إبراهيم العلوش
سياسة الإنكار هي الطريق السريع لروسيا في محو آثار الوحشية العسكرية التي تعتمدها في التعامل مع الدول التي يوجد فيها جيشها وميليشياتها العسكرية.
في مقابلة مع قناة “العربية”، في 15 من حزيران الحالي، أنكرت الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، الاعتداء على أوكرانيا، الدولة الجارة والمستقلة والمعترف بها في الأمم المتحدة، وساقت مجموعة من الادعاءات الروسية المتداولة التي تقدم روسيا كمنقذ للعالم من الغرب المتآمر والشرير، وما إلى ذلك من شعارات سوفييتية معاد تصنيعها في غير زمانها.
تتهم أوكرانيا ومعظم الدول في العالم روسيا بتفجير سد “نوفا كاخوفكا” على نهر “الدنيبر” لإعاقة الهجوم الأوكراني ضمن مقاطعة خيرسون التي احتلتها روسيا، ويقع السد بأيدي الروس، ويعتبر تدميره بالمدفعية أو الصواريخ أمرًا شديد الصعوبة حسب أقوال الخبراء، الذين يرجحون طرق التفخيخ المعقدة التي تتطلب وجود القوات ضمن منطقة السد، ولم يكن في تلك المنطقة إلا القوات الروسية.
الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في اتصال له مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، اعتبر تفجير السد جريمة وفاجعة بشرية، ولكنه لا يزال يرفض تشكيل لجنة دولية لدراسة أسباب التفجير، فسياسة روسيا في الإنكار راسخة، وهي جزء من التلاعبات ومن الجرائم الخطيرة التي تقوم بها في أوكرانيا وفي سوريا وقبلها في الشيشان.
وفي المثال السوري، فإن روسيا تنكر قيامها بتفجير المدارس والمستشفيات والأسواق التجارية، وتصرّ على أنها جاءت إلى سوريا لإنقاذ الدولة السورية بقيادة بشار الأسد ضد المؤامرات الغربية، وتنكر حق السوريين في التخلص من هذا الدكتاتور الذي تربى أبوه وحاشيته كلها على أيدي الخبراء الروس طوال نصف قرن مضى.
ورغم أن الروس استولوا على قواعد عسكرية استعمارية، واستولوا على المواني والفوسفات وبعض حقول البترول والغاز، فإنهم لا يزالون مصرين على إنكار دورهم في قتل السوريين بأسلحتهم المتطورة، التي جربوها على الشعب والأراضي السورية، ولعل التدمير الشامل لأحياء حلب الشرقية سيظل أبرز جرائم روسيا التي نفذتها بطائراتها وصواريخها وحولتها إلى جحيم.
ورغم أن روسيا اعتمدت سياسة تهجير السوريين للضغط على الغرب، فإنها تنكر دورها الوحشي في اجتثاث نصف السوريين من بيوتهم ومدنهم بالتعاون مع قوات النظام والميليشيات الطائفية الإيرانية.
هذا الإنكار العاري الذي تنتهجه الدبلوماسية الروسية في كل القضايا الوحشية التي يقوم بها الجيش الروسي وميليشيات “فاغنر”، مزوّد بآلة إعلامية كبيرة منتشرة عبر القارات وفي معظم اللغات العالمية، إلى درجة أن الاتحاد الأوروبي في عجزه عن التصدي لهذه الشبكة الإعلامية، التي تضخ الأكاذيب ونظريات المؤامرة، اتخذ قرارًا بمنع بث القنوات الروسية في الاتحاد الأوروبي.
هذه الشبكة من أمثال قنوات “روسيا اليوم” الممولة من الدولة الروسية وأجهزة مخابراتها الحاكمة، اعتمدت على سمعة الاتحاد السوفييتي السابقة، التي كانت رحيمة نسبيًا بالعالم الثالث، وضمت إليها كتلة كبيرة من النخب الاشتراكية والشيوعية السابقة التي تقطعت بها السبل بعد انهيار الاتحاد.
وأثّرت الشبكات الإعلامية الروسية على بعض النخب السورية التي كان لها ماضٍ في التجربة الشيوعية والاشتراكية، مستغلة مقولات العداء للغرب الاستعماري، بالإضافة إلى استغلال النخب التقليدية والدينية عبر ترويج أن الغرب هو كتلة لا أخلاقية تدعو إلى تحويل العالم إلى الشذوذ الجنسي وتدمير العائلة. وبعض هذه النخب، وبتأثير هذا الإعلام الروسي، أصيب بهوس نظريات المؤامرة إلى درجة تثير الشفقة.
تربت أجيال من السوريين على قراءة الأدب الروسي، وأحبت دستويفسكي الذي التزم بالكتابة عن الفقراء والحائرين، وليف تولستوي صاحب الأفكار الإنسانية العميقة، وأنطون تشيخوف رفيق الإنسان البسيط في تحولاته اليومية وتجاهل العالم له، وغيرهم من الكتّاب العمالقة في القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20، أمثال ميخائيل بولغاكوف الذي ابتكر الواقعية السحرية، ومكسيم غوركي الذي مجّد الرومانسية الثورية، وهذا يدل على عظمة هذا البلد.
وفي المقابل، فإن النخب العسكرية الروسية وقادتها من أجهزة المخابرات الذين يمثّلهم بوتين ويعتنقون وقاحة الإنكار والوحشية، صاروا عبئًا على بلادهم وعلى بلدنا سوريا وعلى العالم أجمع، وهم لا يتورعون عن التهديد باستخدام القنابل النووية من أجل أن يستمروا في الحكم على أنقاض روسيا كما يصرح نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، دميتري ميدفيديف.
خلّفت الدكتاتوريات العسكرية في العصر الحديث طبقة من الحكام المنحدرين من أصل مخابراتي، لا يتورعون عن إبادة العالم من أجل أن يستمروا في مناصبهم، وهذا ما نجده في نظام الأسد الذي يدمّر سوريا، وفي نظام صدام حسين الذي ساعد على تدمير العراق، وكذلك في نظام بوتين الذي يلوّح باستخدام القنابل النووية إذا لم يتركه العالم يستولي على أوكرانيا، ولاحقًا على شرق أوروبا، وهو مستعد دائمًا للإنكار حتى لو تحولت الكرة الأرضية إلى حطام نووي، ولم يبقَ فيها إلا القادة المختبئون في الملاجئ النووية الحصينة، بالإضافة إلى العقارب والصراصير التي يؤكد العلماء أنها لا تتأثر بالأشعة النووية.