برنامج “مارِس” التدريبي – حسين نجار
بين آلات معامل الخياطة، أو بين أصوات قرع الحديد، أو ربما بين أعمال الإنشاءات الشاقة في تركيا، قد تجد أحد المعلمين السوريين هنا وهناك، يعمل بعيدًا عن مهنته التي ربما أمضى أكثر من نصف عمره وهو يعمل بها.
آلاف المعلمين السوريين في تركيا أُوقفت عقودهم من قبل “مديرية التعليم مدى الحياة” التابعة لوزارة التربية والتعليم التركية على دفعات متتابعة، ليصبح المعلم بعيدًا عن سلك التعليم وربما عاطلًا عن العمل في ظل الظروف المعيشية الصعبة في بلد اللجوء.
“ظلم” ومصير مجهول
بدأ محمود إدلبي (38 عامًا) عمله معلمًا للطلاب السوريين في المدارس التركية منذ عام 2015 حتى مطلع 2023، ولم ينقطع عن عمله خلال هذه الفترة إلا مرة واحدة عام 2021 واستمر الانقطاع لمدة ستة أشهر، حسبما ذكره لعنب بلدي.
وقبل فترة انقطاعه كان يعمل بصفة “معلم متطوع” من دون تأمين (سيجورتا)، ويتقاضى على ذلك “منحة” أو “مكافأة” قيمتها أقل من الراتب الأصغري في تركيا بدعم من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف).
وفي الشهر الثاني من عام 2022، وبالتعاون مع الهلال الأحمر التركي أُعيد للعمل بعقد رسمي يتضمن، تأمينًا وبدل مواصلات وطعام، وراتبًا أصغريًا، لمدة سنة واحدة بصفة “موظف دعم” في المدارس التركية، وتوقف بعدها عن العمل بمجرد انتهاء عقده عام 2023، كحال غيره من المعلمين السوريين.
“أكثر ما يزعج المعلمين والمعلمات ويثير (اشمئزازهم)، عدم إبلاغهم بشيء، لا بقرار إيقاف المشروع ولا باستمراره، ومتى يمكن أن يتجدد العقد، ولم يتواصلوا مع أحد منا”، عبّر محمود بهذه الكلمات عن حاله وحال المعلمين الذين يجهلون مصير عملهم إلى الآن من غير توضيح من المسؤولين بخصوص المسألة.
ولا يختلف حال المعلم أحمد الهنكوري (38 عامًا) عن حال الإدلبي كثيرًا، فقد بدأ عمله عام 2018، وتوقف بانتهاء العقود السنوية.
في حديث لعنب بلدي، يقول الهنكوري “حقيقة، بعد عشر سنوات أن تأتي (يونيسف) أو غيرها وتنهي عمل هؤلاء المعلمين، من دون تعويضات أو تأمين فرصة عمل أخرى، فهذا والله ظلم كبير”.
وعن سؤاله عن الإجراءات التي اتخذها المعلمون عند إيقاف عقودهم، قال الهنكوري، “تم تشكيل لجنة من المعلمين السوريين حينها، تواصلت مع (يونيسف)، ومع التربية التركية، ولم يبق جهة مسؤولة إلا ولجأ إليها المعلمون لأجل إعادتهم”.
أما الأستاذ محمد الخليل (46 عامًا) فبدأ العمل عام 2013، إذ كان يعمل في مدرسة تركية بتمويل من وقف الديانات التركي، واستمر ببدء “يونيسيف” بدعم المعلمين عام 2015، وتوقف عن العمل نهاية عام 2021.
وقال الخليل، “لست ممن أُعيدوا إلى عملهم في المرحلة الأخيرة، لأن الشروط لم تنطبق علي”.
وكانت التربية التركية أصدرت قرارًا في تموز 2021، بإيقاف ما يقارب 12 ألف معلمًا سوريًا عن عملهم، ثم أصدرت قوائم تضم أسماء ثلاثة آلاف منهم تقريبًا للتعاقد معهم، ممن توفرت فيهم الشروط التي أصدرتها التربية التركية.
وكانت الشروط أن يكون المعلم من حاملي الشهادة الجامعية، وشهادة “B1” (مستوى ثالث) في اللغة التركية كحد أدنى، ثم أُوقفوا مجددًا عن عملهم بنهاية عقودهم في شباط 2023، وحتى الآن.
مدرس في معامل الخيوط
“أعمل حاليًا في تحقيق المخطوطات لكن العمل لا يحقق دخلًا كافيًا، وبالنسبة لي لا أستطيع أن أعمل بدوام طويل، لديّ طفلان من ذوي الإعاقة بحاجة إلى رعاية خاصة، آخذهم يومين في الأسبوع إلى مركز العلاج الفيزيائي، وأحدهما الآن في الصف الأول ويأتي إليه المعلم من المدرسة، ولا بد من وجودي في البيت أربعة أيام في الأسبوع بعد الساعة الرابعة”، يروي محمود الإدلبي حاله بعد فقده لوظيفته.
وتابع بحسرة أن “المشكلة الأكبر أننا فقدنا دورنا كمعلمين ومرشدين لطلابنا وأبنائنا”.
ويجلس رجب جغل، معلم سابق في المدارس التركية، عاطلًا عن العمل، ويأمل بالعودة إلى وظيفته ومهنته بعيدًا عن المعامل والورشات.
وأوضح جغل، في حديثه لعنب بلدي، أن الأثر السلبي الذي خلّفه القرار كبيرًا، مضيفًا أن “المعلم الذي عمره فوق 40 سنة تدمر نفسيًا ومعنويًا وماديًا”.
وقرر الخليل على الرغم من تقدمه في العمر أن يواجه الحياة قدر استطاعته، “منذ عام 2021، حتى الآن لم أتمكن من الحصول على عمل دائم، عملت في كتابة مقالات، وفي إدارة معهد تعليمي خاص، وفي معمل للخيوط، لكن الآن ليس لدي عمل مع الأسف”.
هل الطلاب السوريون بحاجتهم؟
أجاب محمود الإدلبي، “كسوري موجود في المدرسة شعرت بدور كبير جدًا، فالأطفال كانوا صغارًا بحاجة لمن يكون بجانبهم، أُساندهم إن أساء لهم أحد بعنصرية، ومنهم من كان يُضرب من قبل بعض الطلاب بشكل متكرر”.
وأضاف جغل، أن الطلاب السوريين في المدارس يشعرون بكون المعلم السوري “سندًا” لهم، يلجؤون إليه في كل أمورهم وأحوالهم، إضافة إلى كونه صلة وصل بين إدارة المدرسة وأهالي الطلاب، إذ كان يعينهم في الأمور الإدارية والترجمة وكثير من الأمور.
بينما يرى كل من الخليل، والهنكوري، أن المعلم السوري ليس له دور كبير في المدارس التركية؛ إذ إن الطلاب أتقنوا اللغة التركية واندمجوا كليًا مع الطلاب الأتراك، إنما يمكن أن يكون رافدًا جيدًا في مدارس إمام خطيب، يعلم اللغة العربية والقرآن الكريم للسوريين والأتراك.
يرى الدكتور في التربية الإسلامية والباحث في التربية والتعليم، فيصل البكار، أن المدارس التركية بأمس الحاجة للمعلمين السوريين، فالمعلم مُيسر للأمور الإدارية المتعلقة بالطلاب وهو “حلقة الوصل الصحيحة بين الطالب وذويه من جهة والمدرسة من جهة أخرى، وهو المرشد والموجه وصمام الأمان بالنسبة للطلاب”.
وأضاف البكار، أن وجود المعلم السوري في المدارس كان في “غاية الأهمية والإيجابية، لأن الأمر يتعدى المدرسة إلى المجتمع كاملًا”.
تسرب كبير للطلاب من المدارس
بلغ عدد السوريين المسجلين تحت الحماية المؤقتة في تركيا، ثلاثة ملايين و381 ألفًا و429 شخص، ذلك حسب ما نشرته جمعية، مساعدة وتضامن اللاجئين وطالبي اللجوء (جمعية اللاجئين)، وفق تقرير لها في 24 أيار الحالي.
وذكرت أنه اعتبارًا من 17 من أيار الماضي، انخفض عدد السوريين المسجلين في تركيا بمقدار 29 ألفًا و600 شخص، مقارنة بشهر آذار الماضي، لينخفض عدد السوريين المسجلين منذ بداية العام نحو 154 ألفًا و569 شخص.
وورد في التقرير، بحسب بيان سابق لوزارة التعليم الوطني في تركيا لعام 2021، في إحصائية للطلاب السوريين في تركيا، أن 938 ألفًا و138 من الأطفال السوريين يواصلون تعليمهم في المدارس التركية، في حين أن هناك 432 ألفًا و956 طفلًا في سن التعليم لا يذهبون إلى المدرسة، وهم محرومون من حقهم في التعليم.
فيما بلغ عدد المعلمين السوريين الذين كانوا يعملون ضمن المدارس التركية بعد إغلاق “مراكز التعليم المؤقتة”، في آب من عام 2017، ما يقارب 12 ألفًا و352 معلم ومعلمة.
اقرأ أيضًا: “تنمّر” و”كيملك” وفقر.. ثلث الأطفال السوريين خارج مدارس تركيا