عنب بلدي – عبد الكريم الثلجي
لا يمكن أن تمر بجانب مخيم “النصر” في منطقة حربنوش شمالي إدلب، الذي هُجر أهله منذ عدة سنوات من جنوبي إدلب إلى شمالها، دون أن تشدّك رائحة القهوة العربية المنبعثة من خيمة كبيرة مطرزة تتقدم المخيم، مع صوت “المهباش” الذي يطرب المسامع، لتُطحن به حبات القهوة المحمصة، وكأنها سمفونية بدوية.
ما يلفت النظر داخل الخيمة، موقد النار الذي تتوسطه دلال القهوة النحاسية، والفناجين والفرش العربي المطرز بعناية، ورائحة القهوة العربية (المرة) تملأ أرجاء المخيم بأكمله.
معدات لطالما احتفظ بها أبناء القبائل والعشائر السورية، على الرغم من موجات التهجير المتكررة إلى شمال غربي سوريا، فهم يحافظون على عادة تقديم القهوة العربية للضيوف مع ظروف النزوح والحياة الصعبة وتردي الأوضاع الاقتصادية.
من داخل الخيمة الكبيرة في مخيم “النصر”، يقف حيان العطور (35 عامًا) خلف موقد النار لتجهيز القهوة للضيوف، بعد أن يجددها ممزوجة بحبات الهال المطحونة بـ”المهباش”، ترحيبًا منه بقدوم ضيف جديد، ليجتمع بعدها رجال المخيم في المضافة للترحيب به.
الظروف الصعبة لم تمنع حيان، ابن عشيرة “المشارفة” إحدى عشائر قبيلة “الموالي”، من الحفاظ على عاداته وتقاليده التي تربى عليها من عهد آبائه وأجداده، وفق ما قاله لعنب بلدي، مضيفًا أن هذا الموروث متجذر في نفوس الصغير والكبير من أبناء عشيرته، ورغم صعوبة وضعهم المعيشي، فإنهم يقدمون القهوة العربية بشكل يومي، ويقيمون الولائم في الأفراح والأتراح، ويجتمعون في خيمة والده يوميًا، لتبادل الأحاديث في جلسات المساء.
ظروف الحرب والتهجير والنزوح والأوضاع المعيشية والاقتصادية المتردية فرضت نفسها على السوريين على مدار عقد من الزمن، ولا سيما القاطنين شمال غربي سوريا، الذين هُجروا من مختلف المحافظات السورية، حيث يسكن في مخيمات المنطقة قرابة 1.9 مليون نسمة، يُشكّل أبناء العشائر السورية جزءًا كبيرًا منهم.
للقهوة العربية رمزيتها
لطالما ارتبطت القهوة العربية بالإنسان العربي في حلّه وترحاله، يحملها مع مؤونة بيته، يقدمها للضيف كنوع من الحفاوة، وهي جاهزة على الدوام، ويتم تجديدها كلما انتهت الكمية.
أحد وجهاء قبيلة “الفضل” ممدوح العيسى أبو إبراهيم (50 عامًا)، قال لعنب بلدي، إن للقهوة أهمية ورمزية كبيرة لدى أبناء القبائل والعشائر السورية، ففيها “تُحل النشب (المشكلات)، وهي من أبواب الكرم عند العرب”.
في حين يعتبرها زكريا شمس الدين (34 عامًا)، أحد أبناء قبيلة “بني جميل”، وهو مهجر من جنوبي حلب إلى منطقة سرمدا شمالي إدلب، من العادات العربية الأصيلة والمتجذرة في التاريخ، ولا يستغني عنها العربي مهما زادت عليه مصاعب الحياة وظروف التهجير، فهي جزء لا يتجزأ من كينونته.
وقال زكريا لعنب بلدي، إن القهوة العربية ذوق وليست شرابًا، وهي رمز للكرم العربي وإغاثة الملهوف وقضاء حوائج الناس، فكثير من المشكلات من قتل أو سرقة أو شجارات جماعية يتم حلها عن طريق استخدام فنجان القهوة، لفض النزاع أو لقبول طلب من الشخص المضيف (راعي القهوة).
وأضاف أن لكل فنجان قصة، تختلف من منطقة عربية لأخرى، إلا أن القبائل السورية والعربية تجتمع على أمور جوهرية مرتبطة بالقهوة العربية ورمزيتها، وطريقة تحضيرها وتقديمها للضيف.
وتعد القهوة العربية المشروب الرسمي لأبناء القبائل والعشائر السورية، الذين يقطنون في أرياف المحافظات السورية، بالإضافة إلى مناطق البادية ذات الطبيعة الصحراوية، ورغم تطور الحياة ودخول مشروبات ساخنة وباردة، فإن القهوة العربية المعدة بعناية ما زالت تحافظ على مكانتها.
عادات وتقاليد
إضافة إلى كون القهوة لها رمزية وأهمية لدى العرب، فقد رافقتها عادات وتقاليد لطالما ارتبطت بها، وتغنى بها الشعراء وكانت حديث الرجل البدوي في مجالسه، فهي موروث شعبي لا يمكن الاستغناء عنه، وحاضرة في كل المناسبات، تقدم للضيف رغم كل الظروف.
نواف الشويطية أبو النوري (60 عامًا)، أحد وجهاء قبيلة “شمر”، قال إن للقهوة العربية طقوسها وعاداتها الكثيرة، وإن اختلفت بين بلد وآخر، إلا أنها تتشابه في الأساسيات، فمنها أن الضيف عندما يأتي يجب تجديد القهوة لإشعاره بالأمان، يترافق ذلك مع بشاشة الوجه من قبل المضيف للتعبير عن حسن الاستقبال.
وأضاف “أبو النوري” في حديث إلى عنب بلدي، أنه يجب أن يشرب “المعزب” أو “القهوجي” (شخص متخصص بتقديم القهوة المرة) أول فنجان، للتأكيد على جاهزية القهوة وأنها خالية من أي عيب (كأن تكون باردة أو قديمة أو فيها مواد مؤذية، فلها معانٍ سلبية).
ولتقديم القهوة قواعد لا يمكن تجاوزها بحسب “أبو النوري”، الذي يعتبر أن القهوة مرتبطة بأمور لا يفسرها إلا أهل الدراية بالقهوة ومعانيها، لافتًا إلى أن “القهوة خص والشاي كص والذبيحة نص”.
ويفسر “أبو النوري” ذلك بأن “القهوة خص”، إذ يجب أن تخص بتقديمها أولًا الرجل الأعلى قدرًا، والذي يحظى بمكانة مرموقة في المجالس من كبير القوم، أو عالم جليل، أو رجل له جاه ومحط احترام وتقدير الناس، ثم يستكمل صبّ القهوة من عنده إلى حين الانتهاء إلى اليسار، ومن ثم المعاودة إلى اليمين لكي تُصب لجميع الحضور.
وتابع أن “الشاي كص”، أي تبدأ التقديم من اليمين إلى اليسار لكل المجلس، وأن “الذبيحة نص”، أي يجب أن تقول وتنص على أن هذه “الذبيحة والغداء على جاه ولأجل الضيف الفلاني قبل أن يباشر الضيوف طعامهم”.
قصص الفناجين
أعطى العرب أهمية لكل تفاصيل القهوة وتقديمها، وارتبطت بأحداث مهمة في حياتهم، إلى أن أصبحت كالعرف الذي يسري على الجميع ويعرفه الصغير قبل الكبير، فلكل فنجان قصة كما قال ممدوح أبو إبراهيم، أحد وجهاء قبيلة “الفضل”، الذي روى لعنب بلدي أن الفناجين أربعة: “الهيف، والضيف، والكيف، والسيف”.
وأوضح أن فنجان “الهيف” يشربه “القهوجي” أو “المعزب” بعد تجهيز القهوة، لإشعار الضيف بالأمان، وأن القهوة خالية من العيوب أو السم، أما الثاني فهو فنجان “الضيف”، وهو الأول الذي يُقدم للضيف، وإذا طلب الضيف فنجانه الثاني فيسمى حينها “الكيف”، وإذا طلب الثالث فيسمى “السيف”، وهنا يتم تنبيهه من قبل “المعزب” بأنه الفنجان الثالث الذي يشربه، والذي يرمز لأمر كبير، وهو أن الضيف مستعد للقتال بجانب “معزبه” إذا قام بحرب أو وقعت عليه حرب “دمهم يسد عن بعض، كما يقول المثل”.
ولـ”القهوجي” مواصفات يتم اختياره على أساسها، بحسب زكريا شمس الدين، أحد أبناء قبيلة “بني جميل”، الذي قال، “كان العرب قديمًا يختارون القهوجي لا يسمع ولا يتكلم، لعدم حفظ الأحاديث التي تدور بالمجلس من باب الأمانة، فيكرر القهوجي الصب إلى أن يهز الضيف فنجانه في إشارة إلى الاكتفاء”، مضيفًا أن من يصب القهوة يجب أن يقدمها واقفًا، ممسكًا بالدلة من اليسار ويقدم الفنجان باليمين، وأن يدق على الفنجان لإصدار صوت بتنبيه الضيف أنه سيقدم له القهوة.
ومن العادات المرتبطة بالفناجين أيضًا، أن يأتي ضيف صاحب حاجة عند المضيف إذا كان من كبار القوم، فيضع الضيف فنجانه على الأرض، طلبًا لقضاء حاجته، فيقول “المعزب”، “اشرب وحاجتك مقضية بعون الله، أو أبشر، اللي تجي بي تروح بي”، في إشارة إلى تلبية طلبه ضمن المستطاع.
وفي الحروب بين القبائل أيضًا يقال من يشرب فنجان فلان، وهو الخصم المستعصي على القبيلة من أجل ندب رجل شجاع لملاقاته.
طريقة التحضير
للقهوة العربية المطبوخة بحبات الهال طريقة خاصة للتحضير تستغرق عدة ساعات، وتحتاج إلى خبرة ودراية أو “كيف ومزاج” كما يقول أصحاب المصلحة.
هيثم الأحمد (31 عامًا) من قرية الكرامة غربي إدلب، روى لعنب بلدي طريقة تحضير القهوة العربية، قائلًا، إنه يشتري حبات القهوة الكولومبية الخضراء من السوق، ويحمصها على النار بـ”المحماس”، ويحركها بملعقة كبيرة لها عصا طويلة، ويستمر بتحريك حبات البن حتى تصبح شقراء اللون، ليتم تبريدها بإناء يسمى “المبرادة”، وهو مصنوعة من الخشب، ثم توضع في “النجر” (المهباش) لطحنها ووضعها على النار لعدة ساعات حتى تغلي.
بعد أن تغلي تتم تصفيتها ووضعها في الدلة أو المصب، وإضافة حبات الهال المطحونة إليها، وتغلي مع الهال على النار، حتى تصبح جاهزة وتُقدم للضيف.
في حين يجتهد أحمد عبد العزيز، وهو مهجر من قرية بريديج بريف حماة إلى منطقة سرمدا، بالعناية بتحضير القهوة العربية وسط أجواء بدوية يتخللها تبادل الأحاديث والأشعار والعزف على الربابة التي لها مكانة خاصة عند البدو.
وللقهوة “معاميل” (أدوات) ترافقها، هي: “المنقل، والدلال، والمحماس، والمبرادة، والمهباش، والطباخ، والفناجين”، وهناك عدة أنواع من الدلال المصنوعة من النحاس هي: “الرسلانية، والبغدادية، والقرشية، والحمصية، والحجازية، والعساف”.
وعُرفت القهوة العربية لدى العرب في القدم نتيجة احتكاكهم ببلاد الحبشة عن طريق تجار اليمن، إذ دخلت الأقطار العربية، واكتُشفت لاحقًا في اليمن، ويعتبر البن العربي بالإنجليزية “Arabica” الأكثر شعبية في العالم، إذ يشكّل ما يقارب 60% من القهوة في العالم، ويتميز البن العربي بنكهته الغنية وطعمه قليل الحموضة.
وهناك القهوة الجنوبية، وهي ما تسمّى “الشعيلة” أو “الشقرا”، وهي خفيفة مائلة إلى الصفرة، موجودة في نجد والحجاز وأغلبية دول الخليج، والقهوة الشمالية (السوداء)، وهي موجودة في بلاد الشام، وهناك القهوة التركية، لكنها ليست مقيّدة بعادات وتقاليد القهوة العربية.