جنى العيسى | حسن إبراهيم
بسعر لا يتناسب مع تكاليف الإنتاج، وأقل من الأسعار التي تحددها سلطات الأمر الواقع عادة، تحدد حكومة النظام السوري في كل عام سعر شراء القمح من الفلاحين، الأمر الذي ترافقه عادة انتقادات ومطالبات لا تجد آذانًا صاغية، حتى من باب تشجيع فلاحي المحصول الاستراتيجي الأبرز في سوريا قبل 2011 على الاستمرار.
انخفاض الدعم الحكومي خلال مرحلة زراعة وحصاد القمح في مناطق سيطرة النظام، بالإضافة إلى تحديد سعر لا يتناسب مع التكاليف، يدفع الفلاحين في كل عام لبيع محصولهم خارج مناطق السيطرة حيث سعر المبيع الأعلى، ما يخلق سوقًا موازية للمادة، فضلًا عن عزوف بعضهم عن زراعة القمح للمواسم المقبلة، وتوجههم نحو محاصيل وزراعات أخرى بعوائد أفضل.
ومقابل عدم اهتمام حكومة النظام بالمحصول الاستراتيجي لجهة الدعم خلال مراحل الزراعة والحصاد ثم البيع، تولي الحكومة أهمية لاستيراد المادة من “الحليف الروسي” عبر عدة طرق لتعويض النقص كل عام.
تحاول عنب بلدي في هذا الملف، تفسير تعامل الحكومة مع المحصول الزراعي الأكثر أهمية في سوريا، وآثار ذلك على الفلاحين والمواطنين، مع طرح التساؤلات حول أسباب الاستعاضة عن ذلك بالقمح من روسيا، وطبيعة ما يتم تقديمه مقابل القمح الروسي.
السعر لا يناسب التكاليف..
القمح بيد “القصر الجمهوري”
في 18 من نيسان الماضي، حددت حكومة النظام السوري سعر شراء كيلو القمح من المزارعين بحدود 0.3 دولار أمريكي (2300 ليرة سورية)، واصفة السعر بـ”المشجع”، على الرغم من كون قيمته أقل من الذي حددته عام 2022 (0.5 دولار) وكان حينها يعادل نحو ألفي ليرة سورية.
إثر انتقادات حادة بأن السعر لا يتناسب مع التكاليف، رفعت اللجنة الاقتصادية في حكومة النظام سعر شراء المادة بعد نحو ثلاثة أسابيع من القرار الأول، وحددت سعر الكيلوغرام الواحد بـ2500 ليرة سورية، يضاف إليها مبلغ 300 ليرة كـ”حوافز تشجيعية”، ليصل السعر النهائي إلى 2800 ليرة للكيلو الواحد.
ورغم رفع السعر، لا يزال معظم المزارعين يعتبرون أنه لا يصل إلى الحد الأدنى من نفقات الزراعة، وسط ارتفاع تكاليف الحصاد هذا العام بنسبة 100%، فضلًا عن ارتفاع تكاليف الإنتاج من تأمين البذار والمحروقات والمياه وغيرها.
من يسعرّ القمح؟
المهندس الزراعي، والمدير العام الأسبق لـ”اتحاد الغرف الزراعية السورية”، سامر كعكرلي، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن آلية تسعير المحاصيل الاستراتيجية كالقمح والقطن وسابقًا الشعير، كانت منذ تسلّم حافظ الأسد السلطة وحتى عام 2005، تعتبر من مسؤولية قسم التكاليف في مديرية الاقتصاد الزراعي التابعة لوزارة الزراعة.
ويعتمد قسم التكاليف في تحديد السعر على تكاليف زراعة دونم واحد من القمح، متضمنًا تكاليف البذار، والأسمدة والمبيدات الحشرية، والمحروقات وأجور الحصاد وغيرها، بالإضافة إلى ريع الأرض، لكن بعض المزارعين قد يلجؤون لـ”ضمان” أراضٍ لا يملكونها لزراعة المحصول.
يرفع قسم التكاليف نتائج دراسته إلى المجلس الزراعي الأعلى، الذي يزيد بدوره نسبة 25% على الرقم المقترح لسعر الكيلو.
وبعد عام 2005، بدأ بشار الأسد بتوجيه حكومته نحو “اقتصاد السوق الاجتماعي“، لتخفيف تكاليف الإنفاق في عدد من القطاعات منها موسم القمح، وفق كعكرلي، مشيرًا إلى أن “القصر الجمهوري” بدأ بالتدخل في آلية تسعير التكاليف وتخفيضها لمستويات غير حقيقية، فمثلًا لم يعد ريع الأرض معيارًا لتحديد السعر، الأمر الذي يؤثر على سعر الشراء من الفلاحين.
الخزينة فارغة
أرجع المهندس الزراعي سامر كعكرلي تحديد سعر القمح بأقل من قيمة التكاليف الحقيقية هذا الموسم إلى تخفيف النفقات عمومًا، نتيجة انخفاض حجم السيولة النقدية لديه.
من جهته، فسر الباحث الاقتصادي زكي محشي تعامل النظام في ملف القمح بمراهنته على عدم قدرة الفلاحين على البيع خارج مناطق سيطرته، وضمانه بيع محصولهم للجهات الرسمية المسؤولة عن تسلّم المحصول، ومراهنته على ضعف آليات البيع في مناطق السيطرة الأخرى، إذ تعاني مناطق شمال شرقي سوريا من مسألة تسويق القمح والدور الطويل والتمييز بين الفلاحين، وبالتالي فهو يستغل المزارعين في تلك المناطق لشراء محصولهم عبر سماسرة.
ولا يملك النظام السيولة الكافية لتغطية التكاليف الحقيقية لإنتاج القمح مع هامش ربح للفلاح، وفق الباحث، معتبرًا أن ذلك أجبره على تحديد سعر يعد مقبولًا لجهة تغطية التكاليف لبعض الفلاحين فقط، إذ قد لا يغطي السعر المحدد تكاليف مواسم بعضهم الآخر، خاصة ممن اعتمدوا في الزراعة على كميات أكبر من الفيول والسماد والبذار مصدرها “السوق السوداء”.
ووفق ما يراه زكي محشي، يهتم النظام بتحقيق التوازن بين الفئات المجتمعية المختلفة منها الفلاحون، لتجنب أي اضطرابات اجتماعية مستقبلًا قد تؤثر على الاستقرار الهش الموجود حاليًا.
بينما يعتقد الدكتور في الاقتصاد الزراعي بجامعة “الزيتونة” الدولية سليم النابلسي، أنه لا يوجد عقل يفكر لدى النظام السوري فيما يتعلق بملف القمح، معتبرًا أن من يدير المشهد اليوم هم عبارة عن شخصيات مقربة من النظام الذي لا ينظر إلى الغير، وبالتالي لا يُعنى النظام حاليًا بالمحاصيل الاستراتيجية، ووجود مخزون للغذاء وما إلى ذلك.
وأوضح النابلسي، في حديث إلى عنب بلدي، أن النظام يتبع سياسة التخلي عن سياسات الدولة المركزية، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية، وبالتالي سينتقل من مرحلة الاقتصاد المركزي والشعارات الاشتراكية التي يُعرف بها إلى مرحلة نظام السوق المفتوح والعرض والطلب وأدوات النظام الرأسمالي كافة، ما يعني انسحابًا تدريجيًا من دور الدولة المركزية في دعم المزارعين ودعم المحاصيل الاستراتيجية، إلى دور الدولة كمراقب ومشرّع فقط.
أربع طرق لوصوله..
القمح الروسي بديل
بحسب تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو)، بلغ محصول القمح في سوريا لعام 2022 نحو مليون طن، بانخفاض 75% عن مستويات ما قبل 2011، في حين أن الشعير بات “شبه منعدم”.
ممثل المنظمة في سوريا، مايك روبسون، اعتبر منتصف أيلول 2022، أن عوامل تغير المناخ، وتعثر الاقتصاد، والقضايا الأمنية العالقة، تجمعت لتلحق ضررًا بالغًا بإنتاج سوريا من الحبوب عام 2022، ما ترك أغلبية مزارعيها في مواجهة “وضع حرج”.
وأشار المسؤول إلى أن تغير المناخ ليس التحدي الوحيد، لكن في دولة مثل سوريا، هناك صعوبة مضاعفة مع ارتفاع التضخم، وانعدام الكهرباء، وعدم وجود مدخلات إنتاج جيدة، بجانب بعض القضايا الأمنية العالقة التي لا تزال مستمرة في بعض أجزاء البلاد.
وبسبب العقوبات الغربية، تعاني حكومة النظام السوري صعوبات في الحصول على القمح من السوق الدولية، وعلى الرغم من أن الشحنات الغذائية لا تخضع للعقوبات الغربية، فإن القيود المصرفية وتجميد الأصول جعلت معظم الشركات التجارية تتجنب التعامل مع النظام، ما يدفع إلى حل وحيد هو الاستيراد من الحليف الأبرز لها روسيا.
ومنذ سنوات، تؤمّن حكومة النظام القمح من روسيا بطرق وأساليب متعددة، منها عبر اتفاقيات ثنائية نادرًا ما يتم الكشف عن أجزاء من تفاصيلها، أو عبر مناقصات تطرحها “المؤسسة العامة للحبوب” في سوريا لشراء القمح، أو ما ترسله روسيا من كميات وتسميه “مساعدات”، أو “سرقة” موسكو للقمح الأوكراني وإرسال قسم منه إلى سوريا، وفق ما كشفته شخصيات أوكرانية ووكالات أنباء، رغم نفي النظام لذلك.
وتعد روسيا أكبر دولة مصدّرة للقمح في العالم، مع توقعات بغلة وفيرة ووصول محصول القمح في روسيا إلى 78 مليون طن في عام 2023، بما في ذلك المناطق التي سيطرت عليها بعد غزوها أوكرانيا، وفق ما ذكره وزير الزراعة الروسي، ديمتري باتروشيف، خلال اجتماعه عبر الفيديو مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في نيسان الماضي.
أولًا: اتفاقيات “سرية”
تغيب معظم تفاصيل استيراد حكومة النظام القمح من روسيا، وتعلن عبر تصريحات رسمية بأن استيراد القمح يتم من روسيا “الصديقة”، وكشفت وكالات إعلامية، سابقًا، تسريبات عن بعض العقود.
وتخلل هذه الاتفاقيات حديث لمسؤولين في حكومة النظام عن تغيير الوجهة (روسيا) والبحث عن بديل، لكنها كانت في إطار المحاولة دون أن تبصر النور.
في كانون الثاني 2022، أعلن رئيس شبه جزيرة القرم الأوكرانية (ضمّتها روسيا من أوكرانيا منذ 2014)، سيرجي أكسيونوف، توقيع اتفاقيات مع حكومة النظام السوري، جاء فيها أن مزارعي القرم سيزوّدون سوريا بما يصل إلى مليوني طن من القمح سنويًا، مضيفًا أن حكومة النظام “مستعدة لشراء القمح”.
بعد شهرين من حديث أكسيونوف، أعلن المدير العام لـ”المؤسسة العامة لتجارة وتخزين وتصنيع الحبوب” في سوريا، عبد اللطيف الأمين، أن المؤسسة تنوي التعاقد على توريد 200 ألف طن قمح من الهند، كما أنها تبحث عن خيارات بديلة عن روسيا لاستيراد القمح، بسبب ارتفاع أسعاره فقط، مشيرًا إلى أن قرار روسيا بمنع تصدير القمح حينها لا ينطبق على سوريا.
وأوضح الأمين، في حديث إلى صحيفة “تشرين” الحكومية في آذار 2022، أن تكاليف استيراد الطن الواحد من القمح ارتفع من 317 إلى 400 دولار أمريكي بعد رفع قيمة التأمينات، إلا أن العقود القديمة من روسيا (300 ألف طن) يتم توريدها بالتدريج وبالسعر القديم، على حد قوله.
لم يتم الحديث بعدها عن وصول أي كميات قمح من الهند، حتى قال المدير العام لـ”المؤسسة السورية للحبوب”، في تموز 2022، إن المؤسسة أبرمت عقودًا لاستيراد مادة القمح “تكاد تكفي” لغاية بدء موسم عام 2023، وأوضح أن تعويض النقص في القمح يتم عبر استيراده من روسيا ودول البحر الأسود، وأنه عند الحاجة تُبرم المؤسسة عقود مقايضة لاستيراد الدقيق عوضًا عن النخالة كحل إسعافي، وفق حديثه إلى صحيفة “الوطن” المحلية.
بعد 15 يومًا من حديث الأمين، وافقت حكومة النظام على منح “مؤسسة الحبوب” قرضًا ماليًا بقيمة 100 مليار ليرة سورية، بهدف “تمويل عملية شراء موسم القمح للعام 2022، لتعزيز المخزون الاستراتيجي من المادة”.
وفي تشرين الأول 2022، كشف وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك السابق، عمرو سالم، عن وجود مباحثات للتعاقد على توريد القمح الروسي إلى مناطق سوريا، وقال إن هناك تنفيذًا لعقود موقعة بـ600 ألف طن تباعًا، وإنه تم التعاقد على مليون طن من القمح الروسي سيتم تسلّمها تباعًا، لافتًا إلى أنها تكفي الحاجة حتى حزيران 2023.
وذكر سالم، وفقًا لصحيفة “تشرين“، أن مباحثات تجري مع الشركات الروسية من أجل تسويق المنتجات الفائضة، ودراسة إمكانية تصدير بعض المواد والمحاصيل السورية لتخفيف فاتورة القمح مثل الحمضيات وزيت الزيتون.
الحديث عن تبادل الحمضيات مقابل القمح الروسي يتجدد مع كل اتفاقية، لكن عملية التبادل تثير شكوكًا نظرًا إلى عدم نجاحها دائمًا، وعدم إفصاح حكومة النظام أو روسيا عما إذا كان تصدير تلك المنتجات إلى روسيا هو مقابل القمح من موسكو.
وفي 27 من شباط الماضي، أعلنت وزارة التجارة الداخلية تصدير دفعة أولى من البرتقال “الماوردي” إلى روسيا بلغت 250 طنًا، عبر استجرارها من الفلاحين مباشرة وفرزها وتوضيبها في مراكزها بمنطقة الساحل.
وقال مدير عام “المؤسسة السورية للتجارة”، زياد هزاع، إن هناك أنواعًا أخرى من الحمضيات سيتم تصديرها، لافتًا إلى أن الاتفاق الحالي يكون بتصدير كميات المرحلة الأولى، أي نحو 1000 طن، لكن الحاويات التي وردت تستوعب 250 طنًا من البرتقال، مرجّحًا الاتجاه لتصدير الخضراوات والمواد الزراعية الأخرى، وفق صحيفة “الوطن“.
ثانيًا: مناقصات استدراج
سعى النظام السوري خلال الأعوام الماضية وعبر فترات متقطعة إلى الحصول على القمح من خلال طرح مناقصات من قبل “مؤسسة الحبوب”، يتم فيها إعلان استدراج عروض أسعار داخلية- خارجية للتعاقد “بالتراضي” لاستيراد كمية قمح محددة بالطن.
وتضع “مؤسسة الحبوب” شروطًا ومعايير لكل مناقصة من تحديد تأمينات لكل طن معروض، ومدة شحن الكمية، مع تحديد العارض منشأ ومصدر البضاعة بعرضه وفق ما هو مسموح به، وتقديم العرض بالدولار الأمريكي.
وتحدد معظم المناقصات وجهة استيراد القمح من روسيا، ومنها رومانيا وبلغاريا، ونادرًا ما تتجه نحو دول الاتحاد الأوروبي، كالتي طرحتها حكومة النظام في 12 من آب 2020، لشراء 200 ألف طن من القمح، من دول الاتحاد الأوروبي ومنطقة البحر الأسود.
ثالثًا: “مساعدات” مجانية قبل التدخل العسكري
أرسلت روسيا القمح إلى سوريا على أنه مساعدات إنسانية من دولة “صديقة وحليفة”، قبل تدخلها عسكريًا في سوريا عام 2015، واستمر وصول كميات من المحصول بعد ذلك، منها 100 ألف طن كمساعدات في آذار 2015، و50 ألف طن في آب 2016، وما بعدها.
في آب 2016، قالت وكالة “رويترز” نقلًا عن مصدر حكومي سوري لم تسمِّه، إن سوريا لم تتسلّم بعد أي قمح روسي بموجب اتفاقيات تجارية وقّعتها “المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب”، رغم توقيع اتفاقيتين مع السلطات الروسية باستيراد القمح.
وقال وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، في كانون الأول 2020، إن روسيا قدمت 100 ألف طن من القمح إلى سوريا خلال العام نفسه، وتخطط لمزيد من الشحنات كجزء من المساعدات الإنسانية.
المحلل الروسي والباحث غير المقيم في برنامج سوريا بمعهد “الشرق الأوسط” أنطون مارداسوف، قال لعنب بلدي، إن روسيا كانت تزوّد سوريا بالقمح بالمجان على نفقتها الخاصة قبل أن تتدخل عسكريًا، لكن بعد ذلك تحول الطرفان إلى العقود.
وأوضح مارداسوف أن الجانب الروسي بعد تدخله عسكريًا، غيّر مخططات الإمداد عدة مرات بسبب العقوبات، وأعطى مثالًا بأن شركة جنوبي روسيا زوّدت سوريا بالقمح والذرة على الورق، لكنها في الواقع لم تشارك في عملية التزويد على الإطلاق، ولم يكشف الجانب الروسي عن الموردين بسبب العقوبات، كما أن تفاصيل صادرات القمح سرية.
من جهته، قال المهندس الزراعي سامر كعكرلي، إن ملف عقود القمح مرتبط بالسياسة أكثر من كونه اقتصاديًا، وإنه صادر عن “القصر الجمهوري”، وإن هناك رجال أعمال (مافيات القمح) مقربين منه، لهم مصلحة كبيرة بعدم توفر القمح من أجل كسب العمولات، لافتًا إلى أن النظام يغامر بالمحصول لمصلحة “مافيات القمح”.
رابعًا: قمح “مسروق”
بعد أربعة أشهر من غزو روسيا لأوكرانيا، قالت السفارة الأوكرانية في بيروت في حزيران 2022، إن روسيا أرسلت ما يقدّر بنحو 100 ألف طن من القمح سُرقت من أوكرانيا منذ غزوها البلاد، واصفة الشحنات بأنها “نشاط إجرامي”، ومع ارتفاع أسعار القمح عن 400 دولار للطن، فإن قيمتها ستكون أكثر من 40 مليون دولار.
وأفادت السفارة أن الشحنات تمت بواسطة السفينة “ماتروس بوزينيتش” التي ترفع العلم الروسي، والتي رست في ميناء “اللاذقية” السوري أواخر أيار 2022، وفق بيان تلقته وكالة “رويترز“.
وزادت سوريا بشكل كبير واردات القمح من شبه جزيرة القرم بمقدار 17 ضعفًا منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 من شباط من العام نفسه، بحسب ما قالته وكالة “رويترز” في 19 من كانون الأول 2022، ووفقًا لبيانات الشحن التي لم يُبلّغ عنها سابقًا، تجاوزت كمية القمح المشحونة 500 ألف طن.
قوبل الحديث عن تسلّم قمح مسروق من أوكرانيا بنفي من سفير النظام السوري في روسيا، رياض حداد، وقال إن سوريا لم تتلقَّ أو تستقبل القمح الأوكراني، وإن الشحنات تأتي من روسيا بموجب عقود طويلة الأجل تم توقيعها قبل بدء “العملية العسكرية” الروسية في أوكرانيا، معتبرًا أن الحديث عن قمح مسروق “فبركة إعلامية”.
لا ضغط بوجود روسيا
أساليب متعددة للحصول على محصول استراتيجي من روسيا في وقت تتوفر فيه ربما خيارات أخرى للحصول على المادة محليًا، كرفع سعر شراء القمح من التجار، الأمر الذي يجنّب خلق سوق موازية، وكذلك ربما يحفّز تجارًا في مناطق السيطرة المختلفة على بيع المحصول لمن يدفع أعلى سعر.
لا يشعر النظام بكثير من الضغط في ملف القمح، بسبب قدرته على استيراده بأسعار تفضيلية من روسيا، نتيجة سيطرتها على القمح الأوكراني، والضوابط التي وضعتها موسكو لبيع القمح للأسواق العالمية، وفق ما يراه الباحث الاقتصادي زكي محشي.
وقال الباحث، إنه على الرغم من أن استيراد القمح يزيد أعباء الموازنة العامة للدولة، فإنه يعزز العلاقات أكثر مع روسيا، بالإضافة إلى أن الاستيراد إلى سوريا يتم عبر “محاسيب” النظام الذين يبحثون عن مكاسب عبر هامش ربح من هذه التجارة، وهو ما يحقق بدوره نوعًا من توازن القوى الذي يريده النظام مع “محاسيبه” من جهة، والحلفاء الخارجيين من جهة أخرى.
الدكتور والباحث في الاقتصاد السياسي جوزيف ضاهر، يعتقد أن سبب تضحية النظام السوري بكميات من محصول القمح الاستراتيجي المحلي على حساب القمح الروسي، هو مزيج بين نقص الإمكانيات المالية وقدرات الدولة لدعم الزراعة (بما في ذلك من خلال الوصول وتوفير الأسمدة وموارد الطاقة والكهرباء)، وأيضًا الرغبة العامة في الترويج للقطاع التجاري، حيث يوجد عديد من رجال الأعمال الجدد المرتبطين بالنظام السوري.
واعتبر ضاهر في حديث لعنب بلدي، أن تعدد الطرق للحصول على القمح من روسيا، ربما لأن النظام السوري غير قادر على شراء بمثل هذه المبالغ، جراء نقص الاحتياطيات المالية والعملات الأجنبية.
الأسعار والمحصول مهددان بالتأثر
في 20 من نيسان الماضي، حذّر رئيس مكتب التسويق والتصنيع في اتحاد الفلاحين التابع لحكومة النظام، أحمد الخلف، من خلق السعر المفروض المتدني للقمح “سوقًا موازية بأسعار مرتفعة أكثر من السعر المحدد”، قد تؤدي إلى عزوف الفلاحين بالموسم المقبل عن زراعة هذا المحصول الاستراتيجي، والتوجه إلى زراعات توفر دخلًا أفضل لهم.
ولم تأخذ تسعيرة الحكومة الأولى قبل التعديل تكاليف الإنتاج والمعيشة للفلاحين وعائلاتهم من نقل وطعام ودراسة أبنائهم وغيرها بعين الاعتبار، بحسب الخلف، مشيرًا إلى أن سعر كيلو البرغل حاليًا في الأسواق يصل إلى سبعة آلاف ليرة، وكيلو “الفريكة” يصل إلى 20 ألف ليرة، وهما منتَجان من القمح.
الدكتور في الاقتصاد الزراعي بجامعة “الزيتونة” الدولية سليم النابلسي، قال لعنب بلدي، إن عدم توفر مخزون كافٍ من القمح سيوجب على الدولة الاستيراد الذي يرهق بدوره خزينتها، وبذلك سيلجأ النظام إلى تعويض الخسائر عبر رفع أسعار الخبز وتخفيض مخصصات “المدعوم” منه.
وحول أثر سياسة النظام في ملف القمح على مزارعي المحصول، أوضح النابلسي أن المزارع سيستمر بعمله الزراعي، وهو معنيّ بأن يحصل بنهاية أي محصول، بغض النظر عن نوعه، على أموال تغطي تكاليفه وتحقق له هامش ربح يمكّنه من الحياة الكريمة، فالمزارع على مستوى الفرد غير مهتم بالقضايا الاستراتيجية، لذا سيلجأ للتخلي عن زراعة القمح في حال كانت اقتصاديات المحصول تسبب له خسائر، أو لا تغطي التكاليف على الأقل، ويزرع عوضًا عنه محاصيل أخرى تحقق له عائدًا اقتصاديًا جيدًا.
ونهاية كانون الأول 2022، قال رئيس الاتحاد المهني لعمال الصناعات الغذائية والزراعة، ياسين صهيوني، إن خسارة الفلاحين في موسم الحبوب الماضي بلغت 1718 مليار ليرة سورية، منها 532 مليار ليرة في محصول القمح، و1186 مليار ليرة في محصول الشعير، واصفًا النتيجة بـ”الكارثية” على البلاد والفلاحين، موضحًا أنه لم يجرِ البحث والتحليل ووضع استراتيجية لمنع حدوثها في المواسم المقبلة.
وأوضح صهيوني أن خطة زراعة القمح كانت 1.5 مليون هكتار، نُفّذ منها 1.2 مليون هكتار، وقُدّر إنتاج الموسم الماضي بحدود ثلاثة ملايين طن من القمح، بينما دلّت المؤشرات على أن الإنتاج الحقيقي كان 1.7 مليون طن، لكنه قال إن الحكومة لم تتسلّم سوى 530 ألف طن من الإنتاج.