عنب بلدي – حسن إبراهيم
“تعالوا أحكيلكم ليش زعلت زوجتي، يلي حابب يعرف شو صار معنا اليوم يشارك البث”، عبارة أطلقها صانع محتوى سوري في بث مباشر عبر تطبيق “تيك توك”، ليجذب المتابعين طالبًا دعمهم ومشاركتهم للبث، مشترطًا أن يبدأ الحديث حين تصل عدد المشاهدات إلى ثلاثة آلاف.
يطل صانع المحتوى وزوجته في البث، ويتبادلان أطراف الحديث عن كيف رفض أن يشتري لها “لباس سهرة” باللون الأخضر الذي تفضّله، وإصراره على اللون الأسود، وشجارهما داخل المحل حتى تدخلت البائعة وحلّت الخلاف.
تخلل الحديث في البث أجوبة منهما عن أسئلة وتعليقات للمتابعين، منها عن سبب اختيار اللون الأسود، وسعر اللباس ومكان الشراء، ومحاولة الرجل إرضاء زوجته عبر البث مطلقًا عبارات الغزل، متغنيًا بجمال اللون الأسود على قوامها.
هذا البث واحد من “بثوث” مباشرة وتسجيلات مصورة، يطل فيها سوريون صناع محتوى ومستخدمون عاديون من الأفراد والعائلات عبر شاشات أجهزتهم الذكية يعرضون تفاصيل حياتهم اليومية، وينقلون أدق التفاصيل إلى متابعيهم، دون الاكتراث لتبعات وانعكاسات إباحة الحياة الأسرية والشخصية وجعلها مشاعًا في الفضاء الإلكتروني.
المال، الشهرة، التسلية، وغيرها من الأسباب التي تقف خلف فيديوهات تحصد آلاف المشاهدات، تدفع بصاحبها إلى تقديم المزيد كي يبقى مواكبًا لجمهوره ومتابعيه، فيطلعهم على تفاصيل أكثر من حياته، ويدخلهم عبر شاشته إلى أسراره الخاصة، ويمنحهم حرية الغوص في أعماق مساحات حريته الشخصية وسلوكه اليومي.
كاميرا تعرض ما يدور خلف الجدران
على مستوى المحتوى المطروح من بعض العائلات، تتجول الكاميرا في غرف المنزل والمطبخ والحمّام والحديقة والمسبح، وترافقهم حتى خارج أسوار البيت، فيديوهات كثيرة تسجلها الكاميرات وتبثها، يحتوي بعضها على “مقالب” منها لاكتشاف حب الزوجة، وغيرتها، ولهفة زوجها حين مرضها، ومدى طلبه للطلاق حين نشوب المشكلة، والعكس.
بعض التسجيلات تتضمن إقحام أشخاص من العائلة كالأطفال والأمهات والأخوات، والتعريف بهم للمتابعين، وحتى إدخالهم في أجواء بعض هذه التسجيلات و”البثوث”، مانحين للمتابعين إجابات عن أسئلة متعلقة بهؤلاء الأشخاص وحتى نشر حساباتهم على مواقع التواصل.
تسجيلات أخرى تحمل بعض “الإباحية” حتى ولو بشكل غير مباشر، كتسليط الكاميرا على أجزاء من جسد الزوجة، فترصدها أعين كل من يشاهدها، وتظهر هذه “الإباحية” في “البثوث” المباشرة أيضًا بقدر ما يتيح التطبيق وما يتضمنه من معايير أمن وسلامة.
على مستوى الأفراد من مستخدمين عاديين أو معروفين، تكثر مشاركة التفاصيل على “البثوث” المباشرة التي باتت تُنشر كتسجيلات منفصلة بعد البث، ويكون الحديث فيها إما لصاحب البث وحده وإما مع ضيفه، إذ تتيح بعض التطبيقات استضافة شخص وبعضها ثلاثة.
تشهد “البثوث” تحديات بين الأشخاص بعد خوض “جولة” يدعم فيها المتابعون أصحاب البث، والفائز يجبر الخاسر على تنفيذ أحكام بعضها ينتهك الخصوصية أو يحمل “الإهانة”.
الجمهور “صديق”
عيسى، طالب جامعي يقيم في اللاذقية، ينشط على تطبيق “بيجو” وينشئ بثًا مباشرًا بشكل يومي لمدة ثلاث ساعات من 12 ليلًا حتى الثالثة فجرًا، يشارك متابعيه في البث يومياته وتحركاته وعلاقته بصديقته ريم، التي باتت قريبة من أن تكون خطيبته بشكل رسمي.
قال الشاب (22 عامًا) لعنب بلدي، إنه لا يرى أي مشكلة في مشاركة “بعض تفاصيل حياته” عبر التطبيق، معتبرًا أن علاقته بالمتابعين تجاوزت حدود الواقع الافتراضي، فمعظمهم يتابعه منذ بدأ النشاط على “بيجو” قبل سنة، ومشاركة سلوكه وممارساته لهم كمشاركتها لأصدقائه في الواقع.
ويرى عيسى أن إبعاد المتابعين عن تفاصيل حياة صاحب البث أو تكتم الأخير عليها أمر منفّر لجمهوره، فهم يستمعون إلى شخص يرغبون بمعرفة مكانه وعمله وعائلته وحالته الاجتماعية وخلفيته الدينية والثقافية والسياسية حتى، خاصة في “بثوث” الدردشة وبشكل أقل من “بثوث” صناع المحتوى.
أما لمى، وهي فتاة تقيم في اللاذقية، تنشط عبر تطبيق “بيجو”، فقالت لعنب بلدي، إن معرفة المتابعين بعض المعلومات كالإقامة والعمر والعمل والأهل وكيفية إمضاء اليوم أمر لا ضير فيه، طالما أنه لا يصل إلى الخصوصيات “العميقة”، حسب قولها.
وذكرت الشابة أن عائلتها لا تمانع أبدًا ظهورها ضمن هذه “البثوث”، وهم يتقبلون الفكرة، مشيرة إلى أن والدها وأمها يشاهدانها في أغلب الأوقات، وهم على اطلاع بما تتكلم.
فادي، المقيم في مخيم شمالي إدلب، هو الآخر يطل في “بثوث” عبر “تيك توك”، اعتبر أن ما يقدمه من معلومات للمتابعين عن حالته المعيشية أمر طبيعي، فـ”الواقع في الشمال السوري واضح للجميع ولا يحتاج إلى مشاركة أصلًا”، لافتًا إلى أن الجميع يعرف حالته المتردية، ولا يشارك معلومات سوى عن وضع عائلته “الفقيرة” المكوّنة من أربعة أشخاص، وقلة فرص العمل أمامه.
ثمانية أسباب لمشاركة الخصوصية
قال عيسى، إنه ثبت التطبيق وبدأ “البثوث” من أجل الربح المادي بداية، وبعد متابعته من عشرات الأشخاص وجد في البث تسلية ومرحًا، لافتًا إلى أنه يتلقى من هذه “البثوث” نحو 600 ألف ليرة سورية (نحو 45 دولارًا)، ويزيد المبلغ بحسب الدعم.
لمى اعتبرت أن جني أكثر من مليون ونصف مليون ليرة (نحو 112 دولارًا) شهريًا من بثوثها أمر لا ترفضه أي فتاة في سوريا هذه الأيام، مضيفة أن المبلغ يعادل راتب والدها عشر مرات، وأنه سبب كافٍ لاستمرارها ومشاركة متابعيها بعض التفاصيل.
أما فادي المقيم في الشمال، فقال إن الحاجة إلى المال كانت السبب وراء “بثوثه”، إذ يجني من البث حوالي 80 دولارًا أمريكيًا شهريًا (نحو 2150 ليرة تركية)، بالإضافة إلى إرسال بعض المتابعين مبالغ عبر مكاتب كـ”مساعدة”، وهي مبالغ يتطلب تأمينها العمل بالإنشاءات لعدة أشهر وبشكل مستمر دون انقطاع.
الباحثة في علم الإعلام الاجتماعي ليلاس دخل الله، قالت لعنب بلدي، إن هناك عدة أسباب ممكنة تدفع الأشخاص لعرض خصوصيتهم أو تفاصيل حياتهم على الآخرين، ولخصتها في ثمانية، أولها الفراغ الأسري، فقد يلجأ كثيرون إلى “السوشال ميديا” هروبًا من التحديات الأسرية باحثين عن البديل من وراء الشاشة.
السبب الثاني هو الفراغ العاطفي، وفق دخل الله، فنتيجة برود العلاقات الأسرية والعلاقات الاجتماعية بشكل عام، يلجأ الإنسان إلى البحث عن مصادر أخرى للاهتمام والعاطفة، وقد يحصل عليها من خلال مشاركة تفاصيل حياته مع الآخرين وتفاعلهم معه.
واعتبرت دخل الله أن السبب الثالث هو اعتبار “السوشال ميديا” وسيلة للحصول على مورد مادي، والرابع هو للحصول على مزيد من التفاعل والشهرة، لا سيما أن سياسة “السوشال ميديا” تتطلب النشر المستمر لرفع عدد المتابعين، فيبدأ الإنسان بمشاركة كل شيء وأي مادة ليستمر التفاعل على حسابه.
وخامس سبب هو التسلية، والسادس هو الضغوط المجتمعية، فقبل “السوشال ميديا” كانت المجتمعات تعاني ضغطًا يمنعها من التعبير عن مشاعرها وأفكارها، لذلك اقتحمت مواقع التواصل حياة الإنسان دون توعية قوية بكيفية استخدامها، وهذا أدى طبعًا إلى سوء الاستخدام في بعض من الأحيان، وفق دخل الله.
وترى الباحثة أن الحاجة إلى التواصل الاجتماعي سبب سابع، خاصة بعد ارتفاع نسبة الهجرة، فأصبح الإنسان بعيدًا عن مجتمعه وأهله، وأصبحت “السوشال ميديا” الوسيلة المتوفرة للتواصل عند معظم الناس لمشاركة أفراحهم وأحزانهم.
السبب الثامن هو التأثير على الآخرين، إذ توجد فئة من الناس تستخدم “السوشال ميديا” بهدف نشر أفكار معيّنة بغض النظر عن تأثيرها سلبيًا أو إيجابيًا، وفق دخل الله.
آثار سلبية على الفرد والمجتمع
لا يخفى على من يشاهد “البثوث” والتسجيلات عبر مختلف المنصات، استخدام عبارات مسيئة للرد على بعض التعليقات، منها عبارات “إباحية” بشكل مباشر أو “ملغوم”، أو عرض بعض “البثوث” لمشاهد تحمل “الإغراء والإباحية”.
أوضح عيسى أن بعض الأشخاص يمارسون بعض السلوكيات “غير الأخلاقية” من أجل كسب الدعم، كعرض جزء من ساق الفتاة وقدمها وطلبها الدعم مقابل التوجه إلى التواصل بشكل خاص مع من يدعم أكثر، وهو مثال طرحه الشاب، ويشابهه الكثير، وهذا الأمر جعل النظرة نحو “البثوث” سلبية.
الباحثة ليلاس دخل الله قالت، إن مشاركة الإنسان أحداثًا معيّنة من حياته تلعب دورًا بتعزيز التواصل والارتباط الاجتماعي خاصة بحالة البعد ووجود المسافات، وقد تكون أحيانًا إيجابية وتتيح للإنسان فرصة التعلم من تجارب الآخرين.
وترى دخل الله أن هذه المشاركة تحمل بكل تأكيد وجهًا سلبيًا على الفرد والمجتمع، خصوصًا عند عدم وجود منهجية واضحة باستخدام “السوشال ميديا”، وغياب الوعي بكيفية التعامل في هذا العالم.
أبرز السلبيات بحسب دخل الله هي فقدان الخصوصية والأمان على الصعيد الشخصي والعائلي، فـ”السوشال ميديا” تأخذ الإنسان من واقعه ويعيش أحيانًا بتصورات مثالية تؤثر على استقراره في بيته.
وتُعرّض مشاركة الخصوصية صاحبها لأخطار، كاستغلال المعلومات الشخصية والتنمر والتحرش والمقارنة مع الآخرين التي تتبعها آثار نفسية سيئة، فالناس متفاوتون والظروف مختلفة ولكل إنسان إمكانياته، وفق دخل الله.
وتخلق هذه المشاركة توترًا وبرودًا في الحياة العائلية نتيجة ارتفاع سقف التوقعات مثلًا، والمقارنة الشديدة بين الواقع والافتراض، كما أن حالات الانتحار ارتفعت بشكل ملحوظ نتيجة الاستخدام السلبي المفرط لمواقع التواصل.
واعتبرت دخل الله أن مشاركة الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم “مؤثرين” تجاربهم الشخصية، السلبية منها أو الإيجابية، بشكل غير مدروس يؤثر على تفكير الآخرين، كانتشار حالات الخيانة الزوجية والانفصال، وهناك من تعلّم من أخطائه وآخرون اعتبروها دافعًا للانفصال، فالناس تتأثر أحيانًا “دون وعي”، وفق الباحثة.
ولفتت دخل الله إلى ضرورة أن يتحلى الإنسان بالوعي بكيفية استخدام “السوشال ميديا”، كتحديد الوقت والجوانب التي يمكن مشاركتها، ووضع خطوط عريضة تحميه داخل هذا العالم الافتراضي، وأن يضع لنفسه معايير أخلاقية إنسانية ومجتمعية حقيقية.
وترى دخل الله أن الأخلاق الإنسانية والمجتمعية لا تختلف بين “السوشال ميديا” والواقع، إنما فقط تظهر على حقيقتها، لافتة إلى أن الرقابة على “السوشال ميديا” محدودة، والإنسان هو الرقيب الوحيد على نفسه كيف يتأثر بالناس وكيف يؤثر بالآخرين.