عنب بلدي – ريم حمود
لا يُجبر اللاجئون السوريون في المدن التركية على تعلم لغة البلاد كما هي الحال في الدول الأوروبية، إذ يمكن رؤية عائلة تقيم في مدينة اسطنبول مثلًا منذ خمس سنوات، لا يجيد أفرادها سوى بضع مفردات تركية لا أكثر.
وبينما اعتبر عائق اللغة بين المجتمع اللاجئ والمجتمع المضيف سببًا يؤثر على مراحل الاندماج، تظهر عوائق أخرى بين أفراد العائلة نفسها، مع انخراط الأطفال بالمدارس التركية، وتعلم اللغة من محيطهم، ما يتسبب بفجوة في التواصل مع عائلاتهم التي لا تتقن لغة البلاد.
وبالنسبة لطفل ولد في تركيا، أو دخلها بعمر مبكر، فإن اللغة العربية لا تعتبر جزءًا من هويته، إذ تصبح التركية لغة تواصله مع محيطه في المدرسة والشارع، بحسب ما قاله خبراء وباحثون لعنب بلدي.
للمحيط “الدور الأكبر”
يفضّل الأطفال من اللاجئين السوريين في تركيا استخدام اللغة التركية بدل العربية، إثر تداولها لساعات طويلة، بدءًا من زملاء صفوفهم الدراسية إلى أصدقاء الحي في أثناء اللعب.
ورصدت عنب بلدي حالات عديدة لعائلات تعاني استخدام أطفالها اللغة التركية بشكل أساسي، بدلًا من العربية، ما يشكّل عائقًا أمام التواصل بين العائلة والطفل، لاختلاف اللغات.
وتواجه خديجة الأصفر، وهي أم لخمسة أطفال، هذه المشكلة، وبحسب ما قالته لعنب بلدي، فإن الأجواء المدرسية والأصدقاء كان لهما التأثير الأساسي على توجه أطفالها نحو لغة البلاد، خصوصًا أن القرية التي تسكنها في ضواحي ولاية بورصة التركية لا يقيم كثير من السوريين فيها، ما دفع الأطفال للاندماج في المجتمع التركي بشكل كامل.
خديجة تحدثت عما وصفته بـ”خطورة نسيان أطفالها اللغة العربية”، نظرًا إلى كون ابنها أحمد البالغ من العمر 17 عامًا، درس في سوريا حتى الصف الثالث الابتدائي، ولكنه لا يستطيع التواصل أو الكتابة أو القراءة بالعربية، ويستخدم التركية بشكل تام.
أشارت الأم إلى أن أطفالها يواجهون مصاعب في التواصل مع أقاربهم في سوريا بسبب بطئهم الشديد في الكلام، وصعوبة تواصلهم باللغة الأم.
ميل نحو لغة البلد المضيف
الدكتور المتخصص بالعلاج الأسري عمر النمر، قال لعنب بلدي، إن المقيمين في بلدان اللجوء من السوريين يعانون ميول أطفالهم نحو لغة البلد المضيف، خصوصًا أنهم يتعلمونها في المدارس، كما هي الحال في تركيا.
وأرجع النمر جذور المشكلة إلى استخدام الأطفال اللغة الأجنبية لفترات طويلة قد تصل إلى عشر ساعات، وهي أكثر من استخدامهم اللغة العربية عمليًا، وأشار إلى أنها كافية لترسيخ اللغة الأجنبية في ذهنهم.
من جهتها، قالت المستشارة التربوية أروى علوش، إن السبب الأساسي لخسارة الأطفال اللغة العربية، هو قلة المتحدثين بها حولهم، مقارنة بعدد مستخدمي اللغة التركية.
وأضافت لعنب بلدي أن قلة عدد الأطفال في المنزل لها دور في نسيان اللغة الأم، خصوصًا إذا لم تلاحظ العائلة اعتماد طفلها على التركية أكثر من العربية، وسينعكس ذلك على زيادة الكلمات التركية لديه.
منال الأحمد اتجهت من جانبها لدفع ابنتها نحو الاختلاط مع الجيران والأصدقاء الأتراك، في محاولة منها لتعليم ابنتها اللغة التركية بشكل أسرع، منذ قدومهم إلى تركيا.
وذكرت منال لعنب بلدي، أن ابنتها بدأت بتعلم اللغة التركية إلى جانب العربية في سن الرابعة، لكن العائلة، نظرًا إلى الانشغال بالعمل، لم تلحظ أن طفلتها شهد تستخدم التركية كأنها اللغة الأم، حتى أتقنتها بشكل كامل.
الدكتور عمر النمر قال في هذا الصدد، إن من أهم العوامل التي تؤدي إلى نسيان اللغة الأم في سن الطفولة، هو المجتمع المحيط، بدءًا من المدرسة إلى الأصدقاء.
وأضاف أن عدم استغلال العائلة الساعات المتبقية من اليوم للحديث مع أطفالهم والتفرغ لهم، يعتبر عاملًا سلبيًا في هذا الشأن.
ونشرت جمعية “مساعدة وتضامن اللاجئين وطالبي اللجوء” تقريرًا تضمّن إحصائية للطلاب السوريين في تركيا، منهم 938 ألفًا و138 يواصلون تعليمهم في المدارس التركية، بينما انقطع 432 ألفًا و956 طفلًا عن الذهاب إلى المدرسة، وهم محرومون من حقهم في التعليم، بحسب بيان سابق لوزارة التعليم الوطني في تركيا، لعام 2021.
ما الآثار؟
ينظر بعض الناس إلى اللغة على أنها أكثر من مجرد وسيلة تواصل، ويعتبرها آخرون جزءًا مهمًا يرسمون عبرها هويتهم الثقافية وانتماءهم إلى المجتمع بالشكل الصحيح، ولاستعمال الأجنبية كلغة أم آثار جانبية بعيدة المدى ومشكلات اجتماعية كثيرة، بحسب الدكتورة أروى علوش.
وعدم تمكن الأبوين من توجيه الأطفال لاستخدام اللغة العربية، وشرح أهميتها بالنسبة للعائلة، قد يؤثر سلبًا على نمط العلاقة بين الطفل وأسرته من النواحي النفسية والعاطفية.
منال الأحمد ترى أن استعمال ابنتها شهد اللغة التركية بشكل كامل، أدى إلى تدهور العلاقة معها، إذ تواجه الأم صعوبة في تعلم اللغة التركية واستخدامها، ما جعلها تُجبر على التسجيل في معهد لتعلم التركية، بغية إعادة بناء العلاقة الصحيحة مع ابنتها.
أما خديجة الأصفر فتواجه صعوبة كبيرة بإعادة بناء ثقافة المجتمع السوري لدى أبنائها، خصوصًا أنهم يشعرون بالانتماء لتركيا، ولا يفكرون حتى بالعودة إلى سوريا.
خديجة نقلت خلال حديثها لعنب بلدي جملة قالها ابنها أحمد، “لن أعود إلى سوريا أبدًا، كيف سأعود وأنا لا أستطيع تكلم اللغة العربية”.
وحول التبعات، قال الدكتور عمر النمر، إن فقدان اللغة الأم له آثار بعيدة المدى، ويبعد الطفل عن هوية مجتمعه الأم، متأثرًا بثقافة البلد الذي يقيم فيه، خصوصًا أنه يدرس تاريخ هذا البلد، ما يشعره بانتمائه بشكل لا شعوري.
اقرأ أيضًا: “تنمّر” و“كيملك” وفقر.. ثلث الأطفال السوريين خارج مدارس تركيا
معالجة فقدان اللغة
تلجأ عديد من العائلات لأساليب توعوية لمعالجة مشكلة غياب العربية، ويختلف التعامل بحسب رؤية العائلة لأثر فقدان الطفل لغته الأم، ووجود بيئة مناسبة تقوم بدور أساسي في رغبته بتعلم اللغة أو رفضه للفكرة، بحسب الدكتورة أروى علوش.
غياب الدافع والرغبة لدى الطفل بتعلم اللغة العربية، باعتبارها “غير مفيدة” بالنسبة له في محيطه، يجعله يرفض تعلمها، بحسب خديجة، فأطفالها يرون أن لا فائدة من تعلم العربية في حياتهم اليومية، وهم يستطيعون التواصل مع والدتهم التي أُجبرت على تعلم التركية لهذا الغرض، على الرغم من قلة المفردات لديها إلى اليوم.
وصفت المستشارة التربوية أروى علوش، مشكلة فقدان اللغة الأم بأنها “ليست سهلة”، لكن التعامل معها وتفاديها يختلف من عائلة إلى أخرى، حسب نظرتهم إلى أهميتها وتأثيرها على الطفل على المدى البعيد، وأشارت إلى أن التعبير عن الذات باللغة الأم أمر أساسي لدى الطفل.
خديجة حاولت منع تواصل أطفالها بالتركية في المنزل دون جدوى، خصوصًا أن أطفالها لا يملكون مفردات كافية لتكوين جملة واضحة بالعربية، بحسب ما قالته لعنب بلدي.
وأشارت إلى استمرارها في المحاولة وشرح الكلمات التركية بالعربية، بهدف زيادة مخزون مفردات الأخيرة لديهم.
ومن أهم الأساليب لمعالجة المشكلة، محاولة خلق بيئة من المجتمع العربي حول الطفل، لتعزيز المفردات العربية لديه، وفتح أحاديث مطولة وحوارات معه، بحسب علوش.
وتهدف الإجراءات التي ذكرتها الخبيرة إلى تجنب “انغلاق الطفل على ذاته”، وخلق أنشطة تدعم تطوير مهارات اللغة الأم عنده، إلى جانب مساعدته على تعلم اللغة عبر دورات تعليمية.
وينصح دكتور العلاج الأسري عمر النمر، العائلات المقيمة في تركيا، بتدريب أطفالهم بدءًا من سن الثالثة على المفردات العربية بلفظها السليم، بالإضافة إلى إلحاقهم بحلقات تعلم القرآن الكريم، لتعزيز المفردات وترسيخها في ذهن الطفل، لتكوين اللغة قبل الالتحاق بالمدارس، وبدء الاختلاط في المجتمع التركي.
الأهل هم المسؤولون في الدرجة الأولى عن تكوين اللغة الأم لدى الطفل بصورتها الصحيحة لا الركيكة، عبر اتباع أنشطة مختلفة تشجع الطفل على حبها والرغبة في اكتشافها أكثر، بحسب النمر.
وقال وزير الداخلية التركي السابق، سليمان صويلو، في 10 من حزيران 2022، إن “أكثر من 700 ألف طفل من السوريين ولدوا في هذا البلد”، بحسب ما نقلته صحيفة “حرييت” التركية.
ولفت صويلو إلى أن الحكومة التركية ستطرح عقلية تمكّن الأطفال المولودين في هذه الجغرافيا من الاتحاد مع جغرافيتهم الخاصة.
ويبلغ إجمالي عدد اللاجئين السوريين في تركيا حوالي 3.5 مليون لاجئ، وكان يقيم ما يقارب نحو مليون و750 ألف شخص منهم في مدن الجنوب التركي التي وقع فيها الزلزال مؤخرًا.