علي عيد
بعد مرور نحو 100 يوم على وقوع زلزال 6 من شباط، الذي ضرب مناطق واسعة شمالي سوريا وجنوبي تركيا، يظهر سؤال ملحّ حول ما فعلته الصحافة أو ستفعله، وأركّز هنا على الصحافة السورية، ومدى مواكبتها وتحملها مسؤولياتها في هذا الملف.
ربما يعتقد صحفيون أن الإعلام أدى مهمته وقسطه، وقدّم صورة واضحة لما حصل، وأن ما قدّمه كان محفّزًا لمجتمعات وحكومات ومنظمات من مختلف أنحاء العالم لمجاراة المأساة، وتقديم العون.
اشتغلت الصحافة السورية بشقيها، الرسمي والمستقل، على الجانب الإنساني، واستطاعت الوصول في اللحظة المناسبة، مستغلة أدوات متطورة وحديثة، وتغذية أسهمت فيها صحافة المواطن والمؤثرون في منصات التواصل الاجتماعي.
فقد الآلاف من السوريين أرواحهم، وتعرّض مئات الآلاف لإصابات جسدية ونفسية، وطال الأثر المادي الملايين، حتى من أولئك الذين يقطنون خارج جغرافيا المنطقة، وليس مستغربًا أن يتأثر لاجئ سوري في كندا بالزلزال، وهذا الاحتمال الأخير يتعلق بالأثر السياسي العميق، ومدى إسهام الكوارث في تغييرات جذرية بقضايا عالقة، لكن، ليس من الضرورة أن تأتي التغييرات بما يتوافق مع معايير العدل الإنساني والاقتصادي والسياسي.
هناك جوانب ملحّة لقياس مستوى التغطية الإعلامية لكارثة الزلزال في سوريا، بينها قدرة الإعلام على الحضور، ونوع هذا الحضور والتغطية، والعمق والتحليل، والتقصّي لما قبل الحدث، والترصد لما بعده، والتنوع في المعالجة.
الجوانب المذكورة ترتبط بأدوات يُنصح بها، في كل نوع من الأنواع الإعلامية، الخبر والتقرير، التحقيق المعمق، الهواء المفتوح، البرامج، وغيرها من الأنواع.
في الحالة السورية، استحوذت الكارثة خلال الأسابيع الأولى على أكثر من 90% من المحتوى، وهي نسبة غير دقيقة طالما أننا لم نجرِ دراسات بحثية علمية لقياسها، لكنها نسبة معقولة بالملاحظة الشخصية، ولكن هذا المحتوى استخدم بمجمله للشأن العاطفي، وساعد هذا على تعزيز مسارات سياسية، مثل قصة الطفلة شام، التي خرجت مع شقيقها من تحت ركام إدلب، وظهرت نداءات عاجلة لمعالجتها جراء إصابتها بـ”متلازمة الهرس”، وبعد نقلها إلى تركيا فوجئ الجمهور بخروجها في فيديوهات اتصال مع أسماء الأسد، زوجة الرئيس السوري، بشار الأسد، من دولة الإمارات.
وانسحب الأثر السياسي للكارثة على محاولات للتطبيع بين دول عربية ودمشق، انتهت بقرار إعادة سوريا لمقعدها في الجامعة العربية، بعد نحو 12 عامًا من قرار تجميد مشاركتها في مؤسسات الجامعة.
شيئًا فشيئًا تراجع مستوى التغطية الإعلامية من المستوى العاطفي إلى المستوى اللوجستي، فوصول طائرة أو سفينة جزائرية أو روسية محمّلة بمساعدات من الألبسة أو الأغطية، بات أهم من استمرار وجود الآلاف دون مأوى.
وظهر الانقسام السياسي في التعاطي مع الكارثة في الخطابات الرسمية، منها تجاهل حكومة دمشق للمستوى المضاعف لأثر الزلزال في ريفي حلب وإدلب الخاضعين لسلطة قوى عسكرية معارضة لنظام الحكم، وخروج تصريحات رسمية من مسؤولين تصبغ تلك القوى بلغة نمطية مثل “إرهابيين”، للحديث عن قضية دخول مساعدات أو تعاون في فتح معابر.
المحتوى الإعلامي لم يستطع النفاذ إلى عمق الأزمة في جانبي السيطرة، وهذا مرتبط بعاملين، الأول مستوى التحكم العالي بالإعلام وحركة الصحفيين، والثاني بانعدام الشفافية والقدرة على الوصول.
تخفي كارثة الزلزال وراءها قضايا شديدة الأهمية، كما يمكن أن تكشف عن حقائق كانت غائبة قبلها.
مع قلة المعلومات، خرجت تكهنات حول فساد في ملف مساعدات وإغاثة المنكوبين، كما لوحظ ضعف في المثابرة خلف حقيقة الأرقام أو طبيعة الأبنية التي تهدمت، والجهات التي قامت ببنائها، البدائل والخطط المقترحة، حقيقة عدد الضحايا السوريين على الأراضي التركية، مَن الغائبون، كيف دُفنوا، واحتمالات وجود تقصير أو فساد أو انتهاكات في كل ذلك.
للاستزادة في الجانب المهني، وضع الصحفي روان فيليب، وهو كبير مراسلي الشبكة الدولية للصحافة الاستقصائية، وغطى كوارث طبيعية في موزمبيق وسريلانكا وهاييتي، عشرة أسئلة يجب طرحها بعد وقوع كارثة طبيعية.
من بين الأسئلة الاستقصائية التي وضعها فيليب، أين ذهبت أموال الإغاثة وكيف يمكن الإبلاغ عن النهب، هل تسبب الفساد والمحسوبية في زيادة عدد القتلى، ومن يستغل الكارثة، الأثر الأولي للكارثة، وأسئلة أخرى تتعلق بأخطار تهدد الصحة العامة وأداء الفرق ووكالات الطوارئ وأوجه النقص.
قياس استجابة الصحافة للكوارث الطبيعية يحتاج إلى نقاش موسع في الحالة السورية، لأن الكارثة جاءت وسط بيئة معقدة سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا وإنسانيًا، كما أن البلاد تشهد أصلًا حالة من الفقر بعد 12 عامًا من حرب طاحنة لم تضع أوزارها بعد، خصوصًا في منطقة الزلزال.
وليس كافيًا أن تعمل الصحافة بمفردها للإجابة عن الأسئلة الاستقصائية، أو كشف الفساد أو المعاناة، أو اقتراح الحلول، بل يتطلب الأمر تضافر جهود منظمات المجتمع المدني، خصوصًا وأن سلطات الأمر الواقع على كامل الجغرافيا السورية أسست لبيئة طاردة للصحافة الحرة والمستقلة، واعتبرتها منافسًا بل عدوًّا، متناسية دور هذا القطاع في التحفير وتسليط الضوء ونقل المعاناة، وكشف الفساد، وهذا الأخير آخر ما تريده تلك القوى وأول ما تحاربه.. وللحديث بقية.