وجهان لمأساة واحدة
إبراهيم العلوش
الهجوم الصاخب على اللاجئين السوريين من قبل بعض المتطرفين اللبنانيين والأردنيين والأتراك يشكّل الصورة المعكوسة للصمت القاتل، الذي يلف قضية المعتقلين السوريين وتتجاهلهم الأجهزة الدعائية والمنصات الدبلوماسية بشكل يثير الاستغراب.
في مقابلة مع موقع “DW” الألماني حول اللاجئين السوريين، تهجم صحفي لبناني على اللاجئين السوريين منكرًا عليهم حق العودة الاختيارية بشكل يحفظ كرامتهم، وقدم حس التوازن الطائفي على الجانب الإنساني، متجاهلًا أن الميليشيات اللبنانية كانت طرفًا في هذا التهجير القسري، منذ “غزوة القصير” التي قادها “حزب الله”، إلى مؤتمرات حلف الأقليات التي قادها الرئيس اللبناني، ميشال عون، وقادة دينيون بارزون، وشجعت نظام الأسد على البطش بالسوريين بحجة أنهم إرهابيون ومعظمهم وافدون على المنطقة “الفينيقية” مع “الغزو” العربي والإسلامي للمنطقة، واعتبرت أن هذه فرصة تاريخية لقمع هذا التطرف المزعوم الذي تمثله أغلبية الشعب السوري.
وهم يتجاهلون معاناة الشعب المنكوب بنظام نازي يتظاهر بالطهارة التامة، ويتمسك بالإنكار والبراءة من كل الجنون والتدمير الذي جعل سوريا جحيمًا لا يمكن العيش فيه.
وأنا أشاهد المقابلة مع هذا الصحفي المتحمس لإعادة السوريين إلى جحيم معتقلات النظام، تخيلته يرمي اللاجئين وهو يوشك على تسليم الشبان الفارين من الملاحقة ومن الخدمة العسكرية بحجة أن سوريا صارت آمنة.
وللأمانة كان الصحفي الأردني في هذه المقابلة أكثر اتزانًا، ونقاشه مبني بمسؤولية، وتحليله يحمل كثيرًا من المنطق في مقابل التهجم المجاني من قبل الصحفي اللبناني المتحمس ضد اللاجئين.
نجح نظام الأسد في بناء جيوب واسعة بالمجتمع اللبناني لا تزال موالية له رغم كل الجرائم التي ارتكبها بحق اللبنانيين ودولتهم، وكان دور غازي كنعان ورستم غزالة وعبد الحليم خدام وجحافل المخبرين والمنافقين من خلفهم ناجحًا، وحوّل لبنان إلى دولة شبيهة بدولة الأسد، وهي تجري اليوم بموازاة سوريا نحو الخراب الذي يدفع عجلته “حزب الله” وإيران وأنصارهم من الأطياف السياسية التي تدّعي الممانعة، أو التي تحوّل بعضها من اليسار التقدمي إلى الطائفية السياسية.
في نفس الوقت، استخدمت روسيا حق “الفيتو” في مجلس الأمن ضد تمديد آلية مساعدة اللاجئين في الشمال السوري، مصرّة على إعادتهم إلى سجون النظام السوري، الذي رحّلهم بالباصات الخضراء، وإخضاعهم لإرادة النظام الذي جوّعهم عبر حصارات طويلة، وبدعم معلَن من القوات الروسية والإيرانية.
تتاجر روسيا بقرارات الأمم المتحدة، وتمنع التمديد للمساعدات الدولية لتكسب تنازلًا من الغرب في أوكرانيا، وتتاجر بتهجير السوريين من أجل الضغط على الغرب وإذكاء موجات اليمين المتطرف المعادي للمهاجرين، وبنفس السويّة، فإنها تمنع التصرف في ملف المعتقلين السياسيين السوريين، وتعتبرهم ورقة ضغط فعالة ضد المجتمع الدولي الذي يطالب بالإفراج عنهم كشرط مسبق للتفاوض مع نظام الأسد.
لا يقل عدد المعتقلين السوريين والمختفين قسرًا لدى نظام الأسد عن مئتي ألف إنسان يعانون بصمت، ويُدفنون في قبور الزنازين وبإشراف روسي وإيراني في إحدى أكبر جرائم القرن ضد حقوق الإنسان، إذ تعاني مئتا ألف عائلة على الأقل اختفاء ذويها في تلك السجون. وإذا حسبنا الأقارب والأصدقاء والجيران لذوي المعتقلين، فإننا نصل إلى ملايين السوريين الذين يعانون هذه الكارثة الإنسانية التي تتوازى أعدادها مع أعداد ملايين النازحين واللاجئين ممن دمّر حياتهم نظام الأسد.
روسيا وإيران لا يهمهما الجانب الإنساني في مأساة السوريين المعتقلين أو النازحين والمهجرين، فالرئيس الروسي بوتين محال إلى محكمة العدل الدولية بسبب ممارساته في أوكرانيا، وحكومة إيران ارتكبت الأهوال بحق شعبها، وآخر تلك الجرائم ما نشرته قناة “BBC” العربية قبل أيام عن شهادات معتقلات إيرانيات يتم تعريتهن أمام كاميرات المراقبة، والاستهزاء من أجسادهن بحجة عدم ادعاء التعذيب ضدهن.
كل ما يهم الدولتين المستعمرتين هو الاستيلاء على مزيد من القواعد العسكرية، والثروات الاقتصادية، والمواني، وتحويل نظام الأسد إلى خادم لدى سيدين يلتزم بتفويضهما في كل صغيرة وكبيرة تخص السوريين.
لا يقبل نظام الأسد بمناقشة أي من الملفين الإنسانيين، سواء ملف الاعتقال أو ملف التهجير والنزوح، ويصرّ على عملية الإنكار والبراءة من كل ما حدث من تخريب، ويضعه في أحسن الحالات على عاتق الشعب غير المتجانس، الذي أغضب المخابرات والجيش “العقائدي”، وأجبرهما على تدمير البلاد ورهنها لقوى استعمارية “صديقة”.
الصخب والعنف الكلامي الذي يضخه كثيرون من أمثال الصحفي اللبناني في مقابلة “DW”، يلف حياة اللاجئين ويطلق عنان التطرف والعنصرية ضد اللاجئ الذي يبحث عن مساحة صغيرة من الأرض يعيش عليها، وعن أفق ضيق من السماء يستطيع النظر إليه بحرية دون أن يشاهد التلفزة و”الميديا” العنصرية، وقبل أن يتحول جاره أو صاحب العمل الذي يبتزه إلى وريث لخيمته أو لأثاث ملجئه المتهالك.
ومثل حالة تجاهل المعتقلين ومعاناتهم، فإن أمثال هذا الصحفي لا يهتمون بمعاناة اللاجئ كإنسان، بعدما تم تهجيره من بيته، ومن بلده، وصار بعيدًا عن حارته وأرضه ولهجته ولغته وعمله، وعن المستقبل الذي كان يحلم به في بلاده التي انتفض فيها في سبيل مساحة صغيرة من الحرية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :