدة الصبحة شرقي دير الزور لعمليتي ترحيل من تركيا إلى الشمال السوري في 2022، الأولى من معبر “باب الهوى” ووصل إلى إدلب، ودخل عبر “مهرب” إلى منبج الواقعة تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ومن ثم إلى دير الزور، بمبلغ 300 دولار أمريكي، لأن “المهرب” طلب منه 3000 دولار من أجل الدخول عبر مناطق إدلب إلى تركيا.
في منطقة الجزرات غربي دير الزور، استقبل “مهربون” الشاب محمد، وأعادوه إلى تل أبيض، حيث استقبله “مهرب” آخر طلب منه مبلغ 150 دولارًا مقابل إدخاله إلى تركيا، ودفع الشاب ووصل إلى منطقة بندك في الطرف الآسيوي من اسطنبول، حيث يعمل في مغسلة للسيارات هناك، لكن عناصر الشرطة اعتقلوه بعد شهر وأعادوه إلى تل أبيض، ثم قرر العودة إلى دير الزور ووصل أيضًا عبر “مهربين”.
وصف الشاب ظروف احتجازه في توزلا لعدة أيام بأنها “سيئة ومهينة”، وحالة الطرقات وعمليات التهريب التي خاضها بـ”طرق الموت”، فحين عودته إلى دير الزور تعرض مع شبان آخرين لإطلاق نار من دورية تابعة لـ”قسد” بمنطقة صباح الخير الفاصلة بين مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري” و”قسد”، واعتُقل لمدة أربعة أيام تحت التحقيق في سجن “الكسرة” وأُطلق سراحه بعدها.
منطقة نفوذ تركي.. إدارة وتبعية
مناطق شمال غربي سوريا التي تعتبر وجهة المرحّلين، تديرها “الحكومة السورية المؤقتة” و”الائتلاف”، وفصائل “الجيش الوطني السوري” التي نفذت معها تركيا ثلاث عمليات عسكرية داخل سوريا ضد “قسد”.
تمتلك تركيا 125 موقعًا عسكريًا في المنطقة، منها 57 في أرياف حلب، و51 في مناطق إدلب، وعشرة مواقع في الرقة، وأربعة في الحسكة، وموقعان في ريف اللاذقية، وآخر في ريف حماة، وفق مركز “جسور للدراسات“.
وعلى الصعيد الخدمي، عملت السلطات التركية على إدارة الحياة الاقتصادية والخدمية في أرياف حلب عبر تشكيل مجالس محلية مرتبطة بولايات غازي عينتاب وهاتاي وكلّس، وأسهمت مع السلطات المحلية بإحداث مواقع صناعية ومشاريع خدمية، ويشرف الولاة الأتراك ونوابهم على متابعة سير الأعمال والمشاريع في المنطقة.
كما يتخذ الولاة القرارات الاستراتيجية من مشاريع ومستشفيات وقضاء وتجارة وصناعة واتفاقيات، مع ترك هامش القرارات الخدمية الداخلية للمجالس المحلية.
وتسيطر “هيئة تحرير الشام” على إدلب، المحافظة الحدودية مع تركيا، دون صدامات ملموسة أو معلَنة بين الطرفين مع توزع نقاط عسكرية تركية في المنطقة.
وتعد تركيا ضامنًا لوقف إطلاق النار في مفاوضات “أستانة” (الضامنون تركيا وروسيا وإيران)، وطرفًا في اتفاق “موسكو” الموقّع في آذار 2020 بين تركيا وروسيا، والذي نص على وقف إطلاق النار على طول خط المواجهة بين النظام والمعارضة شمالي سوريا.
القصف لا يتوقف
حالة عدم الاستقرار الأمني وكثرة الانتهاكات والاقتتال تسجل حضورها شمال غربي سوريا، مع اشتباكات قرب خطوط التماس المختلفة، وتتعرّض أرياف حلب ورأس العين وتل أبيض لعمليات قصف مصدرها مناطق سيطرة النظام و”قسد”، وتجري عمليات تسلل متبادلة، بينما تشهد إدلب وأريافها قصفًا شبه يومي من النظام تتخلله غارات روسية بوتيرة متقطعة.
وفي أحدث إحصائية وصلت من “الدفاع المدني السوري” إلى عنب بلدي، استجابت فرقه لـ390 هجومًا منذ بداية العام الحالي حتى 25 من تموز الماضي، شنتها قوات النظام وروسيا، وأخرى من مناطق سيطرة مشتركة لقوات النظام و”قسد”، وهجمات بطائرات مسيّرة وتفجيرات.
أدت هذه الهجمات إلى مقتل 42 شخصًا، كما أُصيب على إثرها 176 شخصًا، ووثّق “الدفاع المدني“، خلال 2022، مقتل 165 شخصًا، وخلال عام 2021، مقتل 225 شخصًا.
ما مسؤولية تركيا؟
الحضور التركي في المنطقة لم ينفِ حالة العداء وعدم الانسجام والتنافس الفصائلي بين “الجيش الوطني” و”تحرير الشام” التي تسعى لتوسعة نفوذها في ريف حلب، إذ سيّرت أرتالها العسكرية مرتين نحو عفرين ودخلتها ثم انسحبت.
وهناك أيضًا تنافس بين فصائل “الجيش الوطني” التي يُتهم بعضها بارتكاب انتهاكات تغيب عنها المحاسبة، كقضية اغتيال ناشط إعلامي في مدينة الباب بريف حلب، ومحاكمة القيادي “أبو عمشة” التي لم تطبّق.
فاضل خانجي، مساعد باحث في مركز “عمران للدراسات”، قال لعنب بلدي، إن التنافس الفصائلي هو إحدى السمات التي كانت موجودة على مدار سنوات الصراع، وليس سمة خاصة بمناطق سيطرة “الجيش الوطني”، معتبرًا أن زيادة الكفاءة الأمنية والاستقرار الأمني في هذه المناطق يتطلب تطوير آليات لاحتكار العنف من قبل جهة مركزية، وتطوير آليات رقابة فاعلة بذات الوقت.
ويرى خانجي أنه رغم وجود عديد من الإشكاليات الإدارية والخدمية، فإن الواقع الصحي والتعليمي في ريفي حلب الشرقي والشمالي وتل أبيض ورأس العين يعتبر أفضل بالمقارنة مع مناطق النفوذ الأخرى، وأفضل مما كان عليه قبل سنوات، لا سيما مع افتتاح جامعات ومستشفيات تركية في المنطقة، حسب قوله.
“من الصعب تطوير بنية مؤسساتية متطورة على المدى القصير شمالي سوريا، كون النموذج الحوكمي المحلي حديث النشأة، والمنطقة جزء من خارطة نفوذ مجمدة يرتبط ثباتها بتفاهمات الفاعلين الإقليميين والدوليين”.
فاضل خانجي – مساعد باحث في مركز “عمران للدراسات” |
واعتبر ضابط في قوات “الشرطة” بمدينة الباب (طلب عدم ذكر اسمه)، أن المسؤول المباشر عن ضبط الأمن في المنطقة هو السلطات التركية، لافتًا إلى أنها لا تمنح سوى صلاحيات قليلة لعناصر وقوى الأمن لضبط الانتهاكات والتجاوزات.
الباحث والخبير في شؤون الحوكمة الدكتور باسم حتاحت، أوضح لعنب بلدي أن للمؤسسات الرسمية التركية دورًا بارزًا في الإشراف على إنفاذ الحوكمة (نظم قوانين ولوائح)، وليس على إنفاذ فصيل، لافتًا إلى أن المشكلة فيما يحدث هو إشراف دون تعاون، وأن الأصل أن يكون هناك إشراف بالتعاون، أي “استراتيجية منهجية مشتركة”.
ولفت حتاحت إلى مجموعة نقاط تحدد الدور التركي في الشمال السوري، وهي طول الحدود التركية مع سوريا، ما جعلها بوابة أمام اللاجئين السوريين، وعدم بعدها القانوني أيضًا عن القضية، وحقها في حماية حدودها بعمق خمسة كيلومترات، واتخاذ التدابير اللازمة إذا تعرض أمنها القومي للخطر، وفق معاهدة “أضنة” عام 1998.
وعند الحديث عن حماية الحدود ووجود نفوذ “قانوني”، فإنه يحق لتركيا، وفق حتاحت، المساعدة مع السلطات المحلية أو الإشراف معها على تنظيم المنطقة ضمن قواعد أساسية، هي تنظيم الحدود، وإدارة المنطقة في الداخل عبر إدارة مؤسسات تقوم عليها المنطقة (حكومة مؤقتة، مجالس محلية، محاكم قضائية، مؤسسات)، وإشراف على العملية التجارية والاقتصادية.
كما أوضح أن الداخل السوري لديه مشكلة أساسية هي أن مؤسسات الدولة السابقة (كانت تحت سيطرة النظام) لم تبقَ تابعة إلى نظام حاكم، وأصبحت تتبع لـ”الإشراف التركي”، وهذه التبعية غير واضحة المعالم، لأن من يدير المنطقة مجموعة كبيرة من الفصائل، وكل منطقة تخضع لفصيل معيّن يضغط ويفرض رؤيته على المنطقة من الناحية الإدارية والقضائية والاجتماعية باختلاف توجهه، لافتًا إلى أن هذه الفصائل لا تقوم على إدارة الدولة ضمن “البرامج (برامج البنية التحتية والعمل الإداري والبرامج الاقتصادية) والاحتياجات”.
“الدولة التركية لا تستخدم نفوذها الإداري في شمال غربي سوريا، بل على سلطات الأمر الواقع (فصائل ومجالس محلية)، وتركيا إلى الآن تدير المنطقة ليس بالأطر الإدارية المنهجية لأي دولة أو إقليم أو أي مساحة سلطة أمر واقع، إنما تعطي القدرة للفصائل على الوجود وحوكمة المنطقة”.
باسم حتاحت – باحث وخبير في شؤون الحوكمة |
من أجل أن تكون مناطق شمال غربي سوريا “معيارية منطقة آمنة”، فهي تحتاج، وفق باسم حتاحت، إلى مؤسسات دولة ذات حوكمة رشيدة لهذه المؤسسات من وزارات ومجالس محلية وبلديات تدير عمليات الخدمات والإدارات المحلية من سكن وزواج وطلاق ووفيات، وكل هذه الإدارات عبارة عن مناهج حوكمية تحتاج إلى نظم قوانين ولوائح تستند إليها، وهذه اللوائح تحتاج إلى منفّذ وقضاء يحميها.
وأوضح حتاحت أن دور تركيا يتجلى بإعادة تأهيل سلطات الأمر الواقع، وحوكمة مؤسسات هذه السلطات، والاعتماد على برامج أمنية وقضائية واجتماعية وسياسية واقتصادية، وبرامج رقابية لهذه المؤسسات تشرف على الأداء، أو كوادر المؤسسات أو على البرامج نفسها التي قد تكون غير صحيحة.
وفي حال استطاعت الدولة التركية إعادة حوكمة المنطقة، يمكن التعامل مع ملف اللاجئين بإطارين أساسيين، هما ضرورة إعادة صياغة قانون الحماية الإنسانية التركي، وأن يتوافق مع قانون الحماية الإنساني الدولي.
الإطار الثاني، هو بعد أن يكون هناك حوكمة، وعلى إثر إعادة صياغة مفهوم وحوكمة قانون الحماية الإنسانية التركي، يمكن اتخاذ قرارات في عملية عودة اللاجئين وإعادة المخالف الذي لم يحصل على بطاقة “الحماية المؤقتة”، ومن أراد أن يعود بعد أن تحوكم المنطقة (قضاء وقانون وشرطة ومؤسسات ومناهج معترف بها) تتاح له العودة.
“يجب تضافر الجهود بين مؤسسات المجتمع المدني في الشمال (نقابات، مجالس محلية، اتحادات، مؤسسات مجتمعية) مع الإدارة القانونية التركية النافذة، ومع القانون الدولي الإنساني وبرامج الاتحاد الأوروبي، وإنشاء منصة انطلاق إعادة تأهيل وحوكمة الشمال، وتكوين أرضية قادرة على إدارة المنطقة ضمن نظام الحوكمة الرشيدة للبنى التحتية لأي دولة”.
باسم حتاحت – باحث وخبير في شؤون الحوكمة |
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :