إبراهيم العلوش
بحياة قضاها في “الصلاح والتقوى” أنهى علي دوبا أيامه الأخيرة، كما يقول منشور نعيه قبل أيام، متجاوزًا حجم الجرائم التي ارتكبها في مرحلة الثمانينيات، عندما كان رمزًا من رموز التعذيب والتنكيل في سوريا.
ومثلما أفلت حافظ الأسد من المحاسبة على تحويل سوريا من وطن للسوريين جميعًا إلى مزرعة خاصة اسمها سوريا الأسد، كذلك أفلت علي دوبا من المحاسبة على جرائمه عندما كان قائدًا لـ”الأمن العسكري”، أحد أبشع الأجهزة الأمنية التي نكّلت بالسوريين طوال عقود، أبرزها عقد الثمانينيات الذي تصاعدت فيه قوى الإرهاب الطائفي.
وإثر ذلك القمع، تم تحويل حافظ الأسد إلى “نصف إله” أطلق العنان لعائلته وأقاربه ومعاونيه وقادته الأمنيين للعبث بسوريا ونهبها وتحويلها إلى مزرعة خاصة.
أبرز هؤلاء القادة كان علي دوبا، الذي أدار مملكة سرّية للتعذيب في أقبية دمشق وفي صحراء تدمر وصيدنايا وفي سجون سرّية أخرى، وقد احتفظ بعشرات آلاف المعتقلين ومن مختلف الاتجاهات السياسية من “إخوان مسلمين” و”شيوعيين” و”بعثيين”، كرهائن لإركاع السوريين وإجبارهم على العبودية لحافظ الأسد ولعائلته التي لا تزال تدمّر سوريا حتى اليوم.
ولد علي دوبا عام 1933 في قرية قرفيص باللاذقية، والتحق بالجيش عام 1955 أيام الانفتاح الديمقراطي، ولم يستفد من أجوائه ولا من الأجواء التي عاش فيها ملحقًا عسكريًا منذ العام 1964 في بريطانيا، وبعدها في بلغاريا حتى العام 1968، ليحصل على منصب قائد “الأمن العسكري” في العام 1974، ويتحول إلى إحدى الأذرع الرئيسة لهيمنة حافظ الأسد، عبر تحويل “الأمن العسكري” إلى مؤسسة ذات واجهة طائفية مشغولة بالانتقام والقتل المجاني بدلًا من الحفاظ على البلاد وحماية استقلالها وكرامة مواطنيها جميعًا.
شارك علي دوبا في إحباط تمرد رفعت الأسد على أخيه حافظ في العام 1984، وأسهم في منع تسلّمه السلطة والاكتفاء بتسميته نائبًا للرئيس مع رشوة تاريخية شملت إعطاءه كل موجودات البنك المركزي السوري، بالإضافة إلى قرض من ليبيا تقدّر قيمته بـ300 مليون دولار، ليبدأ رحلته السياحية في أوروبا التي عاد منها قبل أشهر.
بعد التخلص من تمرد رفعت الأسد، شعر علي دوبا والقادة العسكريون بأنهم أقوياء، وبإمكان أحدهم أن يكون وريثًا لحافظ الأسد الذي كان مريضًا، حيث تم ترفيع علي دوبا وتسليمه ملف لبنان، فاستولى فيه على منافذ التهريب التي تحكمت بوصول البضائع والأدوات المنزلية إلى بيوت السوريين، فلم تدخل “دستة” فناجين قهوة أو كؤوس أو جهاز تلفزيون إلا عن طريق المهربين، الذين يشرف عليهم علي دوبا، وكذلك جنى مليارات الليرات السورية حينها عندما أدار مافيات المخدرات وتهريب الحشيش التي نمت في لبنان خلال الحرب الأهلية.
ومثل حافظ الأسد الذي كرّس عائلته في الحكم، فإن علي دوبا المتسلط وحديث الثراء، هيمن على دمشق مع ابن اخته أحمد عبود، وبدأ يشعر بأنه أحق من باسل الأسد الذي أعدّه أبوه لوراثة الحكم، وتفاقمت الطموحات لدى علي دوبا بعد وفاة باسل الأسد بحادث غامض عام 1994، واستبدل به حافظ الأسد ابنه بشار الأسد مستخفًا بكل القادة العسكريين الذين بدأ بتنحيتهم، أمثال علي حيدر وعلي أصلان وشفيق فياض وإبراهيم الصافي، وغيرهم من شركاء القتل في الثمانينيات.
تأخرت تنحية علي دوبا حتى العام 1999، إذ كان لديه كثير من الأسرار والنفوذ على العوالم السرّية التي مكّنت حافظ الأسد من ترسيخ هيمنته، فأُجبر على الاعتكاف في منازله التي بناها بمختلف المدن، أبرزها قصره في ريف اللاذقية، الذي ظنه حافظ الأسد المدينة الرياضية وهو يشاهده من الجو في أثناء مرضه.
ومع اندلاع الثورة السورية، تحرّك علي دوبا ورفاقه من الحرس القديم لحماية النظام، وتم استدعاء كثير منهم كمستشارين، ولكن وبعد تفاقم الأوضاع في العام 2012، وانطلاق عمليات القتل الجماعي، رفض بشار الأسد مقابلة وفد من الحرس القديم، معتبرًا أنهم ينوون إزاحته من الحكم لعدم جدارته، وتم التعامل بقسوة معهم، حتى إن علي دوبا فقد ابنه محمد الذي توفي في السجن عام 2022 لأسباب غامضة، ولكن مثل هذه المعاملة طبيعية بين هذه النخب المتوحشة.
تضاعف القمع الذي سهر علي دوبا على تنميته وترسيخه في الأجهزة الأمنية، وتضاعفت تجارة المخدرات التي أشرف عليها في لبنان، وصار “الكبتاجون” أحد رموز “سوريا الأسد”، وتسلّمت “الفرقة الرابعة” اقتصاد التهريب الذي بدأ على يدي علي دوبا في بلدة العريضة اللبنانية، ليصبح التهريب اليوم على يدي “الفرقة” متاحًا لكل من يدفع أكثر، والتوصيل مضمون و”مرفّق” ويعبر كل الحواجز.
وبدلًا من الـ100 ألف الذين فروا أو طُردوا أيام حافظ الأسد وعلي دوبا بحجة الانتماء لـ”الإخوان المسلمين” و”البعث” العراقي والتنظيمات الشيوعية، فإن عدد المهجرين والنازحين من بيوتهم اليوم فاق العشرة ملايين، لقد تضاعف التخريب الذي كان أحد أبطاله علي دوبا!
شوهد علي دوبا لآخر مرة في العام 2021 وهو ينتخب بشار الأسد في قريته قرفيص، معلنًا ولاءه التام للرئيس الذي لم يطلق سراح ابنه إلا ميتًا!
ولم تتم مساءلة علي دوبا عن أي جريمة، أو عن أي فعل تعذيب شهده عشرات ألوف السوريين في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، ولم يتم لومه على ذلك في محكمة سورية أو دولية، وقد توفي قبل أيام تحت غطاء التظاهر بالبراءة والتقوى والصلاح، على طريقة حافظ الأسد، الذي كان دائم التكرار بأنه ابن فلاح بسيط ولا يهتم إلا بالوطن، الوطن الذي ورّثه لابنه بشار، ولعائلة مخلوف، وشاليش، وسائر اللصوص والمجرمين وقادة أجهزة التعذيب!