لمى قنوت
تثابر بعض الحركات الاجتماعية على تطوير استراتيجيتها وآليات عملها في النظم القمعية، مثل الأنظمة الرأسمالية والاستعمارية والشمولية والاستبدادية الأبوية، في كيفية حشد الناس للمقاومة المدنية، وتحقيق التعبئة القاعدية، فتستند في بنيانها إلى التحليل الجماعي المشترك للأزمات بشكل أفقي تشاركي، والتخطيط الاستراتيجي القصير والطويل الأمد، وتؤسس نظامًا اجتماعيًا مستقلًا قائمًا على الاقتصاد الاجتماعي أو ما يُعرف بالتضامني أو الشعبي. يرتكز جزء كبير منه على المساعدة المتبادلة كبديل موازٍ لبنى مؤسساتية حكومية وغير حكومية، تعزز النظم القمعية وتعطيها الشرعية، وتصنف الأزمات وأنماط التمييز والعنصرية على أنها إخفاقات فردية لاأخلاقية، بدل ردها إلى البنى وهياكل السلطة القمعية.
يأخذ الاقتصاد الاجتماعي أشكالًا متنوعة، من التعاونيات والجمعيات والتعاضديات ومنظمات التجارة العادلة، وهو ليس ظاهرة هامشية، إذ يقدّر أن 12% من البشر ينتمون إلى واحدة من ثلاثة ملايين تعاونية في العالم، وهناك أعداد كبيرة من الجمعيات الصغيرة الموجودة في الجنوب العالمي وغير مدرجة بالإحصائيات الدولية. لا يبغي الاقتصاد الاجتماعي الربح ودعم الأسواق، بل العدالة الاجتماعية- الاقتصادية، والسعي لدولة النمو والرفاه للجميع، وخاصة للفقراء والمهمشين والمحرومين. يختلف الاقتصاد الاجتماعي عن الجمعيات الخيرية التي تركّز على المساعدة فقط، وتبقي على التسلسلات الهرمية المهيمنة، ولا تمس هياكل القمع.
تخلق ثقافة الاقتصاد الاجتماعي نمطًا يوميًا مقاومًا لما كرسته الثقافة الرأسمالية التي تعزز دوافع الأنانية والتنافسية وتعظيم الفردانية مقابل الجماعة، لأن الاقتصاد الاجتماعي قائم على التضامن وبناء الروابط والثقة بالمجتمع البديل، وتعزيز التماسك الاجتماعي، وممارسة الديمقراطية وتنمية القدرة على التنظيم المشترك ومقاومة الأزمات الحادة، ويؤسس لفكرة المقاومة الجماعية بدل الخلاص الفردي، ويحول الغضب أو اللامبالاة إلى عمل جماعي منظم. يدمج الاقتصاد الاجتماعي أو اقتصاد التضامن التحرر الاقتصادي مع التحرر السياسي، ويعزز قدرة المجتمعات على الصمود كنتاج للتنظيم والنضال.
تحفل تجارب الشعوب بأنماط الاقتصاد الاجتماعي التضامني القائم على المساعدة المتبادلة، مثل النموذج المقاوم للسكان الأصليين في المكسيك- زاباتيستا، وهي حركة ليبرتارية اشتراكية، لا سلطوية، لا مركزية، مناهضة للسياسات الرأسمالية “النيوليبرالية” التي انعكست آثارها عليهم بشكل حاد، وأطلقوا على سياسة التجزئة الحرة لأمريكا الشمالية “نافتا” أي شهادة وفاة للسكان الأصليين، لأن السلع الفائضة المستوردة أغرقت السوق المكسيكية بمنتجات غذائية ذات أسعار منخفضة عن تلك المنتجات المحلية وقضت عليها. أدى ذلك إلى نزوح الملايين من الفلاحين الفقراء من الريف المكسيكي، والعمل في معامل ضمن ظروف استغلالية مهينة، واجتاز آخرون الحدود للعمل في المواسم الزراعية. ويعتبر دخول اتفاقية التجارة الحرة حيز التنفيذ السبب المباشر لانتفاضتهم عام 1994، لكن السبب التراكمي هو العنف البنيوي القائم على العرق والطبقة والاضطهاد الاستعماري والاستغلالي الرأسمالي الذي استمر ضدهم نصف قرن.
بعد عشرة أيام من تمرد جيش زاباتيستا، وإطلاقهم سراح سجناء سياسيين، وإحراقهم سجلات التهم الملفقة ضد السكان الأصليين، وإعلانهم “قانون المرأة الثوري”، واستعادة أراضيهم التي صادرها الاستعمار وسيطر عليها الأثرياء، قاموا بالتفاوض مع الحكومة المكسيكية وتم وقف إطلاق النار. غيرت الحركة تكتيكاتها مباشرة واتجهت نحو المقاومة المدنية السلمية، ودعت مناصريها حول العالم لدعم نضالها، واستخدمت الإنترنت على نطاق واسع لمواجهة اقتصاد السوق والعنف الذي ترعاه الدولة. حللت حركة زاباتيستا الرأسمالية على أنها اضطهاد للإنسان والنبات والماء والأرض والهواء والحيوان، وركزت على العمل الجماعي والتضامن والمساعدة المتبادلة وخاصة المتعلقة بإنتاجهم وتوزيع غذائهم، وحققت السيادة الغذائية، والاستقلالية، وحافظت على الروابط الثقافية للسكان الأصليين مع الأرض والمياه. رفضت الملكية وتراكم الثروة والنزعة الاستهلاكية، وأسست نظامًا اقتصاديًا قائمًا على الأخلاق والعدالة والرفاه والخير للجميع، بما فيها الخير للتربة والمياه.
أحد أوجه الريادة في تمرد حركة زاباتيستا هو ما نادت به النساء وما نفذنه، “قانون المرأة الثوري”، فحللن فيه الروابط بين النظام الأبوي والرأسمالية ومنطقها بالسيطرة على الأرض، وأوضحن أسباب تبخيس أعمال الرعاية لأنها غير مأجورة، وطالبن بالعدالة الإنجابية.
في سوريا، أطلق الاقتصادي عمر عزيز فكرة المجالس المحلية كأداة حوكمة بعد الثورة، في أواخر عام 2011، بحيث تستقل فيها التشكيلات الاجتماعية عن السلطة، بإقامة تكوين اجتماعي مرن يقوم على “تفعيل التعاضد بين الثورة وحياة البشر اليومي” كشرط لاستمراريتها وانتصارها، وتساند الناس بإدارة حياتهم بشكل مستقل عن مؤسسات الدولة، وتدعم تعاضد الأفراد، وتوطيد الحميمية في العلاقات بين الناس، وتوفر الدعم للعائلات المنكوبة وللوافدين والوافدات إلى منطقة معينة أو الخارجين منها، كتأمين السكن الآمن، والمؤونة، والنفقات، والدفاع المباشر عن الملكيات التي تصادرها السلطة، وتشجيع الناس على مناقشة أحوالهم اليومية وأرزاقهم والعمل على حلها، وتربط أفقيًا بين المجالس المحلية، وتؤمّن تمويلًا ودعمًا للمناطق الأخرى… عبر صناديق مناطقية للثورة. توفي عزيز بسجن “عدرا” في 16 من شباط 2013 بعد أن اعتقله النظام في 20 من تشرين الأول 2012.
مع تعدد وجوه القمع في سوريا وسطوتها، وتفكك المجتمع، وعيش ما يقارب 90% من السوريين والسوريات تحت خط الفقر، وحاجة أكثر من 15 مليون شخص للمساعدة، وانكماش اقتصادي، وغيرها من الظروف الكارثية التي يعيشها الناس، علينا التفكير بتعزيز ودعم الاقتصادات الاجتماعية التضامنية المستقلة في سوريا، بدءًا من المبادرات الشعبية المتناهية الصغر في الأحياء التي يبتكرها الناس إلى مبادرات أكبر تربط الموجودين في جميع مناطق نفوذ سلطات الأمر الواقع، ومن ضمنها مناطق سيطرة النظام، علها تساعد الناس على المقاومة وتدعم تعاضدهم.