لمى قنوت
توطدت عسكرة المجتمع السوري عبر عقود من الاشتغال الحثيث خلال حقبة الأسد الأب، ووصلت إلى مستويات خطيرة خلال عملية التهيج المنهجي التي قام بها النظام ضد أصحاب الرأي المناهض له بعد العام 2011، فمع الحث على التسليح، وتقديس مهمة العسكر، تم توطيد ذكورة معسكرة عدوانية، منفلته من أي ضوابط، بعيدة عن المحاسبة، مؤمنة بالإخضاع كوسيلة لاكتساب مزيد من السلطة والحفاظ عليها. تستند النزعة العسكرية إلى استراتيجية ترويع الخصم، واستخدام كل أشكال العنف، ومن ضمنه العنف الجنسي والأسري، ويتحول العنف إلى سلوك يومي اعتيادي مبرر في جميع مناحي الحياة.
مع تجذر العسكرة وطغيان لغة التهديد في الخطاب والسلوك اليومي، تتعدد مخاطر انفجار العنف، التي يمكن أن يغذيها النظام طالما أنها تلهي الناس عن التمرد على سلطته والتذمر جراء الغلاء وغياب الخدمات الرئيسة، خاصة أنها متضافرة مع الانسداد السياسي وتعنّت النظام تجاه التغيير والانتقال السياسي، وتعدد الاحتلالات، وعدم إطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات وكشف مصير المغيبين والمغيبات قسرًا، والانتشار الكثيف للسلاح غير المنضبط، والعقوبات الدولية، والتدهور الاقتصادي، وفقدان السيادة الوطنية، وتغول الفساد، وغياب العدالة والمساءلة، ووصول نسبة 90% من الشعب تحت خط الفقر، والارتفاع المتسارع لسعر صرف الليرة السورية أمام العملة الأجنبية، وفرض الإتاوات على المنشآت التجارية والصناعية، وغيرها من المخاطر.
ازدادت في الآونة الأخيرة أعداد المتذمرين في مناطق سيطرة النظام، من منهجية تعاطي المسؤولين في مؤسسات الدولة مع معاناة المواطنين. لا يعد المسؤولون بأي حلول تخفف من هذه المعاناة، بل أصبح الخطاب الرسمي يلوم الشعب على مطالبة “الحكومة” باستمرار تقديم الدعم، كما قال رئيس الوزراء، حسين عرنوس، في كلمته بمجلس الشعب خلال دورته الاستثنائية في 24 من تموز الحالي، رغم أنه سبق وأعيدت هيكلة الدعم الحكومي في العام الماضي، واستُبعد منه 596 ألفًا و628 عائلة. كما لام عرنوس المطالبة باستمرار تقديم الدعم العام لقطاعات الصحة والتعليم والتربية والكهرباء والمياه والنقل الجماعي، متذرعًا بأن “اقتصاد الدولة لا يُدار بالعواطف والرغبات وإنما على أسس من العقلانية والموضوعية والواقعية”، مبشرًا بضرورة “اتخاذ قرارات جريئة ومسؤولة وعقلانية تضمن توفير مقومات الحفاظ على القرار الوطني الحر والمستقل”.
يسوق عرنوس في كلمته أسباب ارتفاع أسعار السلع على المواطنين، لكنه لا يشير إلى السياسات الاقتصادية غير المدروسة التي كانت وراء هذا الغلاء، والتي تسبب بها الفريق الاقتصادي واللجنة الفنية (المعروفة باسم لجنة المنصة) ومؤسسات أخرى، فـ”طول فترة إيداع الليرات السورية حتى يتم تسليم الموردين القطع الأجنبي المقابل”، أدى إلى أن يدفع الموردون مرتين ليسددوا قيمة التوريدات، الأمر الذي يتسبب برفع تكاليفها، بالإضافة إلى “فرض أعباء إضافية على المموَّلين من المنصة من خلال إلزامهم بدفع فوارق سعر الصرف بين لحظة تسليم الأموال بالعملة المحلية (أو بالقطع الأجنبي)، ولحظة إعادة تمويله بالقطع الأجنبي المطلوب للتوريدات، وهذا ما يحمّل التوريدات أيضًا أعباء إضافية تنعكس بمجملها على المستهلك النهائي”، كما أن صعوبات التخليص الجمركي للبضائع وتراكم الحاويات في المرافئ السورية تكبد المورِّدين أعباء إضافية، تنعكس على المستهلكين في نهاية المطاف.
لا يقتصر ارتفاع أسعار السلع على ما ذكره عرنوس فحسب، بل إن الإتاوات التي تفرضها “الفرقة الرابعة” على حواجز العبور لنقليات المعامل والتجار، وابتزاز بعض الصناعيين عبر تقارير أمنية ملفقة أو كيدية أدت إلى توقيف بعضهم، والإتاوات التي يفرضها المكتب السري التابع للقصر الجمهوري، والانقطاع المستمر للكهرباء، جعلت العمل الصناعي والتجاري البعيد عن دوائر نفوذ النظام أو واجهاته التجارية الحالية محفوفًا بالمخاطر، وأدت إلى إغلاق عديد من المنشآت أو نقلها إلى دول أخرى، وبالتالي ازدياد نسبة البطالة.
في ظل الوضع الاقتصادي المرشح لمزيد من التدهور، وازدياد أعداد المتذمرين من الموالاة أو ممن كانوا موالاة للأسد، فإن هذه التحولات تستدعي تنظيمًا مدنيًا- سياسيًا يعمل على بناء وتنظيم المقاومة المدنية والمبادرات القاعدية واللجان الأهلية لتحافظ على التوافق الأهلي، وتنشئ روابط مجتمعية وتضع هياكل لتلبية احتياجات الناس وفق المساعدة المتبادلة، التي تعزز روابط التضامن والثقة وتمنع الانزلاق إلى العنف مجددًا.