عنب بلدي – سكينة المهدي
“لا أريد من أبنائي إلا البقاء حولي، لأراهم وأواسي وحدتي بوجودهم مع أطفالهم بجانبي، فأنا لا أجد من أتحدث معه، وأنا أيضًا حزينة على فقدان اثنين منهم بقذائف الهاون، وأحتاج إلى من يخفف عني، أحاول أن أتعكز على الأشياء حولي لأشغل المدفأة أو أتناول الطعام فقط، وحين تتدهور صحتي يحملني أهل المخيم إلى أقرب مستوصف، وأعود لأكمل حياتي وحيدة”، هكذا وصفت إيمان (60 عامًا) حياتها وحالتها لعنب بلدي.
يوافق 15 من حزيران اليوم العالمي للتوعية بشأن إساءة معاملة المسنّين، وقالت منظمة الصحة العالمية في حزيران عام 2022، إن واحدًا من كل ستة أشخاص في عمر الـ60 وما فوق، يتعرض كل عام لشكل من أشكال سوء المعاملة، وهو اتجاه من المتوقع أن يستمر مع زيادة الشيخوخة بين السكان بشكل متسارع في البلاد، وأصدرت منظمة الأمم المتحدة دليلًا، عام 2021، يدعو للتصدي لإساءة معاملة المسنّين، كجزء من عقد المنظمة للشيخوخة الصحية مع “الصحة العالمية”، الذي يمتد حتى عام 2030.
إساءة المعاملة وتدهور الصحة النفسية
مديرة مؤسسة “دار البشير”، يسرى صبرة، قالت في حديث لعنب بلدي، إن الدار تعمل على تحسين الحالة النفسية للمسنّات لتقبل تبديل الأسرة، وإيجاد بديل عن ذويهن الذين فقدنهم، لأن من شروط استقبال المسنّة في الدار ألا يكون لديها أقارب من الدرجة الأولى لرعايتها، ومقدمات الرعاية لا يقتصر عملهن على التنظيف والإطعام، بل نعلم أيضًا حاجة المسنّة للحديث مع شخص ما يستمع إليها، لذلك تعمل كثيرات من مقدمات الرعاية على الجلوس والاستماع فقط، وتقديم الرعاية العاطفية حتى لا تشعر المسنّة بالفقد والقلق.
وتحدثت صبرة عن حالة مسنّة جاءت إلى الدار قائلة، “لدينا السيدة حميدة، عجوز في الـ66 من عمرها من ريف إدلب، تعيش منذ ثلاث سنوات في بيت أشبه بالخرابة، وتستجدي الناس ليقدموا لها الطعام، بعد رحيل ابنتها وزوجها إلى مكان تجهله، وحين جاءت حاولنا تقديم الرعاية لها، إلا أنها كانت لا تتكلم نهائيًا، حاولنا التخفيف عنها والجلوس معها لفترات أطول حتى باحت لنا بقصصها القديمة ومعاناتها السابقة، لكنها لا تتجاوب مع الغرباء ولا تتحدث معهم”.
ووصفت مديرة الدار حالة حميدة بـ”المأساوية”، إذ كانت تتعرض لسوء معاملة من قبل زوج ابنتها بعد موت زوجها، واضطرت للإقامة في بيت ابنتها، ولا تملك مالًا وليس لديها معيل، فكان زوج ابنتها يضغط عليها لتتزوج حتى تخفف عنه مصروفها، وكان دائمًا يضربها ويهينها، حتى إنه أجبر زوجته على العمل لتتحمل مصروفها، وكان يعمل جاهدًا ليطردها من المنزل، وحين بدأ القصف على منطقتهم في ريف حلب، هربت الابنة مع زوجها تاركين السيدة وحيدة في المنزل، ثم ضربت قذيفة المنزل، وأصبحت حاله أشبه بـ”الخرابة” لكنها لم تتركه، وبقيت في ذلك المكان دون الاختلاط بأحد، دون كهرباء أو ماء، حتى صارت تصدر صوتًا كصوت القطط التي كانت تعيش معها في ذلك المكان.
“قبل إحضارها إلى الدار عرضناها على طبيب نفسي لتتجاوز الحالة التي هي عليها، وتحسنت حالتها بشكل ملحوظ، واستطاعت العودة للكلام والاختلاط بالبشر، لكن ليس كل المسنّات بحاجة إلى تدخّل عاجل من قبل الطبيب النفسي، إلا أن متابعة الصحة النفسية والحالة المزاجية لكبار السن مهمة جدًا، لأنهم كالأطفال يحتاجون إلى معاملة خاصة ورعاية دقيقة”، بحسب قول صبرة.
وعندما أسست يسرى صبرة دار المسنين، كانت تعمل مع الفريق بشكل تطوعي، وقالت إنهم تلقوا الدعم من إحدى المنظمات ماديًا، لكن عادوا ثانية للعمل كمتطوعين بعد انقطاع الدعم، باستثناء إحدى المنظمات التي أرسلت فريقًا لتقديم جلسات دعم نفسي مرتين فقط، وبعض الحالات قد تحتاج إلى تدخل طبي عاجل كحالة حميدة.
تعتبر مكافحة التفرقة على أساس السن أولوية قصوى، لأنها سبب رئيس في أن إساءة معاملة كبار السن لا تلقى اهتمامًا مناسبًا، في حين أن هناك حاجة إلى مزيد من الإحصائيات والبيانات لزيادة الوعي بالمشكلة، ويجب على البلدان أيضًا تطوير وتوسيع نطاق حلول فعالة من حيث التكلفة لوقف الإساءة، وإثبات أن الاستثمار في معالجة هذه المشكلة هي تجارة مجدية، كما أن هناك حاجة إلى مزيد من الموارد المالية لهذا الأمر، بحسب مقال للأمم المتحدة.
المسنّون في المخيمات
المسنّة إيمان، تنحدر من مدينة سراقب، فقدت ابنيها بقذيفة في جبل الزاوية بإدلب، تحدثت لعنب بلدي عن وضعها قائلة، “أُصبت بصدمة عصبية حين فقدت ابنيّ، ثم نزحت إلى مخيم (المحبة) في إدلب وحدي، وعلى الرغم من وجود أبنائي الثلاثة في سوريا، فإنهم متفرقون ولا يسألون عني، أحتاج إليهم في كثير من الأحيان، أشعر بدوار ولا أستطيع التقاط كأس ماء للشرب، وفي أوقات أخرى أحتاج إلى من يرافقني لقضاء حاجتي، وأشعر بالخجل من الجيران في الخيام المجاورة، الذين يتطوعون لمساعدتي ويتناوبون على ذلك، أشعر حينها بأمس الحاجة إلى أبنائي”.
مدير مخيم “المحبة” الذي تقيم فيه إيمان، غازي أبو طلعت، قال لعنب بلدي، إن “عدد الكبيرات في السن اللواتي يتجاوز عمرهن 60 عامًا يصل إلى 20 امرأة لا يعيلهنّ أحد، ولا يأتي أحد لزيارتهن أو تبنيهن ماديًا، فالكبار بالسن بحاجة إلى علاج للأمراض المزمنة، وهذا مكلف، ولم تتكفل أي جمعية بتكاليف علاجهم، فقط يأخذون بعض السلال الغذائية كغيرهم، والدواء المجاني لم يعد متوفرًا في المستوصفات أو الصيدليات، لذلك نحن بحاجة إلى دعم مادي شهري ثابت، أو متابعة صحية دورية لكبار وكبيرات السن في هذا المخيم وغيره، ونتحدث حاليًا عن المساعدة الممكنة بالقدر المتاح، لكنهم بحاجة إلى أكثر من ذلك”.
وتفتقر المخيمات للتجهيزات المخصصة للمسنّين، كالحمامات الملائمة ووضعها قريبًا من خيامهم، والمعقمات والمنظفات، وتوفير تكلفة لباسهم وتدفئتهم في الشتاء.
وعلى الرغم من تصنيف كبار السن من بين الفئات “الأكثر ضعفًا” في سوريا وفق التقييم الإغاثي الدولي، فإنهم حتى الآن يعانون الظروف السيئة ذاتها.