طريقة التعامل مع الناجين والناجيات من معتقلات النظام السوري حساسة جدًا، نظرًا لكمية التعذيب الجسدي والنفسي الذي يتعرض له المعتقل خلال فترة الاعتقال.
ويحاول الناجي في مرحلة “ما بعد المعتقل” التأقلم مع العالم الخارجي وحقيقة نجاته من العذاب الذي كان بداخله، وذلك بسبب عدم تصديقه خلاصه.
وبحسب إحصائية لتقرير نشرته “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” اليوم 2 من آب، ما زال لدى النظام السوري قرابة 135 ألفًا و253 معتقًلا ومختف قسريًا.
أثار الاعتقال
تجربة الاعتقال والتعذيب في السجون مؤلمة وصادمة للشخص الناجي، إذ لا يقتصر الاعتقال على التعذيب الجسدي فقط، بل تتأثر حالته النفسية أيضًا.
ووثقت العديد من المنظمات الحقوقية توجه النظام السوري في سجونه لاستخدام التعذيب النفسي، للضغط على المعتقل.
التعذيب النفسي: هو نوع من أنواع التعذيب الذي يعتمده النظام السوري لترك آثارٍ طويلة الأمد على حياة المعتقلين، إذ إن الأضرار النفسية قد تستمر لمدة أطول من الأضرار الجسدية، وزوالها قد يكون أصعب.
وفي حديث إلى عنب بلدي، قالت الاختصاصية النفسية آلاء الدالي، أن الناجي من التعذيب يتعرض خلال اعتقاله إلى مشاكل نفسية وجسدية كبيرة، مشيرة إلى أن مدة الاعتقال والطرق المستعملة لتعذيب الأشخاص، تعلب الدور الأكبر بخلق الأضرار لدى الناجي.
يعيش الناجي اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب التي تولد الانعزال عن المجتمع المحيط، بالتزامن مع الحزن المستمر والأحلام المزعجة التي ترافق المعتقل السابق، مما يصعب عملية عودته إلى البيئة الاجتماعية والحياة الطبيعية، بحسب ما قالت الدالي.
ووثقت العديد من المنظمات الحقوقية قصص آلاف الناجيات والناجين، من سجون النظام السوري، منذ بدء الثورة السورية، ورغم معرفة المنظمات بعذاب المعتقلات، الذي وصفته منظمة العفو الدولية بأنه “يحطم إنسانيتك“، إلا أنه ما زال يوجد آلاف المعتقلين في سجون النظام السوري.
وقال الطبيب النفسي، جلال نوفل، لعنب بلدي، أن أحد آثار الاعتقال خلق الاضطرابات لدى الناجي، مضيفًا أن الشخصيات من المؤكد أن تعيش تغييرات جذرية إثر الصدمات في المعتقل.
بينما اتفق كل من الطبيب النفسي جلال نوفل والاختصاصية النفسية آلاء الدالي، على أن تجربة الاعتقال تترك أثرًا واضحًا في شخصية الناجي قد يستمر لمدى الحياة، بالإضافة لخلق شخصية جديدة إثر الصدمات المتكررة التي يعيشها المعتقل في السجون، وعدم قدرته الخلاص منها.
ويُعرف سجن صيدنايا بـ”المسلخ البشري” و”مصنع الموت”، وغيرهما من الأسماء التي أطلقتها تقارير دولية وكررها الناجون والناجيات في محاولة لوصف الانتهاكات المرتكَبة بداخله.
ونشرت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” في اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب في 26 من حزيران الماضي، إحصائية تنص على أرقام ضحايا التعذيب في سوريا.
وأفادت الشبكة بقتل 15 ألفًا و281 شخصًا في سوريا تحت التعذيب، بينهم 198 طفلًا و113 سيدة.
وذكر التقرير نقلًا عن مدير الشبكة، فضل عبد الغني، إنه صدر ليظهر الصورة الحقيقة لوجه النظام، في حين تعيد بضع الدول العربية علاقاتها مع النظام السوري، كما أنه يوضح استمرار أبشع أساليب التعذيب بحق جميع المعتقلين، وأن إعادة العلاقات مع النظام قبل إطلاق سراحهم تعني ضوءًا أخضر لتصفيتهم، إذ بلغ عددهم قرابة 136 ألفًا بحسب الإحصائية.
مساندة “خاطئة”
تجربة الاعتقال حساسة، ويحتاج الناجي إلى مساندة واحتضان من قبل المجتمع والأهل على وجه الخصوص، ليرمم الجوانب النفسية التي دمرت خلال الفترة السابقة.
ويظن البعض أن النجاة من السجن، بمثابة الخلاص من المآسي والصدمات التي تعرض لها كل من الناجين والناجيات، في ظل عدم إدراك بعضهم عن حجم الأذية التي يخلقها السجن في داخلهم، جراء تعدد أساليب التعذيب الجسدية والنفسية.
وترى الاختصاصية النفسية، آلاء الدالي، أن المجتمع يخطئ في التعامل مع الناجي من التعذيب دون مراعاة ما تعرض له، إذ تفترض البيئة الاجتماعية أنه بمجرد انتهاء فترة الاعتقال ومرور مدة زمنية قصيرة، ومن الطبيعي عودة الناجي إلى حياته السابقة ما قبل الاعتقال، وهذا خطأ شائع في المجتمع.
وتتأثر نفسية المعتقل السابق في حال رؤيته للآخرين لا يتفهمون ما حدث خلال فترة اعتقاله المؤلمة، هذا ما يجعل نفسيته غير قابلة للتحسن بشكل واضح، إذ تدفعه هذه الضغوط للتراجع عن حديثه عن تجربته في المعتقل، بحسب ما تحدثت الدالي.
من جانبه، اعتبر جلال نوفل، أن أكثر الأخطاء الشائعة في التعامل مع الناجي من المعتقلات، عدم تقدير المجتمع هذه التجربة المؤلمة، والتعامل معها بحسب وجهة النظر الشخصية للداعم، أيا كان من العائلة أو الأصدقاء، فتختلف المعاملة بحسب اتفاقهم مع موقف الناجي أو رفضهم إياه.
كيف يُعامل الناجي؟
يطلق على كل من يخرج من المعتقلات بـ”الناجي أو الناجية”، للفت الضوء على من بقي داخل السجون، رغم صعوبة تصديق فكرة النجاة، واحتباس أفكار الناجي وهلوسته داخل غرفة الاعتقال، مع صعوبة الخروج منها، بمجرد خروج جسده.
المعاملة الصحيحة مع الناجين والناجيات، من أهم الواجبات المفروضة على ذويهم، وذلك لتخلصهم من المشاعر السلبية وفتح الطريق لعودتهم مع الأيام للحياة الطبيعة ما قبل المعتقل.
أوضحت الاختصاصية النفسية، آلاء الدالي، أن أهم المراحل لمساندة الناجين من التعذيب، إعطائهم الوقت الكافي للتخلص من القدر الأكبر من التجارب المؤلمة خلال فترة اعتقالهم والتعبير عنها حسب إرادتهم، إذ إن الناجي تحتويه العديد من المشاعر أثناء الحديث عن تجربة اعتقاله، ومنها الحزن والغضب والخوف والإحساس بالذنب، وغيرها الكثير من المشاعر التي يصعب وصفها من قبل الناجي.
وتابعت الدالي، أن المرحلة التالية تأتي من احتواء العائلة وتفهمها لهذه المرحلة المؤلمة التي نجا منها المعتقل، مؤكدة أن الضغط عليه لمعرفة ماذا حدث قد تنعكس سلبًا على نفسيته، بينما مساعدته الحقيقية تكون في توجيهه لتلقي الدعم النفسي في حال كان بحاجة إليه.
شرح ذوي ضحايا التعذيب للناجي فكرة أن المساعدة النفسية أمر طبيعي وضروري، سواء كان علاج سلوكيًا أو دوائيًا أو كليهما سويًا، أوضحت الدالي.
من وجهة نظر نوفل، لا يوجد ضوابط عامة للتعامل مع الناجي، وذلك لاختلاف المجتمعات وتنوع المواقف فيها، فالبيئة لها تأثير كبير على طبيعة التعامل مع الناجي، والبيئات المتحفظة تتعامل بطريقة أكثر قسوة عن البيئات الأخرى.
وفق ما تحدث الطبيب النفسي جلال نوفل، فإن الوقوف إلى جانب الناجين والناجيات، يبدأ من إفساح المساحة لهم بالتعبير عن أنفسهم، وعن تجربته القاسية في السجون، ومن ثم يأتي دور العائلة والأصدقاء برؤية ماذا يحتاج الناجي من مساعدة إما تهدئته أو سماع قصته أو مساعدته على التعافي عند طبيب مختص.
وأصدرت سابقًا منظمة “هيومن رايتس ووتش“ تقريرًا يسخر من قانون “تجريم التعذيب” الصادر من النظام السوري في آذار 2022، وذلك في ظل تعرّض آلاف الأشخاص للتعذيب في المعتقلات السورية، واعتبرت أن محاسبة الضالعين بالتعذيب من خلال القانون “أمرًا يصعب أخذه على محمل الجد”، وفق التقرير.