علي عيد
يزداد الإلحاح في تفسير العلاقة بين المجتمع المدني والإعلام، هل يندرج الإعلام في مساحة المجتمع المدني لجهة الأدوار والمسؤوليات، أم يتكاملان، وكيف يحتاج كلاهما إلى الآخر فيما يحافظان على مسافة بينهما تمنع التباس المهمة.
وإذا كان المجتمع المدني (Civil society) عرّف على أنه “مجموع المنظمات غير الربحية، وغير الحكومية المستقلة تمامًا عن السلطة السياسية، والتي تم تأسيسها على يد أفراد أو جماعات مهتمة بالطابع الإنساني”، فهل يشمل التعريف السابق، بالطبيعة، الإعلام المستقل غير الربحي، ما يعني ضرورة تضييق مفهوم الإعلام المنتمي لهذه المساحة، إذ لا يمكن اعتبار إعلام السلطة والأحزاب السياسية والشركات الربحية جزءًا من المنظومة، لأننا سنكون أمام تضارب واضح في الأهداف والمصالح.
وفيما يتعلق بدور المجتمع المدني، بمفهومه الحديث، يتفق الباحثون على أنه رديف للسلطة في الرقابة والمساءلة، يعمل على تعزيز ونشر قيم تهدف إلى تطوير وتنمية المجتمعات، وتحقيق مبادئ الحكم الرشيد، وحماية الحريات وحقوق الإنسان.
تشمل مظلّة المجتمع المدني تعريفًا: “المنظمات الخيرية، النقابات العمالية، النقابات المهنية، مؤسسات العمل الخيري، المنظمات الخاصة بحقوق الإنسان، النوادي الرياضية، جماعات الرفق بالحيوان، الجماعات المكوّنة من السكان المحليين”، وهذه الجهات ذاتها، تغيرت أدوارها على مراحل التاريخ، حيث قسّمها بعض الباحثين إلى خمس مراحل، بدأت بمرحلة “العقد الاجتماعي”، إذ بدأ دور المجتمع المدني مرادفًا للمجتمع السياسي، ففي الفلسفة اليونانية، اعتبر أرسطو المجتمع المدني، كما يفسر الباحثون، مجموعة سياسية تخضع للقوانين، دون تمييز بينه وبين الدولة.
المرحلة الثانية، “الهيغلية”، إذ أسهمت التحولات في أوروبا خلال القرن الـ19، وظهور الملكيات الخاصة ومن يدافع عنها، في نشوء نظرية تتحدث عن عجز المجتمع المدني عن تحقيق العدالة بمفرده، إذ لا بد أن يعمل في إطار الدولة، كما يقول الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل (Friedrich Hegel).
في المرحلة الثالثة، يرى كارل ماركس (Karl Marx) أن سيطرة إحدى طبقات المجتمع المدني على الدولة، بمعنى انتصارها أو انتصار قيمها، يعني أن الدولة باتت تابعة لتلك الطبقة، وهذا يعني أن زوال الدولة لاحقًا يعني زوال المجتمع المدني، معتبرًا أن الأخير هو البنية الأساسية أو التحتية للدولة، وأن الإنسان والمجتمع المدني مقدّمان على الدولة.
وأما المرحلة الرابعة فحملت بعدًا ثوريًا أطلق فكرته المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci)، وهو يؤمن بمفهوم الهيمنة (hegemony)، ويعتبر أن السيطرة على المجتمع المدني جزء مهم من الهيمنة والسيطرة على الدولة، وهو يرى أن المثقف أو “الناشط المدني” بالتعريف الحديث، يجب أن يكونا مرتبطين بالسياسة، إذا ما أحسنّا فهم هذه النظرية.
المرحلة الخامسة والأخيرة، تلخّص فهمنا الحالي للمجتمع المدني، وهي مرحلة الموجة الثالثة للديمقراطية، وفق ما أسماها صامويل هنتنغتون (Samuel Huntington)، إذ أسهم المجتمع المدني بعد الحرب العالمية الثانية في إسقاط أنظمة مستبدة، وفرض أنظمة ديمقراطية تقوم على التعددية السياسية.
هذه المقدمة التاريخية، النظرية المرهقة، تدفع للتساؤل حول مكان الإعلام في المجتمع المدني، وهل يصح تعريفه وفق ما ورد في تعريفات المجتمع المدني، جهة مساءلة ورقابة وتعزيز الحريات.
هل تتقاطع مصالح المجتمع المدني مع مصالح الإعلام المستقل في جميع الأماكن، وهي لم تكن كذلك في جميع المراحل التاريخية، أم أن هناك مسافة يجب الحفاظ عليها.
هل يمكن أن تكون مهمة الإعلام، مثلًا، الدفاع عن جماعة دينية أو جنسية أو اقتصادية (نقابة عمال مثلًا)، أم أنه يجب أن يبقى المكان الذي يواجه جميع الأطراف، ويقوم بدور المساءلة أو المراقبة في طبقة أعلى، طالما أن بعض منظمات المجتمع المدني تقارب السياسية، بل وتفرض شروطها التي تحتمل انتصارها، ليتحول فكر تلك المنظمات أو الجماعات إلى جزء من نظرية الحكم.
ماذا لو تحولت ديمقراطية جماعة بعينها إلى سلطة استبداد، هل تقف مهمة الإعلام عند الحفاظ على موقعه المفترض، كجزء من المجتمع المدني، أم أنه يجب أن يتمتع بمرونة تمكّنه من الابتعاد عندما يتعارض أداء المجتمع المدني مع قيم الاستقلال والمنطق.
أسوق مثالًا الصراع بين “الإليزيه” والاتحاد الفرنسي الديمقراطي للعمل (CFDT) في مسألة رفع سن التقاعد في البلاد، هل يقف الإعلام مع النقابات إذا عرف أن فشل خطة رفع سن التقاعد يعني إدخال الدولة في خطر انهيار نظام التقاعد، أو عجز الدولة، وأن ارتفاع المعدلات العمرية يعني مئات المليارات التي يفترض زيادتها على الميزانية دون مداخيل، هل يدافع الإعلام عن الرفاهية أم عن الضرورات، أم يقف رقيبًا بين الطرفين.
هذا نقاش يفترض المتابعة في أكثر من مقال.. وللحديث بقية.