خطيب بدلة
عاش الموسيقار الكبير عاصي الرحباني (1923- 1986) 63 عامًا، تمكن خلالها، مع أخيه منصور، ورفيقة دربه فيروز، ومبدعين آخرين، من بناء صرح غنائي، موسيقي، شعري، كبير.
المتتبع لتجربة الأخوين الرحباني، لا شك، سيذهل من حساسيتهما للشعر، يبحثان عنه في نتاج الشعراء المعاصرين، أو في بطون الكتب القديمة، أو حتى عند شخصية لا تحمل صفة “شاعر”، مثل الأمير فخر الدين المعني الثاني، الذي حكم لبنان من سنة 1590 إلى 1635، وكتب ذات مرة قصيدة تغزل فيها ببلدته “بْعَقْلِين” واصفًا إياها بـ”قمر مشغرة، بدر وادي التيم”. المدهش في هذه القصيدة وصفُ فخر الدين البلدةَ بأن جبهتها عالية، ومُيَزَّرَة بالغيم.
نَوَّعَ عاصي ومنصور على فكرة الائتزار بالغيم، في سكتش “سهرة حب” إذ كتبا: تبقى بلدنا بالحَمَام مسيَّجي، ويضحك عَ هالعَلوات غيم بنفسجي. من المثير “أن سهرة حب” من أكثر قصائد الأخوين ازدحامًا بالصور الشعرية، ففيها يُشَبّهان “الهوى” بإنسان يرى الفتيات قد عشقن، فيتحرك جيئة وذهابًا: يصير الهوى عَ بوابُن يروح ويجي، ويريان البلادَ تضحك “بهاك المدى”، والليلَ يتواطأ مع وديع الصافي بطريقة لم يسبق لها مثيل في شعر فصيح أو محكي: يقلّي أنا راح عَتِّمْ الدنيا عليك، تَـ لعندهم توصلْ وما يشوفك حدا.
في عالم عاصي ومنصور تتخذ الصورة الشعرية وضعية التناغم بين حركة البشر وتجليات الطبيعة، فبينما يحكي الشاب لحبيبته، ويحكي، ويحكي، تنمو الزنابق بجوارهما، ولو استمر بالكلام أكثر لغمرهما الورد، ولا يدري أحد إن كان الرحبانيان قد اقتبسا هذا التناغم في الصورة عن نزار القباني، أم أن نزار اقتبس منهما تلك الصورة حين قال: والله لو بحتُ بأي حرفٍ، تكدَّسَ الليلك في الدروبِ، أو لعل نزار اقتبس قولَهما: بآخر هاك البستان في مَمْرَق، بيجيب ع بالي البكي، أم أنهم، جميعًا، اقتبسوا من سعيد عقل صورته: دقيتْ، طل الورد ع الشباك.
ليس بالضرورة، عمومًا، أن يزدحم الشعر بالصور، ولكن الرحبانيين ألزما نفسيهما بذلك، فهما اللذان زَيَّنَا الريح، وجعلا عصفور الجناين يعمل مراسلًا بين الحبيب وحبيبته، ويكون، كذلك، مستشارًا للمرأة إذ ينصحها قائلًا: كل ليلة عشية، قنديلك ضَوّيه، قوي الضو شوية، وارجعي وطيه، بيعرفها علامة.
ويبدو أن الشعراء الذين دخلوا عالم الأخوين الرحباني يشتركون معهما في الولع بالصورة، فعند سعيد عقل تبوح النجوم بأسرارها عندما تغني يارا، والرياح تدوزن أوتارها، ويتخيل ميشال طراد الليلَ قماشًا يمزقه صوت المنجيرة، وفي مكان آخر تبكي المنجيرة مع الراعي، وتبادله الهمس، ويقف القلب على الدرب كأنه ناطور، ويرى صرخات تموج في الوادي وقد تجمع حولها الضباب.
بعد وفاة عاصي، 1986، لم يتوقف المشروع الرحباني، فقد شكلت فيروز مع الشاعر جوزيف حرب، والموسيقار الكبير فيلمون وهبي، ثلاثيًا مدهشًا، فغنت فيروز، وقتئذ، الأغاني التي لم تكن امتدادًا لنهج عاصي وحسب، بل تعهد الثلاثي بإيصال هذه التجربة إلى الذرى التي كان يريدها، فكانت أغنيات أسامينا، بليل وشتي، ياقونة شعبية، لما ع الباب منتودع، وسوارة العروس، قممًا شاهقة.