يامن مغربي | محمد فنصة | سكينة المهدي
تعود حكاية منظمات المجتمع المدني في سوريا لأكثر من 100 عام، وخلال هذه الفترة الزمنية الطويلة، شهدت المنظمات، كما سوريا، تقلبات ومراحل صعود وهبوط لتأثيرها في المجتمع أو السلطة الحاكمة، تبعًا للظروف السياسية ومستوى الحريات الموجود في البلاد، وهوامش التحرك المتاحة.
وبقدر سياسة التضييق وخنق عمل هذه المنظمات من قبل الأجهزة الأمنية منذ وصول حزب “البعث العربي الاشتراكي” إلى سدة الحكم في عام 1963، فرضت الظروف التي عاشتها سوريا بعد انطلاق ثورتها، عام 2011، وجود عشرات المنظمات على الساحة ضمن قطاعات إغاثية وطبية وخدمية وحقوقية.
نشاط منظمات المجتمع المدني لم يكن سهلًا مع اضطرارها للعمل في مناطق سيطرة سلطات الأمر الواقع أيضًا، لتجد نفسها مجددًا أمام تحدٍّ كبير يتمثل بالتعامل مع المسار السياسي بشكل أكبر مما هو مطلوب منها.
وخلال الأشهر الأربعة الماضية، وتحديدًا منذ ضرب زلزال مدمر مدنًا سورية وتركية في شباط الماضي، تسارعت الأحداث السياسية في الملف السوري، وعاد النظام السوري لشغل مقعد سوريا في جامعة الدول العربية، ووجدت المعارضة نفسها في ظروف صعبة للغاية.
وسط كل هذه التعقيدات، عُقد بالعاصمة الفرنسية باريس، في 5 و6 من حزيران الحالي، مؤتمر “مدنية”، الذي حضرته 150 منظمة عمل مدني سورية، تحت شعار “الأحقية السياسية للفضاء المدني السوري”، ويهدف لإيجاد “تأثير سياسي أكبر” للمنظمات ضمن الملف السياسي السوري.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف دور منظمات المجتمع المدني في الحياة العامة، وإمكانية دخولها العمل السياسي، والجدل حول هذه النقطة تحديدًا، وعلاقتها بهيئات الحكم والضغط عليها، والأدوار الرقابية والقانونية التي تنفذها.
ماذا حصل في باريس؟
عنب بلدي حضرت الاجتماع الذي عقدته “مدنية” في باريس، وامتد على مدى يومين، وضم 150 ممثلًا عن منظمات المجتمع المدني السوري في مختلف القطاعات، دون حضور أي جهة سياسية معارضة، باستثناء رئيس “هيئة التفاوض”، بدر جاموس، الذي أبدى بدوره استعداد “الهيئة” لتقديم الدعم للمنظمات.
المؤتمر شهد نقاشًا للمنظمات المشاركة حول فكرة “الأحقية السياسية”، التي تنطلق من مبدأ أن المنظمات المدنية لها قوتها على الأرض في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، ولها كتلتها المالية التي تعد الأكبر بين الجهات المعارضة للنظام، وعليه فإن المنظمات لا ترغب بأن تكون مجرد “مزوّد خدمة” للاستجابة لمتطلبات الحياة اليومية للسوريين فقط، بل أن يكون هناك تأثير ومشاركة للمنظمات في القرار السياسي.
“أنا جائع.. هذه مشكلة سياسية”
تكررت هذه العبارة بشكل كبير خلال نقاشات المؤتمر، على اعتبار أن العمل المدني في سوريا لا يختلف عن العمل السياسي لسببين، الأول أن كل المنظمات مدعومة من جهات خارجية أجنبية، إلا ما ندر، والثاني أن النظام السوري نفسه ينظر إلى العمل المدني باعتباره عملًا سياسيًا. |
ورغم هذه الرغبة المتمثلة أصلًا بشعار المؤتمر، فإن النقاشات ذهبت أيضًا إلى أن المنظمات لا تطرح نفسها كبديل عن الجهات السياسية المعارضة الموجودة حاليًا (“الائتلاف الوطني لقوى الثورة السورية” و”هيئة التفاوض”).
ورغم وضوح الأفكار العامة المطروحة في المؤتمر، فإن هناك خلافًا على طريقة تنفيذ الرؤى التي تطرحها “مدنية”.
أسئلة ومخاوف
عدد من الأسئلة طُرحت في المؤتمر، أبرزها هل ستؤثر المنظمات على القرار السياسي دون استبدال المؤسسات السياسية، وكيف ستشارك في العمل السياسي دون أن يتأثر عملها المدني وتهتز ثقة الشارع بها.
ظهرت اختلافات في الرؤى خلال نقاشات المؤتمر، وتداول قسم من المشاركين شعورًا عامًا لدى ممثلي المنظمات المدنية، بأنهم دُعوا إلى مؤتمر “مطبوخ وجاهز”، لأن رؤى اللقاء محددة، وهناك مجلس إدارة لـ”مدنية” بالفعل، لذا فإن سؤالًا تكرر هو: “ما دورنا كمدعوين؟”.
كذلك فإن سؤالًا آخر برز بشكل كبير خلال النقاشات العامة، “لماذا على المنظمات المدنية أن تشارك بالعملية السياسية في سوريا بشكل مباشر، وهل المشاركة تفقد هذه المنظمات استقلاليتها، خصوصًا مع وجود مخاوف بأنها لن تتفق مع قوى الأمر الواقع السياسية والعسكرية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري”.
معظم الحضور كان يطرح السؤال الإشكالي: إذا شاركت المنظمات عبر “مدنية” في العمل السياسي، فمع أي الأطراف المعارضة ستكون؟
السؤال السابق، تحديدًا، لم يُعالَج، ورغم أن فكرة “مدنية” يمكن أن تعيد هيكلة المجتمع المدني السوري، فإن الهدف البعيد المدى لها لا أحد يعرف كيف يمكن تحقيقه.
خلال يومي اجتماع “مدنية”، لم تُطرح المنظمات وحتى المؤتمر نفسه كبديل عن جهات سياسية، ورصدت عنب بلدي رغبة الموجودين بأن يحافظوا على دور بعيد عن قوى الأمر الواقع في سوريا، ما زاد في التباس السؤال حول كيفية ضمان الأحقية السياسية للمجتمع المدني مع هذا الشرط، وهو ما لم يخرج المجتمعون بإجابة واضحة عنه.
ورغم أن هدف المؤتمر الأساسي كان النقاش حول مشاركة منظمات المجتمع المدني في العملية السياسية، فإن اليوم الثاني منه، ومع حضور عدد من المسؤولين الدوليين، ناقش مسألة محاسبة مرتكبي جرائم الحرب، مع ميل لتحميل المجتمع الدولي المسؤولية، من مبدأ أن الأخير قدّم الأموال والموارد المطلوبة للمنظمات المدنية، لكن في المقابل غابت أي نية جدّية لتغيير سياسي في سوريا.
انتخابات 2025؟
سؤال في غاية الأهمية طُرح في أثناء النقاشات التي سادت المؤتمر: ماذا لو قدمت الدول الغربية ضمانات حول عملية انتخابية نزيهة وشفافة في سوريا عام 2025؟ هل يضمن المجتمع المدني “رحيل الأسد” حينها عبر الانتخابات؟ وكانت الإجابة بأنه لا يمكن ضمان هذا الأمر في ظل الضعف السياسي للمعارضة. |
ما المجتمع المدني وما دوره؟
هناك عشرات التعريفات لمنظمات العمل المدني، تتفق عمومًا على أنها مجموعة من المنظمات والهيئات غير الحكومية، التي تهدف إلى الدفاع عن قضية معيّنة تؤمن بها على المدى الطويل، وتأخذ موقفًا محايدًا من الحكومات السياسية، بمعنى أنها لا تقدم لها الدعم، بل تلعب دور المراقبة والمحاسبة تجاهها، وفق القضية التي تتبناها.
وفقًا للبنك الدولي، يشير تعبير المجتمع المدني إلى مجموعة واسعة من المنظمات: المجموعات الأهلية، المنظمات غير الحكومية، النقابات العمالية، مجموعات السكان الأصليين، المنظمات الخيرية والدينية، الجمعيات المهنية، المؤسسات.
أما الأمم المتحدة فتعرّف المجتمع المدني على أنه القطاع الثالث من قطاعات المجتمع مع الحكومة وقطاع الأعمال، ويتكون هذا القطاع من منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية.
في عام 2004، أصدر الكاتب مايكل إدواردز كتابه “المجتمع المدني.. النظرية والممارسة”، الذي يعدّ أحد المراجع الرئيسة في فهم طبيعة المجتمع المدني، وفيه أورد الكاتب عديدًا من تعريفات هذا المجتمع، منها أنه “تمثيل لرغبة المواطنين في مساءلة السلطات العامة والخاصة حيال ما تقوم به من أعمال، وتوليد أفكار بديلة ومواقف سياسية تطالب بتغييرات أساسية في بنية السلطة، وتنظيم العمل الجماعي ضمن مستويات واسعة بما يكفي، لفرض تحولات بعيدة المدى في السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية”.
في حين اعتبر المفكرون في “حركة التنوير” المجتمع المدني خطًا دفاعيًا ضد تجاوزات الدولة غير المبررة على حقوق الفرد وحرياته التي نالها، وهو أيضًا عالم ينتظم ذاتيًا ويضم روابط ملتزمة بالمثل والأهداف نفسها، يحتاج إلى حماية نفسه من الدولة للحفاظ على دوره في مقاومة الاستبداد مهما كان الثمن.
ينقسم الدور الذي يلعبه المجتمع المدني تبعًا لتفسيرات هذا الدور، والتفسير الأكثر “راديكالية” والتابع لـ”الليبرالية الجديدة”، يرى أن المجتمع المدني هو الأرضية التي تتحدى الوضع الراهن، وتتبنى به ومن خلاله بدائل جديدة.
في حين تذهب تفسيرات أخرى إلى القول إنه قطاع غير ربحي، تُقدم من خلاله خدمات دعت إليها الحاجة بسبب فشل السوق والحكومات بتقديم هذه الخدمات، بحسب كتاب “المجتمع المدني.. النظرية والممارسة”، للكاتب الأمريكي مايكل إدواردز.
الخبير بمنظمات المجتمع المدني الدكتور باسم حتاحت، أوضح لعنب بلدي أن دور المنظمات المدنية لا يقتصر على الجانب الحقوقي، بل هو كل ما يتعلق باحتياجات الشعب.
ومن أدواره دعم التعليم بكل جزئياته، ودعم إنهاء الفقر، ودعم إصدار وتعديلات القوانين، ودعم إلزامها بالمنهجية العالمية مثل ميثاق حقوق الإنسان، ودعم الحوكمة والرقابة.
ويعد المجتمع المدني “القاعدة الأساسية لأي مجتمع سياسي عادل”، وفق حتاحت، الذي يرى أنه أقوى من ناحية الأداء كمنظومة فاعلة داخل المجتمع، ثم يأتي المجتمع السياسي لإنضاج البرامج المشتركة التي تُطور من المجتمع المدني، وفق حتاحت.
المنظمات السورية بين العمل المدني والسياسي
بعد الخبرات المتراكمة التي كوّنتها المنظمات المدنية السورية، وبناء علاقات جيدة مع مسؤولين غربيين يعملون في الملف السوري، وفشل المعارضة السياسية السورية في تحقيق تقدم بالملف، بالتزامن مع عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، يرى قسم من الناشطين المدنيين أن الفرصة مواتية لدخول المنظمات إلى مضمار السياسة في الملف السوري.
أهم قواعد عمل منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية عمومًا، أنها لا تسعى للوصول إلى السلطة، بعكس الأحزاب السياسية، بل تحاول صنع تغيير سياسي في البيئة المحيطة، اقتصاديًا واجتماعيًا وحقوقيًا، وفق الدبلوماسي السوري السابق داني البعاج.
ومن هذه النقطة ينطلق البعاج في حديثه لعنب بلدي، ليشير إلى وجود مستقبل سياسي للمنظمات السورية في حال توفرت لها مساحة من الحرية، التي تحتاج إليها بطبيعة الحال للقيام بعملها.
وإن كانت إشارة البعاج باتجاه شكل سياسي يقع ضمن عمل المنظمات بالأساس، فإن مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، يرى في حديث لعنب بلدي، أن من الأفضل ألا يكون للمنظمات السورية مستقبل في العمل السياسي نفسه لا بيئته، لعدة اعتبارات.
فالعمل السياسي، حسب العبد الله، منفصل عن عمل المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية، والأخيرة تحديدًا يجب أن يكون عملها حياديًا ومستقلًا عن أي تجاذبات سياسية، وأن تحمي مساحتها من الحرية.
وقال العبد الله، إن المجتمع في ظروف صحية وسليمة يلعب دورًا من الرقابة والمحاسبة للسياسيين والأحزاب والبرلمان، تأتي هذه المحاسبة عبر التناغم بين الإعلام والمجتمع المدني، وباعتبار أن المجتمع مفكك وسوريا مهشمة، فلا يمكن لأحد أن يلعب هذا الدور إلا في الحدود الممكنة.
رأي العبد الله الذي يذهب باتجاه تفضيل عدم دخول منظمات المجتمع المدني في ميدان السياسية، يرتبط كذلك بأنه، وفي بعض الدول بما فيها سوريا، تمتلك الأطراف السياسية منظمات تدافع عنها وتُستغل سياسيًا، وهذه النقطة تحديدًا تفقد العمل المدني مصداقيته واحترامه داخليًا (المجتمع) وخارجيًا لدى الدول، لذا فليس من مصلحة أي طرف من الأطراف أن تذهب المنظمات في هذا الاتجاه.
من جهته، يرى مدير منظمة “اليوم التالي” (إحدى المنظمات التي تُعنى بالانتقال الديمقراطي في سوريا)، معتصم السيوفي، أن المنظمات لا يمكن لها بالأساس أن تكون بديلًا عن أحزاب سياسية أو نقابات واتحادات، خاصة أن الصراع في سوريا لم ينتهِ.
على أرض الواقع، تلعب المنظمات دورًا في الحياة السياسية، ولكن ليس بالطريقة التي تمارسها الأحزاب، بل عبر الدفع باتجاه سياسات معينة وتهيئة الأرضية العامة للحياة السياسية، ثم التفاعل مع الأحزاب وغيرها، وبالتالي، وفق السيوفي، فإن الدور السياسي الذي تلعبه المنظمات المدنية، هو الدفاع عن القضية التي تتبناها، لكن لا يمكن أن تكون بديلة عن الأحزاب السياسية المعبرة عن أفكار ومعتقدات سياسية تمثّل مصالح وأفكار فئات اجتماعية واسعة.
وباعتبار أن الملف الحقوقي يعدّ أحد أبرز الملفات المرتبطة بمستقبل العدالة الانتقالية في سوريا، يرى داني البعاج أن المنظمات الحقوقية تحديدًا عليها أن تبقى بعيدة عن السياسة، لأن دورها يجب أن يكون حياديًا بالكشف عن الجرائم وملاحقة مجرمي الحرب، أيًا كان انتماؤهم.
هل تفرز المنظمات شخصيات سياسية؟
اكتسبت المنظمات السورية المدنية عبر سنوات طويلة من العمل خبرات متنوعة في بناء الشراكات، والعلاقات والتواصل مع المسؤولين الدبلوماسيين بمختلف الدول التي تدخلت لدعم الملف السوري.
هذه الخبرات المتراكمة، وفشل المعارضة السورية التقليدية في تصدير وجوه جديدة قادرة على قيادة المرحلة الحالية في مواجهة المكتسبات السياسية الأخيرة للنظام السوري، قد تدفع باتجاه تصدّر شخصيات جديدة العمل السياسي.
مصدر هذه الشخصيات هو المنظمات المدنية السورية، التي قد تبدو بدورها قادرة على تصدير أسماء جديدة.
لكن نجاح هذه الأسماء يرتبط بعدة اعتبارات بدوره، أهمها امتلاك طموح سياسي، وأن تتحرك في اتجاه السياسة، بحسب الدبلوماسي السوري السابق داني البعاج.
بينما يرى مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، أن المنظمات السورية قد تفرز شخصيات تخرج من العمل المدني لتصل إلى العمل السياسي، كما حصل في لبنان والعراق في وقت سابق، لكنه أشار أيضًا إلى أن أفضل وسيلة لممارسة العمل السياسي تكمن في الترشح ضمن انتخابات نزيهة.
كما اعتبر العبد الله، في حديثه لعنب بلدي، أن من المبكر الحديث عن هذا الأمر، لأن الطبقة السياسية للمعارضة فيها تسلّط من أطراف سياسية واحتكار للرأي، وتتحكم بها الدول الداعمة التي تفرض قراراتها، كما في اللجنة الدستورية، لذا في هذه المرحلة، من غير الوارد ظهور شخصيات سياسية جديدة قادمة من العمل المدني.
حول شكل الترابط بين المجتمع المدني والسياسي، قسم الخبير الأكاديمي حتاحت العلاقة إلى وجهين، الأول الانطلاق من المجتمع المدني لخلق مجتمع سياسي عادل، والثاني الانطلاق من مجتمع سياسي تتضمن برامجه العادلة إنشاء مجتمع مدني.
وفي الحالة السورية، يرى الخبير الأكاديمي أن المجتمع السياسي بكل مكوّناته ما زال “ضعيفًا ناشئًا بعيدًا عن المفاهيم الصحيحة”، وهو ما يحتّم على المجتمع المدني أخذ دوره بإنضاج المجتمع سياسيًا.
أما على صعيد انخراط المنظمات المدنية السورية بالعمل السياسي، فيرى مدير “منبر منظمات المجتمع المدني السوري”، محمد أكتع، أن منصات المعارضة كـ”الائتلاف الوطني السوري”، تعتبر الجهة المشرعة بالنسبة للمعارضة السورية، بينما منظمات المجتمع المدني تبقى الجهة الوسيطة بين المجتمع والسلطة، ومهمتها الضغط على السلطة للقيام بدورها، لذلك يعدّ المجتمع المدني جزءًا لا يتجزأ من العملية السياسية.
التجربة السورية ما قبل حكم “البعث”
أدت الظروف السياسية في أثناء فترة تبعية سوريا للدولة العثمانية، مطلع القرن الـ20، إلى ظهور عديد من الحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي حاولت التفاعل مع المتغيرات سياسيًا واجتماعيًا، وخاصة مع ظهور حركات تركية مشابهة حينها.
العهد العثماني: إحدى أولى الحركات التي ظهرت في المجتمع المدني السوري، كانت “جمعية الإخاء العربي العثماني” في عام 1908، وهدفت إلى “رفع شأن الأمة العربية من النواحي الاقتصادية والثقافية”، بعد إقرار قانون الجمعيات العثماني في عام 1908، وفق كتاب “الحياة الحزبية في سوريا” لمحمد حرب فرزات.
عهد الملك فيصل: استمرت الحركات المدنية بالتطور والظهور تبعًا للظروف السياسية في تلك الفترة، بما في ذلك منظمات نسوية ظهرت بعد استقلال سوريا وبدء العهد الفيصلي (المملكة السورية نسبة للملك فيصل بن حسين 1918- 1920)، وفق كتاب “سكة الترمواي” لسامي مروان مبيض.
الانتداب الفرنسي: صدرت مراسيم خاصة للأحزاب والجمعيات من قبل المفوض السامي الفرنسي مع استمرار العمل بالقوانين العثمانية حتى 1953.
عام 1953: صدر القانون “47” الخاص بالجمعيات والأحزاب، وألغي مع عودة الحياة الديمقراطية إلى سوريا في عام 1954.
مرت الحركة العمالية والنقابات في سوريا بمراحل التكوّن والنشوء في عشرينيات وثلاثينيات القرن الـ20، بينما كانت مرحلة الانطلاق وترسيخ الأقدام في الأربعينيات والخمسينيات، وتحديًدا مع تقديم الحكم “البرجوازي- الإقطاعي”، حينها، التنازلات للعمال، وإفساح المجال للحركات العمالية، وهو ما تجلى وفق كتاب “صور من حياة مجتمعات سوريا القرن الـ20” بلحظتين مفصليتين، قانون العمل السوري عام 1946، ومؤتمر العمال السوريين 1950.
وذكر الكتاب أن الأجواء الديمقراطية في عهد المجلس النيابي 1954- 1958، كانت ملائمة لتطور مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات، كما تزامنت مع تصاعد أفكار التنوير العربي والعقلانية، وترسخ مفاهيم الحرية والنضال الوطني، وتجلّت هذه الظواهر بنجاح القائمة النقابية المتحدة عام 1958 في الانتخابات البرلمانية.
الظروف السياسية في سنوات الوحدة بين سوريا ومصر (1959- 1961) وجهت ضربة لمؤسسات العمل المدني، قبل أن تعود لفترة وجيزة ثم تبدأ السيطرة عليها من قبل حزب “البعث” مع وصوله إلى السلطة في عام 1963 بالتدريج بالتوازي مع حراكها المستمر.
مكوّنات تعمل في “جزرها الخاصة”
تحتاج المنظمات السياسية والمدنية إلى العمل المشترك في الملف السوري، وقلما تحدث لقاءات بين هذه المنظمات، وهو سلوك فسره المحللون بـ”التنافسية” بين الطرفين، و”احتكار” العمل السياسي.
الخبير المتخصص بشؤون إدارة منظمات المجتمع المدني، الدكتور باسم حتاحت، يرى أن عدم تكامل عمل المنظمات السورية السياسية منها والمدنية مرتبط بعدة أسباب، أولها “الأنانية”، وعدم وجود برنامج سياسي للمعارضة السياسية تعمل فيه أدوات مدنية.
وتحدث حتاحت عن ضعف ارتباط دا، مفسرًا ذلك بأن المكوّنات السياسية الحالية لم تأتِ بالانتخاب، لذا لديها “خوف” من أن يقوى المجتمع المدني، وأن يؤثر على وجودها، أو على تحركاتها التي قد تكون غير مقبولة.
في حين يرى مدير “منبر منظمات المجتمع المدني السوري”، محمد أكتع، أسباب عدم التكامل من منظور مختلف قائلًا، إن “علاقة المجتمع المدني مع (الائتلاف) ليس لها أي غطاء قانوني وغير رسمية، فلا يوجد ما يُلزم المجتمع المدني السوري المعارض بترتيب العلاقة مع جهات المعارضة”.
رئيس الحزب “الليبرالي السوري” (أحرار)، بسام القوتلي، يرى أن انعدام التنسيق منتشر بين السياسي والمدني من جهة، وحتى بين السياسي والسياسي، وبين المدني والمدني من جهة أخرى، وأنه في معظم الحالات تعمل الجهات المختلفة في “جزرها الخاصة” من دون إدارة فعالة أو استراتيجية موحدة.
الدول الدكتاتورية عندما تخاف من المجتمع المدني تضمه إليها، مثل النظام السوري وغيره، أما الدول الديمقراطية فعندما تحتاج إلى المجتمع المدني تعطيه إمكانيات أوسع، لأنها تعلم أنه يدعمها في نهاية الأمر، ولأن همها البنية التحتية المجتمعية للشعب كي يرتقي ويعيش.
باسم حتاحت متخصص بشؤون إدارة منظمات المجتمع المدني |
وحمّل القوتلي “الائتلاف” المسؤولية الكبرى عن هذا “الفشل”، مستدركًا أن السبب يعود لتنوع مصادر الدعم، وأجندات الداعمين، وامتلاك عديد من مديري المنظمات المدنية الطموح السياسي المشروع، الذي يزيد من الشعور التنافسي بين المنظمات والهيئات السياسية، ويسهم في انعدام التنسيق.
قال القوتلي، إن بعض الأفراد والتنظيمات السياسية يحتكرون الوجود السياسي لمصلحتهم، وهو ما يلغي التنافسية ووصول الأقدر، ويخلق منظومة “مغلقة” غير قادرة على العمل مع الآخرين.
ما سر نجاح المنظمات المدنية دون السياسية
طرأ على المجتمع المدني السوري، ما بعد عام 2011، تغيرات عديدة انعكست على أداء وحضور الكيانات المنبثقة عنه، بشكل جعله ينمو ويطور نموذجه الخاص.
ولعبت الظروف السياسية دورًا بارزًا في تغيير موقع المجتمع المدني أمام بقية المنصات السياسة، وبدأ ذلك في عام 2016، حينما أعلن المبعوث الأممي السابق إلى سوريا، ستيفان دي مستورا، تأسيس “غرفة دعم المجتمع المدني” (CSSR)، التي ألقت على عاتقها متابعة العملية السياسية.
وجاء بعدها مؤتمر “بروكسل” في نسخته الأولى عام 2017، الذي أقرّ بدور المجتمع المدني كجزء أساسي من الحل الدائم، وفي إعلان تشكيل اللجنة الدستورية عام 2019، تطور دور المجتمع المدني بإدراجه ضمن قوائم اللجنة.
لم يتوقف وجود المنظمات المدنية على التمثيل الدولي، إذ إنه بتجميد المسار السياسي الوحيد الذي تشارك فيه المعارضة (اللجنة الدستورية)، عملت منظمات المجتمع المدني على ممارسة الضغط على الفاعلين المحليين والدوليين بغية دفعهم للالتزام بمنظومة القيم التي تتبناها.
وصل مستوى الضغط إلى مساهمة المجتمع المدني في بلورة سياسات دولية، مثل مساهمة منظمات سورية بالولايات المتحدة في صياغة قرار “قيصر” عام 2019، والضغط على الفاعلين هناك لتبنيه.
وكان للمنظمات المدنية دور أساسي في تسليط الضوء على تجارة “الكبتاجون” كممول أساسي للنظام السوري عبر الدراسات والأبحاث والضغط السياسي، ليبصر مشروع قانون مكافحة المخدرات الأمريكي النور بعد مخاض عسير بين المجالس التشريعية، بدءًا من عام 2021 حتى نهاية عام 2022.
وفي خضم الانفتاح العربي على النظام منذ شهرين بدفع عدة دول عربية أوصلته إلى المقعد السوري في الجامعة العربية، عملت منظمة “التحالف الأمريكي من أجل سوريا” مع مجموعة من أعضاء “الكونجرس” الأمريكي على مشروع قانون يحظر على الحكومة الفيدرالية الاعتراف أو تطبيع العلاقات مع النظام.
ويشرّع مشروع القانون، الذي أقرته لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب في 16 من أيار الماضي بالإجماع، تعديلات على قانون “قيصر” توسع دائرة مراقبة من يحاول التعامل مع النظام من حكومات أو كيانات.
الخبير بمنظمات المجتمع المدني الدكتور باسم حتاحت، أوضح لعنب بلدي وجوه الاختلاف ما بين المجتمع السياسي والمدني السوري قائلًا، إن المجتمع السياسي (منصات المعارضة الأساسية) مجتمع سياسي ناشئ وغير فاعل أو صاحب تجربة.
ووصف حتاحت أداء الفاعل السياسي السوري بـ”البطيء جدًا”، و”المرتهن للدول أو للمؤسسات التي تدعمه”، وليست لديه رؤية استراتيجية سياسية في تقاطع المصالح و”تشبيك العلاقات”.
وانتقد الأكاديمي السوري المنصات السياسية التي تتصدّر المشهد، مثل “الائتلاف السوري” و”هيئة التفاوض”، لعدم قدرتها على إنشاء مجتمع مدني داعم، أو مجموعة ضغط، أو أن يكون لها ارتباط بأحدها أو بأحد “اللوبيات” السورية.
على الجانب الآخر، يتمتع المجتمع المدني السوري بحرية أوسع وأدوات للتحرك عبر مختلف القطاعات العامل بها، وهو موجود ضمن شتى بقاع العالم، وفق الخبير المدني.
وقسّم حتاحت وجود المجتمع المدني الحالي بين ناشئ تدرب وتعلم من خلال تعامله مع المؤسسات الدولية والأممية، ومع “الكونجرس” الأمريكي والبرلمان الأوروبي، وقديم خارجي موجود في الدول الغربية، استطاع بحكم خبرته وإمكانياته المالية الواسعة، وانتمائه السوري دون الارتهان لأي مشروع آخر، أن يحقق خطوات “كثيرة جدًا”، مثل قانونَي “قيصر” و”الكبتاجون”، وتنفيذ ضغوطات على البرلمان والمفوضية الأوروبية.
المدير التنفيذي لـ”منبر منظمات المجتمع المدني السوري”، محمد أكتع، قال لعنب بلدي، إن الغطاء القانوني لمنظمات المجتمع المدني يحمّلها مسؤولية أكبر من كيانات المعارضة السياسية، إذ لا يمكن لمن انخرط بالعمل ضمن منظمة مجتمع مدني، وحصل على دعم مستمر وصفة قانونية واعتبارية، أن ينشق عنها وينشئ منظمة غيرها بسهولة.
بالمقابل، العمل السياسي ومنصات المعارضة السياسية بسبب فقدها لهذا الغطاء القانوني، يمكنها تشكيل كتلة سياسية ثم الانفصال عنها وتشكيل أخرى بمسمى آخر، دون قانون أو نظام رسمي معتمد يضبط هذه العملية، ما يجعل المنظمات المدنية “منظمة ومستدامة” أكثر من الكيانات الأخرى، وفق أكتع.
أهمية المجتمع المدني في العملية السياسية
تلعب منظمات المجتمع المدني دور الحوكمة، وهي الجهة التي تتحرك باسم المجتمع لإيصال صوت المواطنين للدولة ومراقبة سياساتها، بالإضافة إلى التحرك للدفاع عن قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وغيرها.
من هذا المنطلق، يمكن فهم الدور الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني في العملية السياسية، وهو دور تحدث عنه المدير التنفيذي لـ”منبر منظمات المجتمع المدني السوري”، محمد الأكتع، لعنب بلدي.
وفق الأكتع، يعتبر المجتمع المدني القطاع الثالث أو المجتمعي الذي يحقق الحوكمة في البلد، والجهة التي تتحرك باسم المجتمع والمواطن لإيصال صوته للدولة ومراقبة سياستها، لذلك فإن الأحزاب السياسية، اليوم، تُعتبر منظمات مجتمع مدني، وفي بعض الدول، الجهات التي تمنح الترخيص للأحزاب، هي ذاتها التي تمنح الترخيص للجمعيات.
تُعتبر منصات المعارضة، كـ”الائتلاف”، جهة سياسية بديلة عن النظام وسلطة إدارية، بغض النظر عن قيامها بمهامها أو عدمه اليوم، لكنها الجهة المشرعة بالنسبة للمعارضة السورية، بينما منظمات المجتمع المدني تبقى الجهة الوسيطة بين المجتمع والسلطة، ومهمتها الضغط على السلطة للقيام بدورها، لذلك يُعتبر المجتمع المدني جزءًا لا يتجزأ من العملية السياسية، بحسب رؤية محمد أكتع.
وقال أكتع، إن “علاقة المجتمع المدني مع (الائتلاف) ليس لها أي غطاء قانوني وغير رسمية، فلا يوجد ما يلزم المجتمع المدني السوري المعارض بترتيب العلاقة مع جهات المعارضة، بالإضافة إلى أنها تجربة تعتبر جديدة، إذ بدأت في عام 2013 فقط، أما النظام السوري فلديه قوانين وسلطة أمنية تضغط على منظمات المجتمع المدني”، وهذا عنصر قوة سياسيًا لمصلحة النظام.
“ولا يمكن طرح رؤية واضحة للمستقبل السياسي للمجتمع المدني السوري المعارض، لأنه منخرط بالقطاع الإنساني بحكم الواقع الذي نحن عليه اليوم، وهذا القطاع بعيد عن العمل السياسي، إلا أنه جزء من المجتمع المدني وليس كله، والمجتمع المدني السوري المعارض بحكم وجوده في عديد من الدول واستمرار دعمه بحسب قرار دعم الحدود (كروسبوردر)، سيكون له وجود مستمر ودور ثابت، حتى وإن تم التطبيع مع النظام السوري، كما أن أغلب المنظمات الآن تتمتع باستقلالية مادية وتراخيص نظامية”، بحسب قوله.