إدلب – عبد الكريم الثلجي
دفعت المياه الكلسية في مدينة الدانا بريف إدلب الشمالي أحمد سعيد، المهجر من جنوبي حلب، إلى استعمال المياه المعدنية “المفلترة”، بعد معاناته مع الحصيات البلورية، التي أصابته في كلتا كليتيه، ودفعته إلى إجراء أربع عمليات للتخلص منها.
قال أحمد (35 عامًا) لعنب بلدي، إنه لم يعد يستعمل المياه العادية سوى للاستحمام وتنظيف الأواني المنزلية، وبات يجلب المياه “المفلترة” بكميات كبيرة من المحال التجارية، رغم زيادة تكلفتها.
من جهته، أكد المهندس والخبير الجيولوجي ثابت الكسحة لعنب بلدي، أن معظم المياه في محافظة إدلب كلسية، وتسبب أضرارًا صحية للناس، وهو ما أسهم في انتشار المياه “المفلترة” في المنطقة، مشيرًا إلى أن مدينة الدانا التي يسكن فيها لا تكاد تشرب إلا من المياه المعدنية.
وتشهد مناطق شمال غربي سوريا إقبالًا ملحوظًا على شراء المياه المعدنية من المحال التجارية، بسبب الأضرار الصحية التي سببتها المياه الكلسية، مع انعدام التعقيم في محطات المياه أو الآبار العشوائية، الأمر الذي أسهم في انتشار محطات “الفلترة” التقليدية، التي لا تطابق المعايير والمواصفات الصحية في كثير من الأحيان.
إقبال ملحوظ على المياه “المفلترة”، في وقت تشهد فيه مدن وبلدات الباب وقباسين وبزاعة بريف حلب أزمة في تأمين مياه الشرب، وجفاف آبار جوفية تغذي المنطقة، واعتماد طرق غير صحية في تأمينها، وسط مناشدات كثيرة بإيجاد حلول قبل وقوع “الكارثة”.
“فلترة” بدائية
عبيدة حور (30 عامًا)، وهو مالك محل تجاري (سوبر ماركت) في مدينة معرة مصرين شمالي إدلب، قال لعنب بلدي، إن أغلب سكان المدينة يشربون من المياه المعدنية “المفلترة”، وإن لديه خزانًا بسعة ألف ليتر، يملؤه من قبل أحد المعامل، ويبيع كل عشرة ليترات بليرتين تركيتين ونصف، وهو سعر مقبول على حد وصفه.
وذكر مالك المحل أن آلة “الفلترة” بدائية، إذ تدخل من تركيا إلى الشمال السوري مياه “مفلترة” من شتى الأصناف وبأسماء متعددة، ويصل سعر العلبة بسعة ليتر ونصف إلى أربع ليرات.
من جانبه، قال إبراهيم حميد (45 عامًا)، وهو مالك صهريج جوال يبيع المياه في معرة مصرين، إن في المدينة بئرين، الأولى مياهها كلسية ولا تصلح للشرب، والثانية مقبولة نوعًا ما، ويستعملها الناس للطبخ وتحضير الشاي، إلا أنهم يفضّلون المياه الصحية للشرب، لأنها نقية وصحية.
“فلترة وعزل” لمياه نقية
مع ازدياد الطلب على المياه “المفلترة”، وارتفاع ثمنها، وغياب تقنيات “الفلترة” الحديثة، تعاني مناطق شمال غربي سوريا مشكلة نقص مياه الشرب النقية، وبات تأمينها يشكّل هاجسًا للسكان، تجنبًا للإصابة بداء الحصويات.
وبحسب المهندس ثابت الكسحة، فإن المياه في إدلب تنقسم إلى سهلية وجبلية، الأولى هي مياه الأراضي الزراعية التي يوجد فيها ارتفاع في النترات وبنسبة الأحجار الكلسية.
في المقابل، فإن المياه الجبلية دائمًا تكون معدنية نقية، و”التوضعات الكلسية” هي عبارة عن صخور كلسية موجودة بكل الأماكن، وعندما تتكون في المياه فإنها تؤثر على صحة الإنسان، وتسبب أمراض الكلية كـ”البحصة” (حصاة الكلية) وغيرها.
وعن إمكانية التخلص من المياه الكلسية، قال الكسحة، إن الطريقة الأكثر شيوعًا هي “الفلترة” بتقنيات حديثة غير بدائية، إضافة إلى طريقة عزل المياه السطحية عن الجوفية، مشيرًا إلى أن التلوث يكون فقط في المياه السطحية، أما الجبلية فتعتبر صحية ونقية.
وأضاف أن المياه الجوفية فيها “حبيبات كوارتزية”، وهي درجة رابعة في القساوة، وتوجد طبقة “كتيمة” عازلة بين المياه السطحية والجوفية، تمنع اختلاطهما.
ويحدث التلوث عند عملية الحفر، إذ تُثقب الطبقة “الكتيمة”، فتختلط المياه السطحية بالجوفية، فتسبب التلوث أو ارتفاع الكلس أو النترات أو النتريت والأمونيا، أو أي ملوثات ناتجة عن الأسمدة أو تحليل النفايات بالأمطار، أو عن دورات المياه والصرف الصحي.
وتُعزل المياه السطحية عن الجوفية بطريقة هندسية، من خلال “عزل بيتوني” مقاوم للكبريتات، لمنع اختلاط المياه السطحية الملوثة بالجوفية النقية، لكن حاليًا لا أحد يستخدم طريقة العزل بسبب تكلفتها العالية، رغم أنها توفر مياهًا نقية تمامًا، بحسب الخبير الكسحة.
“الباب عطشى”
تستمر مشكلة مدن وبلدات الباب وقباسين وبزاعة بشح المياه الصالحة للشرب، وسط مظاهرات ومناشدات من قبل الأهالي الذين رفعوا شعارات بعنوان “الباب عطشى”، لإيجاد حل سريع للمشكلة بشكل مستدام.
الناشط الإعلامي حسن أسمر، أحد سكان مدينة الباب، قال لعنب بلدي، إن حلول المنظمات الإنسانية والمجلس المحلي كانت مؤقتة، ولم تحل المشكلة بشكل جذري.
وبدأت أزمة المياه في الباب وما حولها منذ سيطرة النظام السوري على مواقع ومحطات ضخ مياه “عين البيضا” و”الخفسة” بريف حلب الشرقي أواخر 2016، وقطع وصول المياه عن تلك المدن.
وتعقيبًا على الأزمة التي تعانيها مدينة الباب، قال المهندس ثابت الكسحة، إن المياه السطحية باتت قليلة، والمياه الجوفية أغلبها كبريتية ولا تصلح للشرب، مشيرًا الى أن إحدى المنظمات الإنسانية العاملة في منطقة الباب قد طرحت عليه مشروعًا لحل مشكلة مياه الشرب للمدينة، عبر استجرارها من نهر “الفرات” قرب مدينة جرابلس.
وأضاف أن الدراسة التي قُدّمت للمشروع “غير مجدية” لحل المشكلة بشكل جذري، معتبرًا أن الحل الأمثل عن طريق آبار ارتشاحية أو جزر مائية أو ترشيح المياه بشكل صحيح (دريناج)، فمشروع المنظمة مكلف ولا يلبي الحاجة ولا يحل المشكلة، كما أن مياه نهر “الفرات” أيضًا بحاجة إلى عملية “فلترة”.
ويعتمد أغلب الأهالي في مناطق الشمال السوري على استهلاك المياه عبر الصهاريج، نتيجة تعطل شبكات المياه بسبب القصف الذي عانته المنطقة على مدار عقد من الزمن، وتوالي العمليات العسكرية، ما دمّر جزءًا من بنيتها التحتية، بالإضافة إلى التوسع العمراني العشوائي دون تمديد شبكات مياه تطابق المواصفات الهندسية.
ويصل سعر برميل المياه في منطقة الباب إلى 13 ليرة تركية، وكل خمسة براميل بسعة ألف ليتر يصل سعرها إلى 52 ليرة تركية، بينما في إدلب يتراوح بين 25 و40 ليرة للخزان.
وتعتبر هذه التكاليف مرهقة للأهالي، إذ تتراوح رواتب العمل بالمياومة بين 30 و60 ليرة تركية باختلاف المهنة، كالإنشاءات والزراعة وتحميل البضائع، واختلاف عدد ساعات العمل.
أمراض بولية
أدت المياه الكلسية إلى انتشار داء الحصيات البولية، بحسب الدكتور محمد عجم، وهو مختص بالأمراض البولية، إذ يعتبر أن من أهم مسببات المرض هو ارتفاع حمض البول، ونسب المثبطات والشوارد في البول.
وذكر أن أهم هذه الشوارد هي الكالسيوم ثم “الأكزالات” والفوسفات، فالكالسيوم هو العنصر الرئيس الموجود في البلورات البولية، وارتفاع نسبة الشوارد منه في الجسم عبر شرب الماء يعتبر عاملًا موجبًا جدًا لحدوث الترسبات البولية، وبالتالي تشكّل الرمل والحصى.
وقال الطبيب المختص في حديث إلى عنب بلدي، إن الملاحَظ حديثًا هو ارتفاع في نسبة تشكّل الرمل والحصى الكلوي في المنطقة، وتقدّر نسبة الذين يعانون مشكلات ترسب الكالسيوم في الكلى والجهاز البولي حوالي 20% من مراجعي العيادة البولية خلال دراسة إحصائية للمرضى خلال فترة الستة أشهر الماضية.
وعن علاج داء الحصيات الكلسية، أوضح عجم أن هناك طرقًا عديدة للتعامل مع هذه المشكلات، أبرزها العلاج المحافظ أو الدوائي، والعلاج الجراحي سواء المفتوح أو بالمناظير، وبالتفتيت من خارج الجسم (ESWL).
ومع كل صيف، تلقي أزمة نقص المياه بثقلها على السكان في الشمال السوري، خاصة النازحين القاطنين في مخيمات وسط الحر الشديد، ونقص في متطلبات النظافة والصحة العامة، حيث تؤرق هذه المشكلة الجهات المعنية والمهتمة بظروف حياة النازحين.