شهرستان يختصر الهوية الرياضية في البلاد

tag icon ع ع ع

عروة قنواتي

كنت أود، بل ورتبت أفكاري وأسطري الابتدائية لزاوية تخص نهائي الشامبيونزليج بين إنتر ميلان ومانشستر سيتي، وللأمانة فإن النهائي يتفوق على أخبار سوق الانتقالات وعلى تحركات ليونيل ميسي التي انتهت في إنتر ميامي بالولايات المتحدة، إلا أن صورة لرياضي سوري قديم تصدّرت الشاشات والوكالات المحلية، لتتغير وجهة القلم وتختار العنوان المحلي، على أن نعود لنهائي الحلم ولحامل اللقب الأغلى في الأسبوع المقبل.

جوزيف شهرستان اللاعب والمدرب السوري العتيق، ظهرت صورته منذ أيام، وأجاب عن أسئلة أحد الإعلاميين عن وضعه وأيامه وما وصل إليه في السنوات الماضية من مرض وعوز وحاجة للسكن بعد أن تقدم به العمر، وأن “لا معين ولا معيل إلا الله”.

لن أبالغ إن قلت إن الصورة والمشهد كان عاديًا وطبيعيًا وروتينيًا بالنسبة لي، أنا هنا لا أترفع عن قضية أو لا أحاكي المشهد بأسلوب مختلف عن عواطف الناس، معاذ الله، إذ إن قامة رياضية سورية قدمت لملاعب البلاد ولأجيالها الشيء الكثير في زمن الهواية وزمن الوفاء للقميص، أن تصل الحال بها إلى الأرصفة والطرقات الباردة، إلى استعطاف أبناء البلد لصد قهر الزمان وويلات الدهر القاسية، فهذه الصورة محزنة وتدعو لليأس وللاكتئاب.

ولكن الكابتن شهرستان يختصر بصورته وظهوره وجسده المتعب حال رياضة البلاد منذ سنوات طويلة، فلا تظهر ملامح البهرجة الخداعة، ولا ألوان الإنجازات الوهمية، ولا صور القائد العظيم وهو يوقع على قمصان لاعبين فشلوا في التأهل للمونديال. صورة شهرستان قبل أيام تحاكي صورة البلاد المعذبة المظلومة المطوية تحت إبط الفاسدين والمستبدين والمجرمين، هم نفسهم الذين تلذذوا بدماء أبناء الرياضة السورية، ومنهم جوزيف شهرستان، من أجل الفوز والوطن والقائد، ولما بقي الجسد النحيل ووصل العمر إلى صورة جوزيف شهرستان، لا بد للرصيف أن يكون المأوى والمستقر، ببرودته وحرارته، بقذارته ونظافته، يرتمي عليه جوزيف ومن سبقه ممن ماتوا تحت تأثير المرض والفقر والجوع والعوز وانعدام الاهتمام وقلة الرعاية في السلك الرياضي السوري، دون أن يعلم أحد بأنهم كانوا يتألمون ولا حياة لمن تنادي.

هذا السيناريو الذي مر به كثير من أبطال الرياضة السورية في الألعاب الجماعية والفردية منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم، ما هو إلا دليل على أن كل من ارتقى سلم المنصب والمسؤولية وأصبح الحاكم بأمره خلال 40 عامًا داخل سوريا له اليد الطولى في وصول الشعب بمختلف قطاعاته المدنية إلى هذه الصورة. فما أشبه الحالة الرثة التي ظهر بها الكابتن جوزيف بحالة مرض وتعب الكابتن محمد خير ضاهر الذي توفي قبل 15 عامًا بعد أن باع أثاث منزله ثمنًا للعلاج، وتوفي حزينًا نحيلًا كما الملاعب التي قضى فيها أيام عطائه في الأندية والمنتخب.

ما أشبه حال السيد شهرستان بحال من دخلوا السجون وتعرضوا للتعذيب والتنكيل وهم من أبناء الرياضة السورية، بعضهم توفي وقسم خرج بلا عقل وبلا هوية، وأعداد لا بأس بها ما زالت تنتظر الإفراج عنها، في بلاد تنتصر فيها نظرية السجان والقيود وصولجان الحاكم وأتباعه على كرامة المواطن والوطن، وتختفي فيها صور عدنان قصار، فارس سوريا الذهبي 21 عامًا، ليخرج بعدها إلى الرصيف بعفو ومكرمة، فيما تنتشر صور “أشبال” و”شبلات” عائلة الحاكم ومن معه كأبطال للفروسية. هؤلاء لم يحتكروا الإنسان وصوته وحريته فقط، إنما احتكروا التاريخ في جيوبهم وخزائنهم ليكون رصيف البلاد هو الوطن الجديد لشهرستان وغيره بعد أن لفظهم تاريخ الحاكم وعائلته وأتباعه.

ولأن بعض القصص يكون لها نصيب وحظ طيب في أن تظهر للشعب وللإعلام، ستجد من يتحرك لإنقاذ الموقف المهين، ويتفضّل بمد يد العون للكابتن جوزيف ونقله من الرصيف إلى غرفة ينام فيها مع تخصيص بعض الليرات له ليأكل سندويش الفلافل الشهي كلما نزل مجددًا نحو الرصيف، رصيف البلاد التي ذُبح أولادها وذُبحت هويتهم وكراماتهم، وتم شنق رياضتها وأبطالها تحت رحمة الحاكم وعائلته وقيادته القطرية، قبل أن يصرخ الراحل عدنان بوظو على التلفاز الله يا شهرستان.. كوووووووووول لسورياااااااا.

في زمان يستقبل فيه زعيم عصابة المزرعة التي يطلق عليها “وطن” ناديًا محليًا حاز لقب الدوري العام ليرسل رسائله العاطفية لمن تبقى من الشعب بأنه يحبهم، وأنه القائد المفدى الذي يهتم بتفاصيلهم وإنجازاتهم، في نفس هذا الزمان وفي نفس المدينة التي يحمل اسمها النادي الفائز بلقب الدوري والذي حصل على مكرمة القائد بلقائه السريع، في شوارع تلك المدينة التي تشبه دمشق وحلب وحمص وحماة، هناك أبطال للرياضة، وهم أصدقاء جوزيف شهرستان، يصارعون الموت والفقر والعوز على رصيف تختصر به قصة البلاد، التي تشبه في أحسن أحوالها ملابس الكابتن جوزيف شهرستان قبل أيام.

وبسلامتكم.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة