الهواتف الذكية والأسرة.. تواصل أم تباعد اجتماعي

  • 2023/05/14
  • 1:37 م
صفوان قسام

صفوان قسام

صفوان قسام

يُحكى أن جدة زارها أولادها وأحفادها، وجلسوا بعد السلام كل على هاتفه يراسل أصدقاءه ومعارفه ويتم عمله أو يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وبقيت لوحدها تنتظر أن يتكلموا معها ويحدثوها عن أخبارهم ويطمئنوا عليها، لكن الجميع بقي على هذه الحالة حتى انقطع الإنترنت فجأة، فغضبوا وانزعجوا وبدؤوا بالبحث عن مصدر الإنترنت، لكنهم لم يجدوه، دون أن ينتبهوا إلى أن الجدة غير موجودة، وبعد أن عجزوا بدؤوا بالبحث عن جدتهم ولم يجدوها أيضًا.

قلق الجميع وصار همهم إيجاد الجدة، التي تبين أنها ذهبت لزيارة جيرانها وأخذت جهاز الإنترنت معها، غضب الأحفاد من الجدة “المتصلبة” وعاتبها أولادها، وأبدوا قلقهم عليها وأنهم خافوا أن يكون قد أصابها مكروه ما، لكن الجدة بقيت مبتسمة أمام هذه الحالة التي اعتبرتها “تمثيلية”، وقالت بصوت هادئ: “لو لم أفصل الإنترنت عنكن لما لاحظتم غيابي”، فأنكر الجميع ذلك، لتطلب الجدة من الجميع أن يقفلوا هواتفهم ويضعوها في سلة أحضرتها إن كان قلقهم عليها حقيقيًا. انزعج الأحفاد في البداية، وتقبل الأولاد طلب أمهم، ونفذوه، وبعد قليل اكتشف الجميع أن هناك متعة أيضًا في البقاء بصحبة العائلة.

يعتبر الهاتف الذكي اليوم واحدًا من أهم لوازم الحياة، ومن أهم عوامل التواصل الاجتماعي والتباعد الاجتماعي في نفس الوقت، فهو منقذ ومورط لنا معًا، وفي وقت سابق، كانت المطاعم والمقاهي والمرافق بشكل عام تتسابق لتوفير خدمة الإنترنت المجانية لزبائنها، أما اليوم فكثير من المطاعم تشترط عليهم أن يغلقوا هواتفهم النقالة قبل الدخول إليها، بل وتحجب خدمة الإنترنت والتواصل اللاسلكي عنهم، وهدفها زيادة التواصل الاجتماعي الفيزيائي بين الناس، وبعض البلديات في أوروبا خصصت ساحات عامة لذلك.

تلك الجدة لا تزال تعرف كيف كانت الحياة بين أفراد الأسرة في ضوء غياب كل الوسائل الترفيهية التي بين أيدينا اليوم. لن يعرف الجيل الجديد متعة حكاية الجدة، ولا متعة اللعب بالتسالي والألعاب اليدوية التقليدية، ولا متعة اللعب الجماعي في الخارج، ويَحدث أن الأطفال التصقوا بهواتفهم وتحدبت ظهورهم، وضعف بصرهم وشحبت وجوههم، وهزلت أجسامهم أو بدنت، وضعف ذكاؤهم الاجتماعي وزاد ابتعادهم عن ذويهم بسبب ذلك، بل حتى إن علاقاتهم الاجتماعية أصبحت هشة، تقوم على روابط وهمية. وبدلًا من استخدام الأدوات لتقوية الروابط، أصبحت هذه الأدوات هي الروابط متمثلة بالهواتف الذكية وتطبيقات التواصل الاجتماعي.

في سوريا اليوم، بسبب غياب الكهرباء والإنترنت وارتفاع الأسعار، عاد الناس للطرق التقليدية في تمضية الوقت، عدنا نجد صحبة الشباب والزيارات التي تقتصر على كأس شاي فقط أو من دونه، والتي ربما كانت تقرب الأصدقاء من بعضهم أكثر، عدنا نرى سهرات “الشدة” ولعبة “الطابة”، وعاد الأطفال لألعاب “سبع حجار” و”الطميمة” وغيرهما، بعدما كان الناس قد نسوا هذه التسالي، التي ابتكرها وطوّرها وراكمها أهلنا قبل الثورة التكنولوجية ليحتالوا على الوقت الطويل والفقر.

تضع ربة المنزل الهاتف أمام طفلها الباكي حتى تتمكن من القيام بأعباء البيت، وعندما تذهب لزيارة أحدهم تعطيه الهاتف ليسكت ويلتهي عنها حتى تتم حديثها مع صديقتها، وتفعل ذلك مجددًا عندما ترد صديقتها لها الزيارة، وعندما يأتي زوجها، حتى تتمكن من التواصل معه، سنوات من هذا التعويد تصيب الأم بصدمة وتدخلها أمام تحدٍ: طفلي لديه مشكلة بالتواصل، إدمان على الهاتف، هزيل، بدين، لديه انحناء، ضعف بالبصر، طفلي غير اجتماعي… وتبدأ بالبحث عن حل، والغالب أنه سيكون مراجعة واستشارة تخصصية تربوية. المشكلة أن زيارة الاختصاصي التربوي ليست كالحل السحري، خصوصًا مع المشكلات التي تنتج عن سنوات من التراكم، فهي تحتاج إلى جهد وزمن حتى تُصحح، وهنا تشعر الأم بأنها سبب في تدهور ولدها، وربما ترفض رأي الاختصاصي كله كشكل من أشكال الهروب من المسؤولية أو إراحة الضمير، وقد تلجأ إلى العنف مع ولدها، وهذا ما يسبب مشكلات أخرى.

نوع آخر من المشكلات التي تحدث في العلاقات الاجتماعية بين الأزاوج والمرتبطين، أن هناك مساحة من الحرية الشخصية أوجدتها هذه الهواتف وتطبيقاتها، إذ تصبح مكانًا للانتهاك من قبل الشريك، وخصوصًا الشكاك، ربما نفهم سلوك ومشاعر الغيرة اللطيفة بين الأزواج والأحبة، ولكن عند تجاوزها الحدود تصبح شكًا وضعف ثقة بالشريك، وتصل في كثير من حالات الغيرة المرضية والشك إلى قتل الشريك وإيذائه، وربما تكون جريمة بشعة، استجابة لهذه المشاعر، وقد يكون الهاتف هنا سببًا في هذه المشكلة.

الشكاك/ة لن ينتظر دليلًا حتى يخوّن الشريك، فهو حتى لو لم يجد أي دليل، فإن ذلك بنظره دليل على الخيانة، وتكفي عبارة أو كلمة تحمل معنى بعيدًا جدًا كتبتها الزوجة لصديقتها أو أحد معارفها، حتى تحاك حولها السيناريوهات التي تثبت خيانتها، ويتم القصاص منها في ضوء ذلك، والمشكلة أن هذا الهاتف نفسه الذي ورط الضحية بهذه المشكلة قد يكون الحل لإبلاغ الشرطة أو أحد ما لإنقاذها.

الأمر لا ينطبق على العلاقات المريضة فقط، بل حتى على السويّة منها، فقد تفتح الزوجة حديثًا شخصيًا مع صديقتها على تطبيق “واتساب” مثلًا، وتبتسم لنكتة ما، فينتبه الزوج، الذي يستغرب هذه الابتسامة، وهنا يسأل زوجته، على ماذا تضحك، فتخشى الزوجة أن تفضح صديقتها، فتتهرب من الإجابة، ما يدفع الزوج إلى أخذ الهاتف عنوة بعد محاولته بشكل لطيف، وتبدأ المشكلة. ولكي تتفادى الزوجة مثل هذه المواقف تصبح أكثر حذرًا في الاحتفاظ بمحادثاتها، وهذا ما يستدعي الشك لدى الزوج، والحل بسيط هنا، الثقة بالدرجة الأولى، وإعطاء الشريك مساحته الشخصية الحرة دون تدخل، فهذا يغذي العلاقة ويقويها، على عكس الضغط والمراقبة التي تخنقها.

تفاصيل صغيرة من هذا النوع تهدم علاقة مبنية على الحب والاحترام، وتخرب حياة أسرة، تفسد تربية طفل، وجيل، وتفرز أمراضًا اجتماعية ونفسية، ربما تكون الهواتف هروبًا من القلق، والضغط النفسي والاكتئاب، وربما تسببها، ربما نستفيد منها في تعلم رياضة ما، وربما تعطب أجسامنا، ربما تعزلنا عن المجتمع، وربما تجعلنا من المشاهير.

يقول أرسطو: الفضيلة وسط بين رذيلتين، الإكثار منها تفريط والإقلال منها بخل، ولكل شيء وجهان، إن استخدم بالشكل الصحيح أعطانا الفائدة وبالعكس، وهذا يعني أنه بأيدينا أن نحول الهاتف الذكي لشيء إيجابي، وبه يمكن أن ندمر أنفسنا وعائلتنا.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي