الإعلام والمجتمع المدني.. الفرص والمخاوف (2)
علي عيد
يبدو مقنعًا أن الإعلام جزء من المجتمع المدني (Civil society)، إذا اعتبرنا أن الأخير يشمل تحت مظلته كل الجماعات، من مناضلين في حقوق العمال والفلاحين وحتى المدافعين عن أفكار ونشاطات خارجة عن المألوف، كأن تخرج مجموعة لمناهضة الوصول إلى القمر أو المريخ.
في الحالة السابقة، يبقى أن نسأل، ما السلوك الذي يُفترض أن تشترك فيه هذه الجماعات، الدفاع عن معتقد أو فكرة كل المنخرطين، أم تشكيل تحالف ينتزع السلطة، أم الخروج الدائم ضد السلطة.
تبدو مسألة الاتفاق على هدف واحد معقدة، فإذا اعتبرنا أن الدفاع عن الحريات العامة والخاصة يمكن أن تشكّل تبريرًا معقولًا لنضال يوحد جماعات المجتمع المدني، فإن أفكارًا أخرى كتلك التي تتبناها جماعات تدافع أو تناهض الدين ستضع هذا التعاون في مأزق، إذًا، نحن لسنا جميعًا متفقين.
نحن متفقون في مسألة الحريات، لأن فكرة الحرية ترتبط بالوجود كما يفسرها الفيلسوف الفرنسي سارتر (Jean-Paul Sartre).
أردت سوق المقدمة أعلاه، لأصل إلى الاشتباك المطلوب في قضية دمج الإعلام بالمجتمع المدني، أهو لكونه (الإعلام) يضم شريحة من العاملين لهم حقوقهم، ويتبنى مجموعة من القيم يتشارك فيها مع مجموعات أخرى، أم لأنه يشكّل فارقًا في الصراعات السياسية، أو خلال الحروب والأزمات كما هو حاصل في سوريا.
تعيش سوريا صراعًا مركبًا، تسببت به سلطة لا عقلانية، أفرز انقسامًا جغرافيًا اجتماعيًا عميقًا، في بيئة عانت ضعف المؤسسات الموازية القادرة على سدّ الفراغ، إذ تعمّدت السلطة إضعاف عمل المنظمات والصحافة الحرة والأحزاب المستقلة منذ ستينيات القرن الـ20، مع قدوم “البعث” إلى الحكم، ونشأ على إثر ذلك نموذج مشوّه للعمل المدني والسياسي والإعلامي، تمثّل في صحافة الدولة، والنقابات التي تديرها قيادة حزب “البعث”، وأحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية” المتخثرة سياسيًا، وجميع هذه الجهات باتت منخرطة في الترويج للسلطة.
بعد 2011، كان لا بد من نشوء منظمات أهلية ومتخصصة، تنتمي للمجتمع المدني، وتسدّ الفراغ في بلد أنهكته الحرب الجوع والكوارث، وهي منظمات اكتسبت منذ ذلك التاريخ، وخلال 13 عامًا، قدرًا كبيرًا من الخبرة، والقدرة على الوصول إلى أماكن لا تستطيع المنظمات الدولية الوصول إليها.
وبالتوازي مع المنظمات الحقوقية والإغاثية والمتخصصة، نشأت وسائل إعلام سورية مستقلة نسبيًا، وظهرت الحاجة إلى التنسيق بين الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، لا لكونهما من نفس الطينة، بل لأن الأخيرة أنجزت دراسات أو تقارير بحثية متخصصة، وقدمت دلائل مهمة في قضايا حقوقية واجتماعية واقتصادية وسياسية، لكن كل ما قدمته يحتاج الوصول به إلى المجتمع، وتحقيق الجزء الأهم من أهداف هذا العمل، وهو التأثير والتغيير، وهي مهمة الإعلام الذي يحول كل ما سبق إلى مادة قابلة للهضم اجتماعيًا.
يلعب الإعلام دورًا في التحشيد، كما يذهب إلى مستوى أكثر مباشرة في مفهوم المساءلة، وهو نقطة التقائه مع عمل قسم من قطاع المجتمع المدني.
وخلال السنوات الأخيرة، لعب الإعلام دورًا كبيرًا في الترويج لمفهوم ومنتجات المجتمع المدني، سواء بالنقل عنه، أو تنفيذ برامج مشتركة، وأصبح الإعلام بالنسبة للمجتمع المدني بمنزلة “الرصاصة الفضية” (silver bullet)، كما يصفه البروفيسور الهندي دروغام م.كوم (Durgappa M Com) في تحليل نشره موقع المجلة الدولية للأبحاث المبتكرة (IJIRMF).
مقابل “الرصاصة الفضية” التي يحصل عليها المجتمع المدني من الشراكة مع الإعلام، سيجد الأخير منجم الذهب الكامن، إذ يحتاج الصحفيون كل يوم إلى معلومات موثقة ودقيقة، كما أنهم غير قادرين على بناء علاقات طويلة الأجل مع السكان المحليين بشكل جماعي، وإجراء مسوحات عميقة مع العجز أو تراجع الرغبة في الإنفاق على هذا النوع من النشاط الإعلامي المكلف.
مؤخرًا، لوحظ نزوع بعض منظمات المجتمع المدني للتحول إلى مخدّم إعلامي، عبر إعطاء طابع إخباري لمواقعها الإلكترونية، أو إصدار نشرات إخبارية عبر البريد الإلكتروني، أو حتى إنشاء أقسام مخصصة للاستقصاء الصحفي.
تخطئ منظمات المجتمع المدني بالذهاب بعيدًا في هذا النهج، لأن معادلة التأثير عبر الإعلام هي مسألة طويلة، وتتطلب كوادر مؤهلة، ما يعني تكاليف إضافية على قطاع المجتمع المدني بدل استثمار هذه التكاليف في تعزيز الإنتاج.
يتقاطع الإعلام مع المجتمع المدني في الانضباط العالي المستوى، إذا افترضنا أننا نتحدث عن إعلام مستقل ومسؤول، يحارب خطاب الكراهية، ويبتعد عن التضليل أو الانحياز، ومنظمات مدنية تنأى بنفسها عن الخطاب السياسي وتأخذ موقعًا مستقلًا عن السلطة.
يُخشى على منظمات المجتمع المدني وهي تمارس دور المؤسسة الإعلامية أن تنحاز لما تنتج، وأن تدخل في دائرة تضارب الأدوار، وتتحول إلى جهة تنتج المعلومة وتدافع عنها وتسوقها وتبيعها وتربح منها سياسيًا واقتصاديًا، وهي معادلة محفوفة بالمخاطر.
مع اشتداد الاستقطاب الدولي والإقليمي والصراع السياسي في سوريا، واحتمالات الدخول في مرحلة التغيير، غير واضح الوجهة، بدأت أصوات ناشطين مدنيين تعلو بضرورة أن يكون للمجتمع المدني دور سياسي للتأثير في التحولات، باعتباره أكبر قوة مجتمعية تملك القدرة على التأثير، وتريد هذه الأصوات أن تأخذ الإعلام في صفها.
لا يجب على الإعلام أن يكون منخرطًا في توجهات سياسية، ولا أن يتخلى عن دوره الرقابي، فإذا تطلب الأمر إعادة صياغة لدور المجتمع المدني في سوريا لضرورة تاريخية، يجب الحفاظ على دور الإعلام المستقل في مساءلة السلطة وكشف فسادها، أضف إلى دوره في مراقبة حتى منظمات المجتمع المدني ذاتها.. وللحديث بقية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :