الحسكة – مجد السالم
“مشكلات تدريس الأبناء لا تنتهي، أصبح التعليم همًا يؤرق الأهالي بالمعنى الحرفي للكلمة”، بهذه الكلمات عبر مهند الجلود (49 عامًا) من ريف بلدة ليعربية لعنب بلدي عن المشكلة التي تواجه العائلات، قبل أيام قليلة تفصل أبناءها عن بدء امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية، وتتمثل في بعد مراكز الامتحان المعتمدة من قبل حكومة النظام عن مناطقهم.
يقطعون مئات الكيلومترات
ابنة مهند طالبة في الصف التاسع الإعدادي، يقع مركزها الامتحاني في مدينة القامشلي ضمن المربع الأمني، وبما أنه يقيم في اليعربية، ستكون ابنته مجبرة على قطع مسافة نحو 100 كيلومتر يوميًا للوصول إلى مركزها الامتحاني، ما يجبره على البحث عن وسيلة نقل خاصة لتأمين الطريق خلال فترة الامتحانات.
وفي حال استأجر سيارة خاصة لوحده، فإن ذلك سيكلفه نحو 500 ألف ليرة سورية طوال فترة الامتحانات، وهو ما يفوق قدرته المادية، لذلك سيلجأ إلى مشاركة التكاليف مع أقاربه أو جيرانه، من خلال تنظيم وسيلة نقل مشتركة للطلاب وتقاسم أجرتها.
الشراكة في وسائل النقل بين الجيران أو الأقارب لا تعتبر حلًا “رحيمًا”، بحسب ما قاله مهند لعنب بلدي، إذ تبلغ حصة كل طالب نحو 100 ألف ليرة سورية في حال قرروا استئجار سيارة من نوع “فان”.
وأضاف أن أجور المواصلات تتغير بين اليوم والآخر، إذ يتحكم السائقون بعدد الركاب، ويحاولون جلب أكثر عدد ممكن من الطلاب دون مراعاة قواعد السلامة، أو راحة الطلاب في أثناء توجههم إلى ما يعتبرونه أهم امتحان خلال السنوات الدراسية، وهو الشهادة الإعدادية.
خالد محمد (45 عامًا)، سائق سيارة “فان” من ريف بلدة جزعة جنوب شرقي القامشلي، قال لعنب بلدي، إن ما يجنيه من أجرة مقابل نقل الطلاب إلى مراكز امتحاناتهم يعتبر بسيطًا إذا ما قورن بارتفاع تكاليف الصيانة والمحروقات التي تُحسب كلها بالدولار.
وتتحكم الأسعار المحيطة به بتعرفة الركوب بالنسبة له، خصوصًا أن التزامه مع الطلبة ربما يفوّت عليه كثيرًا من “الطلبيات الخاصة” التي تعادل أجرتها أضعاف ما يحققه من أجرة نقل الطلاب، وإلى جانب ذلك، فإن هذا النوع من العقود بحاجة إلى التزام “صارم” بعدم التأخر مهما كانت الأسباب، ما يجعل عديدًا من أصحاب سيارات الأجرة (فان، تاكسي) يرفضون فكرة العمل مع طلبة الشهادة الثانوية والإعدادية، وهو ما اعتبره السائق مبررًا لارتفاع الأسعار.
المدارس بين سلطتين
منذ سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على محافظة الحسكة، وضعت يدها على جميع المدارس الحكومية في أهم المدن، كالمالكية واليعربية والجوادية والقحطانية ورميلان والدرباسية وعامودا، بالإضافة إلى مئات المدارس الريفية.
وعمل النظام منذ ذلك الحين على حصر المراكز الامتحانية ضمن المدارس الواقعة في المربعات الأمنية بالحسكة والقامشلي، ما أجبر آلاف الطلبة من بقية مدن المحافظة على تقديم امتحاناتهم ضمن هذه المراكز “المعترف بها فقط”، مهما كانت المسافة التي تبعد بين مكان إقامتهم والمركز الامتحاني.
مئات العوائل من ريف المحافظة أو من بقية المدن باتت تبحث عن مكان يقيم فيه أولادهم طلاب “البكالوريا” أو “التاسع” في القامشلي أو الحسكة خلال فترة الامتحان، للتخفيف من أعباء التنقل، من حيث الوقت والتكاليف المادية.
رشيد الجلود (50 عامًا)، حاول البحث عن غرفة يستأجرها لابنه طالب الشهادة الثانوية في مدينة الحسكة، فطُلب منه 50 دولارًا كأجرة لشهر واحد فقط، بحسب ما قاله لعنب بلدي، يضاف إليها مصاريف الطعام وتجهيز الغرفة ببعض الأثاث الضروري.
في النهاية، تخلى رشيد عن الفكرة، بعد أن عرض عليه أحد أقاربه المقيمين في القامشلي استضافة ابنه طوال فترة الامتحانات، وتخليصه من عبء البحث عن غرفة للإيجار، وهو أحد الحلول التي اعتبر رشيد أن فيها كثيرًا من “الحرج”، وتحمّل الآخرين أعباء إضافية نتيجة “الوضع الاقتصادي المتدهور”، لكنه أُجبر على الموافقة، نظرًا إلى عدم وجود خيارات بديلة.
وبحسب حالات لطلاب رصدتها عنب بلدي في الحسكة، فإن استضافة الأقارب والأصدقاء للطلبة من أبناء الريف وبقية المدن، تعتبر أحد الحلول التي تلجأ إليها مئات العوائل، وتشكّل نوعًا من التكافل الاجتماعي للتغلب على هذه المشكلة التي ترافق الامتحانات في كل عام.
تخضع المحافظة لنظام تعليمي “مزدوج“، جزء يعود للنظام السوري، والآخر لـ”الإدارة الذاتية” التي تفرض مناهجها بالقوة، مع عدم وجود اعتراف رسمي بالشهادات التي تصدرها، وصعوبة الوصول إلى المدارس الحكومية التي باتت قليلة ومكتظة، وهو ما نتج عنه تسرب آلاف الطلاب من التعليم، وتفشي الأمية بنسب عالية.
“الحرة” أكثر صعوبة
يبدو الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لطلبة الشهادة “الحرة” (خرجوا من المدارس وقرروا تقديم الامتحانات فقط)، إذ تنحصر مراكز امتحاناتهم ضمن مدينة الحسكة فقط.
وهناك طلبة سيقطعون مسافة نحو 400 كيلومتر (ذهابًا وإيابًا)، كالطلبة من أبناء مدينة المالكية في أقصى الشمال الشرقي ومن مدينة اليعربية على الحدود العراقية، وهم يقطعون مسافات طويلة للوصول إلى الامتحان في مركز المحافظة.
وبحسب طلاب مقبلين على تقديم امتحانات الشهادة الثانوية “الحرة” قابلتهم عنب بلدي، يحتاج كل واحد منهم إلى مصروف يومي يصل إلى نحو 30 ألف ليرة سورية كأجرة للطريق فقط، بالإضافة إلى الجهد البدني والإرهاق الذي يتحمله الطالب الذي يغادر منزله في السادسة صباحًا ويعود في مساء اليوم نفسه.
ويقترب سعر صرف الليرة السورية من تسعة آلاف مقابل كل دولار أمريكي، بحسب موقع “الليرة اليوم” المختص برصد حركة العملات.
ومنذ عام، أغلقت “هيئة التعليم” التابعة لـ”الإدارة الذاتية” في محافظة الحسكة عدة مدارس بسبب “مخالفتها” قوانين الهيئة هناك، من بينها ثلاث مدارس سريانية، بدعوى عدم حصولها على التراخيص اللازمة ومخالفتها أحكام القانون.
وبدأت “الإدارة الذاتية” منذ عام 2015 إدخال المناهج الجديدة باللغة الكردية إلى الصفوف الابتدائية الأولى، في المناطق الخاضعة لسيطرتها، ثم انتقلت بالتدريج إلى تعميم المناهج الجديدة على الطلاب في المراحل الدراسية المختلفة، إلى أن وصلت إلى الصف التاسع الإعدادي.