لمى قنوت
صدر عن هيئة التخطيط والتعاون الدولي في سوريا تقرير بعنوان “الاستعراض الوطني الطوعي الثاني عن أهداف التنمية المستدامة 2023″، وقُدم إلى المنتدى السياسي الرفيع المستوى المعني بالتنمية المستدامة، ونُشر على موقع الأمم المتحدة.
حوى جزء من التقرير على الرسائل الرئيسية بين الاستعراضين (الأول والثاني) من حيث السياسات والبيئة التمكينية، والتحديات المستجدة والقضايا ذات الأولوية، وحوى جزء آخر على أهم مؤشرات ومعيقات ومتطلبات تحقيق أهداف التنمية المستدامة الـ17، وهي: القضاء على الفقر، القضاء على الجوع والزراعة المستدامة، الصحة الجيدة والرفاه، التعليم الجيد والشامل، المساواة بين الجنسين، المياه النظيفة والنظافة الصحية، الطاقة المستدامة والمتاحة للجميع، النمو الاقتصادي والعمل اللائق، البنى التحتية والتصنيع المستدام، المساواة بين البلدان وداخل البلد الواحد، المدن والمجتمعات المستدامة، الإنتاج والاستهلاك المستدام، التصدي للتغيرات المناخية، حفظ المحيطات والبحار والموارد البحرية، الحياة في البر، الأمن والسلم والمؤسسات، الشراكات وحشد الموارد.
أما الجزء الأخير من التقرير فقد شمل الخطوات المقبلة على المستوى الدولي والإقليمي وعلى المستوى المحلي.
بداية، يعكس التقرير النهج السطحي الاختزالي الذي تتبعه الأمم المتحدة في تحقيق الاستدامة حين تفصلها قسرًا عن البنى السياسية- الاقتصادية الحاكمة في الدول، فمثلًا، يأتي هدف “المساواة بين الجنسين” بديلًا عن العدالة الجندرية، ويعتمد هذا النموذج “الليبرالي”، وعليه “النيوليبرالي”، على العدد الكمي لمشاركة النساء كمؤشر وحل لتحقيق المساواة، وهو بالتالي هدف معزول عن السياقات وتعدد هياكل القمع التي تحكم حيوات النساء بتنوعاتهن، ويتجاهل الأنظمة الشمولية والاستبدادية حين تعين مواليات لها، يصبحن شريكات في اضطهاد الـ99% من الشعب ويعتبرها مساواة ناجزة.
عبرت عدة مدارس نسوية، كالنسوية الاشتراكية والنسوية التقاطعية، عن سطحية هذا الطرح في مقولة “أضف النساء وحرك الطبخة” (Add women and stir) لتجاهلها هياكل القمع وتقاطعاته مع الطبقة والعمر والعرق والجندر والقدرة البدنية وغيرها من التقاطعات.
على ذات السردية الأحادية الرسمية، مرر النظام الحاكم في سوريا رسائله عبر هذا التقرير، فعزا معظم معيقات أهداف التنمية المستدامة إلى عوامل خارجية، كالاحتلال الإسرائيلي والأمريكي والتركي، والعقوبات، وقطع المساعدات الإنمائية عن سوريا، وعوامل مستجدة ناشئة مثل، زلزال 6 من شباط 2023، والآثار التي خلفها “كوفيد- 19″، ومنعكسات اضطراب الأسواق العالمية، بالإضافة إلى التغيرات المناخية وغيرها من العوامل. إلا أن التقرير يتجاهل دور النظام المحوري في إشعال النزاع العسكري وتسييس الهوية، وتدمير المدن والأعيان وتهجير سكانها، والتشكيك بمواطنية أصحاب الرأي واتهامهم بالعمالة والإرهاب، ما أسهم في تهجير وهجرة الكفاءات، إضافة إلى تفريط النظام بسيادة سوريا واستقلال قرارها، واستدعاء الروس والميليشيات لتثبيت حكمه، وغيرها من الممارسات العسكرية والأمنية التي دمرت البلد واقتصاده والبيئة.
يروّج التقرير لبرامج عمل تنفيذية تحقق الخطة الوطنية التي تبنّتها “الحكومة”، وتهدف إلى “العودة الطوعية والمستدامة للسكان المتضررين من الحرب إلى مناطق سكناهم المعتادة”، كما يذكر في الهدف الـ16 (الأمن والسلم والمؤسسات)، أن أهم معيقات تحقيق هذا الهدف، إضافة إلى المعيقات الخارجية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة المذكورة أعلاه، هو انتشار الإرهاب في أجزاء واسعة من سوريا، وخروج مناطق عن سيطرة الدولة، وانتشار المعابر غير الشرعية، وضعف الاستثمار الأجنبي الناجم عن التدابير القسرية الأحادية الجانب التي تعرقل الجهود الوطنية الرامية لخلق بيئة مواتية لعودة طوعية وآمنة وكريمة للاجئين والنازحين السوريين إلى مناطقهم الأصلية، لكن التقرير يتجاهل تمامًا صيغة الإذعان التي فرضها على بعض المواطنين والمواطنات عبر إجراءات “المصالحة” وحجبها عن مدنيين آخرين كالعاملين في مجال الصحة والإغاثة، والناشطين والمتعاطفين مع المعارضة، وأفراد أسر المقاتلين، وهو نهج لفرز السكان بناء على ولائهم للنظام الحاكم، ودور الأخير في اتفاقات بين قوات موالية له و”هيئة تحرير الشام”، وهو فصيل سلفي جهادي مصنف على لائحة الإرهاب، بمساعدة دول ثالثة، في تغيير ديموغرافي، عبر إجلاء وترحيل مدنيين وفق ما سمي بـ”اتفاق المدن الأربع”، وعمليات ترحيل طالت سكان مدن أخرى.
يتجاهل التقرير بنى القمع وإخضاع السكان واضطهادهم عبر الاعتقال التعسفي، والإخفاء القسري، وتغييب العدالة، والحصانة التي يتمتع بها مرتكبو جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من العقاب (مثل المرسومين التشريعيين رقم 14/1969- 69/2008) في عدم عودة اللاجئين واللاجئات من دول الجوار، مثل لبنان، رغم أوضاعهم السيئة (تسعة من أصل كل عشرة لاجئين سوريين يعيشون في فقر مدقع)، والخطابات العنصرية التي تدعو إلى ترحيلهم، كما يخفي التقرير حقيقة اعتقال النظام بعض اللاجئين المعادين قسرًا من لبنان إلى سوريا، ومنعهم من العبور بحجة عدم قيام جهاز الأمن العام اللبناني بالتنسيق معه قبل ترحيلهم.
يحفل التقرير بإغفالات مقصودة ومدروسة، مثل تجاهل السوريين والمناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام، وكأنه يتحدث عن “سوريا المتجانسة” التي عبر عنها الأسد في كلمته خلال افتتاح مؤتمر وزارة الخارجية والمغتربين، ولم يتحدث التقرير عن الحل السياسي وفق القرارات الأممية، بل اعتبر اعتماد دستور عام 2012 نقطة تحول على عدة أصعدة، منها مثلًا الانتقال من نموذج التنمية المستدامة المتمحور حول الدولة إلى نموذج متمحور حولها وحول القطاع الخاص و”المجتمع الأهلي”.
ختامًا، رغم الخشية من إفراغ الوطن وحقنا في العودة، فإن الخشية من تقارير كهذه هو استناد بعض الدول إليها، واعتبارها مرجعًا “لنيات حكومية طيبة” تزعم بوجود “أشرار” يسيّسون عودة اللاجئين واللاجئات فتضيق عليهم وتلغي الحماية المؤقتة لهم، كما استندت الدانمارك في عام 2022 إلى تقرير يشير إلى أن سوريا آمنة، فألغت تصاريح إقامة بعض اللاجئين، وأصبح بقاؤهم فيها غير قانوني، وما زالوا حتى الآن منسيين في مراكز الترحيل، في تعارض مع ما تعتبره مفوضية اللاجئين مكونًا أساسيًا للعودة الطوعية إلى الوطن وهو العودة بأمان وكرامة.