فرنسا المتعددة
إبراهيم العلوش
يفشل اليمين العنصري في قبول فرنسا المتعددة، وتتعثر أجيال المهاجرين بالضواحي في القفز على المعوقات التي تدمجهم في الثقافة الفرنسية المتعددة.
الأحداث الجارية في فرنسا منذ 27 من حزيران الماضي، أشعلت حريقًا في المدن والضواحي، بعد مقتل الشاب ناهل في ضواحي باريس، على يد شرطي مرور بشكل تعسفي وظالم، وانتقل الاحتجاج من الشكل السلمي إلى الشكل الذي تفضّله عصابات المخدرات وباعة الحشيش وأصحاب الاتجاهات المتطرفة، الذين أججوا العنف وتدمير المنشآت العامة، بما فيها الحافلات وعربات “الترام”، والبنوك والمباني العامة التي تخدم الناس.
حُرقت حوالي 5000 سيارة ومئات المباني، ومُنع النقل العام بعد التاسعة مساء، وبعدها أوقف اعتبارًا من الساعة الواحدة ظهرًا في بعض المدن، ما أثار شعورًا بالرعب لدى الناس حتى في نفوس المتعاطفين مع الاحتجاجات، الذين لم يهدفوا إلى التخريب والتدمير الذي انغمست فيه مجموعات من المراهقين بتحريض من وسائل التواصل الاجتماعي، وصار تأثير بعضها لا يقل عن تأثير المخدرات والإدمان الكحولي.
أُنشئت الضواحي الباريسية بعد الحرب العالمية الثانية، وسكنها المهاجرون الذين استُقدموا من المستعمرات الفرنسية في الدول المغاربية وإفريقيا السوداء، وقبلها بُني جامع “باريس الكبير” تكريمًا للمقاتلين المسلمين الذي دافعوا عن فرنسا في الحرب.
ولكن هذه الضواحي التي يسكنها أبناء المقاتلين المدافعين عن فرنسا والمهاجرين العمال، تعرضت للعزل وللتجاهل الاجتماعي والثقافي، وتحولت بشكل تدريجي إلى “غيتوهات” خارجة عن السياق الفرنسي في التطور والتنوع الثقافي الذي كانت تفتخر به باريس، وخاصة الاتجاهات اليسارية السائدة منذ تحرير فرنسا من الاحتلال النازي.
وتوافق هذا العزل مع أفكار أنصار الفكر الاستعماري من اليمين المتطرف الذين ينظرون بتكبر زائد إلى العمال والمهاجرين الفقراء المنتمين إلى أعراق غير أوروبية، ما جعل العنصريين يستهدفونهم بسبب لون بشرتهم. وقد تورط نائب جمهوري قبل أيام بتصريحات تصف أبناء الجيل الثالث والرابع من المهاجرين بأنهم فرنسيون على الورق فقط، وهم يرتدّون مع هذه الأحداث إلى أعراقهم “الهمجية”!
أوقف الضابط الذي أطلق النار على ناهل ذي الأصول الجزائرية، وندد الرئيس إيمانويل ماكرون بمقتل الشاب، وقال إنه غير مبرر أبدًا. وأعلن النائب العام في ضاحية نانتير، التي جرت فيها جريمة القتل، استمرار توقيف الضابط والتحقيق معه، وقد أوردت صحيفة “لوموند” الفرنسية تقارير جنائية تدين الضابط ومن معه من الذين تسببوا بمقتل الشاب، وتحدثت عن آثار الفوضى بالضواحي في أنحاء فرنسا، التي حشدت أكثر من 45000 شرطي إضافي واتخذت إجراءات تلامس حالة الطوارئ العامة.
ندد اليمين المتطرف وزعيمته ماري لوبان بافتراض الإدانة للضابط، ودعا أحد أنصار زيمور إلى حملة تبرعات لعائلة القاتل جمعت حتى الآن أكثر من مليون ونصف المليون يورو، بقيادة اقتصادي يميني ذي أصول مصرية. بينما لم تجمع حملة مناصرة أم القتيل ناهل أكثر من بضع مئات من الآلاف، ما يبيّن الاختلاف الكبير في القوى التي تساند الأفكار والمبادئ المعلَنة.
الصحافة الأوروبية شنت حملات لوم كثيرة على فرنسا وعلى تقاعسها في حل مشكلات الضواحي رغم أن كل رؤساء الدولة، منذ بومبيدو، أعلنوا عن خططهم لحل موضوع الضواحي ولكن بلا جدوى، حتى إن إيمانويل ماكرون ألغى إحدى أقوى الخطط في مطلع رئاسته الأولى مستكثرًا تكاليفها، وقال عنها الخبراء، إنها أحدى أكثر الخطط تكاملًا من حيث تأمين فرص العمل والتعامل مع سكان الضواحي ودمجهم في المجتمع، خاصة أنهم صاروا منذ عقود سكانًا فرنسيين، ولم يعودوا يتقنون لغات بلدانهم الأصلية، وكثير منهم لا يعرفها إلا كسائح عابر إن تمكّن من القدرة على زيارتها.
الصحف البريطانية وصفت شعارات الحرية والمساواة والأخوّة بأنها لا تنطبق على سكان الضواحي ولا على أصحاب البشرة الملونة الفقراء، وقال صحفي سويسري، إن الشرطة الفرنسية تعطي الأولوية لحماية الدولة وليس لحماية المواطنين، وقال صحفي آخر، إن في فرنسا خطين متوازيين لا يلتقيان ولا يتناقشان، واحد يقول إن الشرطة مثالية، والآخر يقول إن شبان الضواحي ملائكة، ولا يتم عقد أي تفاهمات بين الطرفين. وهذا ما قد نراه في تصريحات اليمين الذي يعتبر أن الشرطة تحمي الجمهورية ولا يجب إدانة تصرفاتها، بينما يقول اليسار الشعبوي، إن صاحب السلطة هو من يتحمل المسؤولية، وهذه انتفاضة للفقراء والمهمشين وليست أعمال شغب كما يقول ميلانشون رئيس حزب “فرنسا الأبية”.
أعادت الصحافة الفرنسية التفكير بهذه الأحداث، واسترجعت أحداث 2005 التي هزت فرنسا، عندما لجأ ثلاثة شبان إلى غرفة تحويل كهربائي هربًا من ملاحقة الشرطة، ومات اثنان منهم بالكهرباء، ووصفهم وزير الداخلية آنذاك، نيكولا ساركوزي، بأنهم مجرد لصوص.
وهذا فجّر الضواحي الفرنسية حينها لثلاثة أسابيع قاسية، واستذكرت أحداث “الستر الصفراء” في بداية تسلّم ماكرون للحكم، بالإضافة إلى الاضطرابات الأخرى التي تسبب بها وباء “كورونا”، وأحداث الإضرابات التي خاضها عمال السكك الحديدية، وإضرابات الاحتجاج على قانون التقاعد التي لم تنتهِ إلا منذ بضعة أسابيع.
فرنسا التي تتراجع اقتصاديًا، يتراجع أيضًا التعليم فيها، وتعاني لغتها ضعف تعليمها للأجانب، على عكس ألمانيا التي تم استيعاب المهاجرين فيها، وتم تعليمهم بشكل منهجي ناجح (من اللاجئين السوريين والعراقيين والأفغان وغيرهم).
فرنسا اليوم أمام منعطف تحتاج فيه إلى مراجعة إرثها الاستعماري الذي لا يزال ينتج بعض النخب السياسية المتكبّرة والعنصرية، التي لا تحترم الخصوصية الثقافية ولا تشجع على قواعد التعدد الثقافي متذرعة بحماية الجمهورية وقدسية قوانينها، خاصة بعد تراجع اليسار الذي كان يعطي نكهة ثقافية وإنسانية واسعة الطيف في اللغة والثقافة الفرنسية، التي طالما كانت ضد الجمود ومع التجريب والتنوع الذي ملأ الآفاق بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد خروجها من محنة الاحتلال النازي.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :