إبراهيم العلوش
الانقلاب العسكري الذي حصل في النيجر قبل أيام، أعاد إلى الأضواء تراجع النفوذ الأوروبي، بعد أن استولى الروس على سوريا، وحطمت إيران دولة لبنان وتدخلت في سوريا، لتجعل الوعود التي ساقها سفراء الاتحاد الأوروبي للمتظاهرين السوريين في 2011 مجرد خدعة مأساوية النتائج.
انقلاب النيجر يعد الرابع في غرب إفريقيا، التي كانت خاضعة للنفوذ الأوروبي والفرنسي خاصة، وهذه الانقلابات في جزء منها ترحيب بالنفوذ الروسي وعصابات “فاغنر”، وفي جزء آخر استمرار للاحتجاج على النفوذ الغربي الذي كرس الدول الإفريقية كمنطقة نفوذ ومصدر للمواد الأولية، قبل أن يصل النفوذ الصيني والروسي ويهدد الوجود الفرنسي والأوروبي هناك، الذي كان يعيش على تشجيع الدكتاتوريات.
تآكل النفوذ الغربي كان أكثر وضوحًا في سوريا ولبنان والعراق نسبيًا، وبمقارنة بسيطة نجد أن عدد القوات الفرنسية في سوريا مثلًا لا يمكن مقارنته بعدد القوات الإيرانية بعد أن كانت سوريا دولة فرانكفونية، والأمر أكثر وضوحًا في النفوذ الإيراني بلبنان بالمقارنة مع النفوذ الفرنسي الذي صار يعتمد في مفاوضاته على “حزب الله” والإيرانيين، ليتوسط في إصلاحات بسيطة مثل محاكمة المتسببين بانفجار مرفأ “بيروت” المأساوي.
لم تعد فرنسا الأم الحنون للبنان، رغم كل النيات الحسنة، فإيران صارت الأب المطاع في كل صغيرة وكبيرة، وصار “حزب الله” الإيراني عنوان التفاوض السياسي، وصاحب قرار الحرب والسلم، وصاحب النفوذ الاقتصادي، وحامل السلاح في كل شوارع لبنان وليس فقط في الضاحية الجنوبية، وحَمَلة المسدسات انطلقوا في “موتوسيكلاتهم” لقمع المحتجين على قادة الطوائف 2019 الذين كانوا ينادون بإقصائهم (كلن يعني كلن!).
ومثلما خسرت فرنسا لبنان وسوريا لمصلحة إيران وروسيا، فإنها اليوم تخسر النيجر، وتخسر هيبتها الإفريقية التي امتدت عقودًا طويلة، ولم تنتج غير النقمة والإفلاس السياسي مثل كل المناطق التي تدخّل فيها الأوروبيون بعد مرحلة الاستقلال.
الانقلابات العسكرية والهيمنة الاقتصادية والقروض التي قصمت ظهر اقتصادات الدول الإفريقية، جاءت بالنتيجة الأخيرة وهي تصاعد التطرف الديني، والترحيب بنفوذ الدول التسلطية مثل الصين وروسيا.
روسيا اليوم أكثر وضوحًا في إفريقيا من فرنسا، فهي تعلن دعمها للقادة العسكريين، وتحرسهم بعصابات خارجة عن القانون كما فعلت في سوريا. والصين مثل أي دولة استبدادية لا يهمها البشر، بل كل ما يهمها هو الثروات والموارد الطبيعية والهيمنة على اقتصادات البلدان الإفريقية بسيناريو القروض الذي يشبه طرق الاستعمار الكلاسيكي في القرن الـ19.
تمتلك النيجر ثروات هائلة من اليورانيوم والذهب والموارد الطبيعية، وهي حليفة فرنسا المقربة قبل الإطاحة بالرئيس محمد بازوم، الذي كان يحكم بلادًا غنية، ولكن بلا كهرباء تكفي المدن، ولا اقتصاد يمنع الشباب من الهجرة، ولا استقرار أمني يحفظ كرامة الناس، كما قالت رئيسة الوزراء الإيطالية في رد لها على الرئيس الفرنسي ماكرون.
ظلت الدول الأوروبية صاحبة النفوذ على مستعمراتها خلال العقود السابقة، وكانت تختار لها الانقلابات العسكرية بشكل يتماشى مع مصالحها ومصالح الشركات الاستعمارية، وكان بإمكان رقيب أول أن يقوم بانقلاب بدعم من صانع الانقلابات الإفريقية، الفرنسي بوب دينار.
ولكن اليوم، ومع انقلاب النيجر وضياع لبنان وسوريا، فإن العصر الذهبي للسيطرة الأوروبية بدأ يتلاشى ويضعف بعد أن كان مطلق الهيمنة.
وهذا لا يعني أن الدول الإفريقية، أو سوريا أو لبنان أو غيرهما من الدول، قد انتقلت إلى مرحلة الاستقلال الاقتصادي أو السياسي أو احترام حقوق الإنسان، بالعكس، فإن الهيمنة الروسية والصينية ليست لديها حاسة احترام هذه الحقوق، وهي ليست من اهتماماتها، وينطبق ذلك حتى على شعوب روسيا والصين نفسها التي تعاني عبودية الطغم الحاكمة.
بالتوازي مع هذه الانقلابات وخلال تموز الماضي، تكررت التصادمات الجوية الروسية- الأمريكية فوق سوريا، وكان منها تصادم الطيران فوق الرقة والتنف ودير الزور، وقبل أيام حدث تصادم جديد.
روسيا تتعمد هذه التصادمات كتعبير عن غضبها من الفشل في أوكرانيا والدعم الغربي ضدها، ولن تتورع القيادة الروسية عن افتعال معارك مع القوات الأمريكية على الرغم من أن روسيا دخلت سوريا بتوافق مع الأمريكيين وليس ضد إرادتهم.
التراجع الغربي عن دعم الشعب السوري والنكث بالوعود التي أطلقها سفراء الاتحاد الأوروبي عام 2011، وتراجع الأساطيل الأمريكية والبريطانية والفرنسية عن معاقبة نظام الأسد بعد القصف الكيماوي على الغوطة 2012، وسخرية الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، من السوريين الثائرين على الاستبداد، وإعطاؤه الضوء الأخضر للتدخل الروسي، كل ذلك مكّن روسيا من تثبيت أقدامها في سوريا وفي المنطقة، وصارت أمرًا واقعًا في خرائط النفوذ الإقليمي، وهذا يعطيها نقطة إيجابية في معركتها الجديدة مع الغرب، بعد أن كان انتصار الشعب السوري على وشك الوقوع في بداية الثورة السورية بقليل من الدعم الغربي.
ونتيجة لتلك التصرفات الغربية التي خذلت الشعب السوري، فإن الأمريكيين مضطرون اليوم لمضاعفة قواتهم الجوية في محيط سوريا لردع الاحتكاكات الروسية غير المسؤولة، كما يقولون، إذ استقدموا طائرات من طرازات متقدمة، ردًا على التمادي الروسي في سوريا الذي يطالب بخروج القوات الأمريكية، ويعرقل قيام “ناتو” جديد ضد النفوذ الصيني والروسي في المنطقة، بعد أن امتدت المعركة مع روسيا من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، ووصلت المواجهة مع الصين من ممر تايوان إلى إيران والخليج العربي.
انقلاب النيجر مثل انهيار لبنان وسوريا يعيد خلط الأوراق بين الدول، ويعيد انتشار النفوذ الدولي، وكل ذلك لن ينعكس إيجابًا على الشعوب، سواء انتصر الغرب صانع الدكتاتوريات، أم انتصرت الصين وروسيا حاميتا الاستبداد، فقد تحولت بلداننا إلى مجرد موانٍ وموارد للنهب، وصار السوريون واللبنانيون والنيجيريون وغيرهم الكثيرون، مجرد ضحايا لمعارك الهيمنة عليهم وعلى أحلامهم بالحرية والاستقلال.