الاضطرابات الوسواسية والعلاقات الاجتماعية
صفوان قسام
في واحدة من حلقات مسلسل “بقعة ضوء” الكوميدي، يعالج مقطع طريف معاناة زوج يعيش مع زوجته التي تعدّ عليه أنفاسه، وتملي عليه كيف يتصرف في المنزل حتى “لا يتسخ” من وجهة نظرها، فعليه أن يمسك كيس القمامة بيد ويفتح الباب بيد ثانية، ويعيد تسكير الباب بذات اليد ويبقي يده بعيدة عن ثيابه، وعليه أن يخلع حذاءه في الخارج ويحمله باليد التي حمل بها القمامة، ويضعه بمكان ما، ويسير بطريقة ما، وهلم جرًا من تعليمات تبقي المنزل نظيفًا.
هذا يصف حالة يُشار إليها بالوسواس، وتشير إحدى الإحصائيات الصحية إلى أن نسبة انتشار اضطراب وسواس النظافة في العالم هي 13%، لكنها قفزت بشكل رهيب عقب انتشار فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19)، إذ وصلت إلى 23%، وهذا يعني أن واحدًا تقريبًا من كل أربعة أشخاص مصاب بهذا الاضطراب، والسبب أن من كانت لديهم شكوك واستعداد نفسي للإصابة به جاءتهم الحجة التي تؤكد شبهاتهم وشكوكهم، وتصرفوا وفقها ليضمنوا سلامتهم.
ووصل الأمر ببعض هؤلاء إلى مبالغات دمرت بيوتًا وحطمت أسرًا وعائلات، فكيف هي حال من كان لديهم هذا الاضطراب منذ البداية، وجاءهم ما يؤكد حذرهم، وفي نفس الوقت يستفزهم أشواطًا. لن نبالغ إن قلنا إن قسمًا كبيرًا من هؤلاء راجعوا المستشفيات بحالات انهيار عصبي ونوبات هلع وغيرها من أعراض الخوف والقلق والتوتر والضيق النفسي.
يعتقد بعض الناس أن هذا الاضطراب ينشأ منذ الطفولة، نتيجة طريقة التربية الخاطئة من الأهل، خصوصًا عندما كانوا يعلّمون الطفل كيف يتحكم بخروجه وقضاء حاجته في سنواته الأولى، فمنهم من كان يستخدم القسوة، التي تدفعهم إلى تعميم سلوك المغالاة بالتنظيف والنظافة في كل شيء.
وفصل الدليل الأمريكي لتشخيص الاضطرابات النفسية الأهم في العالم بنسخته الخامسة، الوسواس عن اضطراب القلق، بعد أن كان في النسخة الرابعة واحدًا من أشكال اضطراب القلق، إذ صار اضطرابًا مستقلًا، وبعض الأطباء يصفون للمرضى ممن تجاوز عمر هذه الوساوس لديهم عشر سنوات أدوية مضادة للذهان. وتشير الإحصائيات إلى أنه منتشر لدى الإناث بشكل أكبر منه لدى الذكور، وعندما تكون الأم مصابة به، فإنها تنقل سلوك المبالغة بالنظافة إلى أولادها الذين يمكن وقتها أن يصابوا به هم أيضًا.
بعض الأعراض التي يمكن أن تظهر على مصابي هذا الاضطراب أنهم يكررون تنظيف شيء ما بشكل مبالغ به، كغسل اليدين بشكل متكرر، وهنا نجد أن المصاب لديه يدان حمراوان وفيهما الأكزيما أو التشققات، ويشكو من الألم نتيجة الضرر الذي يلحق بيديه بسبب تكرار الغسل، وبعضهم لا يأكل من السوق مثلًا، بل وحتى في المنزل، فهو انتقائي لطعامه بشكل مبالغ به، وأي ملاحظة بسيطة حول الطعام تنفّره من الأكل، ولذا نجدهم نحيفين وربما يعانون اضطرابًا في الامتصاص، حتى إنهم يتجنبون التجمعات خارج المنزل في المطاعم والمقاهي بسبب خشيتهم من الإحراج إن طُلب شيء ما لشربه أو أكله.
والمشكلة الأساسية أن هناك أفكارًا لا منطقية تصر على صاحبها للقيام بسلوك ما بشكل متكرر ويتعلق عمومًا بالنظافة، وهو لا يرتاح حتى يقوم بما تمليه عليه أفكاره، لكنه بعد أن يقوم بذلك بقليل تعاوده هذه الأفكار، فقد نجد سيدة تعتقد أن المرحاض يحتاج إلى التنظيف كل ساعة مثلًا، ولن يهدأ بالها حتى تنظفه، وإن صادفت أن جيرانها في الشقة العلوية استخدموا المرحاض بعد خمس دقائق فإنها ستنظف مرحاضها مجددًا لاعتقادها أنه قد تلوث، ولن تستطيع القيام بشيء آخر نتيجة إلحاح هذه الأفكار عليها، حتى تقوم بالتنظيف.
هل يعني أن هذه الوساوس تتعلق فقط بالنظافة؟ بالتأكيد لا، فلها أشكال كثيرة، وكلها تخضع لنفس المبدأ، وهو إلحاح الأفكار كما لو أنها “توسوس” لكن موضوعها يختلف، كالتأكد من قفل الباب مرات ومرات، أو جمع الأشياء البراقة، حتى لو دعا ذلك إلى السرقة، ومن الممكن أن نجد أشكالًا أخرى كالاحتفاظ بالأمور التي لا حاجة إليها للاعتقاد أنها ستنفع في يوم ما، ويا لفرحة من يعاود استخدامها فعلًا. ونجد أيضًا اضطراب الشخصية الوسواسية التي تبحث دائمًا عن الكمال، وتهتم بأدق التفاصيل، وهو أشيع عند الرجال منه عند النساء، على عكس اضطراب وسواس النظافة.
المشكلة التي يعانيها من هم على اتصال مباشر أو غير مباشر مع هذه الحالات أنهم مكرهون على مشاهدة هذا الشخص يقوم بنفس الفعل مرارًا وتكرارًا، وربما يرونه يعاني وهو يجاري أفكاره، فقد تستهلك سيدة ما لوح صابون كامل في اليوم على غسل يديها، وتتألم في الليل من ذلك، وزوجها عاجز عن فعل أي شيء لأجلها، والمشكلة الكبرى هي لدى الشخصيات التي تجبر من حولها على التقيد بتعليماتها كما حصل مع صديقنا في “بقعة ضوء”. هؤلاء حرفيًا يمكن لحياتهم أن تتحول إلى جحيم، وكثيرة جدًا هي حالات الانفصال والطلاق التي تحصل بين المتزوجين إن كان أحدهما يعاني هذه الوساوس. فقد نجد رجلًا لديه اضطراب شخصية وسواسية يحاسب زوجته على أمور بسيطة جدًا، كأن يكون اتجاه مقبض الإبريق نحو اليمين بدلًا من أن يكون نحو اليسار، وهو ما يدخلها بحالة من الشعور بالمراقبة الدائمة وأنها مقيدة، والمشكلة إن كان لديه كثير من التدقيق على مسألة النظافة مع محاسبة صارمة، عندها قد يسبب ضغطًا نفسيًا على زوجته يدفعها للتصرف كما لو كان لديها وسواس نظافة. ولذا يمكن لنا فهم السبب الذي دفع بضحية “بقعة ضوء” إلى توسيخ البيت بهذا الشكل بعد مغادرة زوجته انتقامًا من التقييد الذي عاشه، ولماذا ألقى بنفسه عندما عادت باكرًا وقدّر أنه لن يستطيع تنظيف المنزل قبل دخولها إليه.
يمكن علاج هذه الوساوس من خلال جلسات العلاج المعرفي السلوكي التي يقدمها معالج نفسي متخصص، وتطبيق بعض من تقنيات تعديل السلوك، التي تفيد إلى حد كبير وتوصل إلى الشفاء الحتمي بشكل تدريجي ومريح، كما أن العلاج الدوائي للحالات المتقدمة آمن وفعال جدًا، ولا يسبب أي إدمان إن تم التقيد بجرعات الطبيب المحددة. ولا يجب إهمال هذه الاضطرابات لأنها تدمر صاحبها ومحيطه أيضًا، وتركها يحوّلها إلى سلوك عصيّ على التغيير، ويمكن أن يؤثر على المحيط سلبًا بشكل كبير أيضًا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :