جنى العيسى | لجين مراد | يامن مغربي | حسام المحمود
خلقت مجموعة التحركات السياسية الأخيرة في الملف السوري مجالًا أوسع للحديث عن تسويات لم تتضح ملامحها بعد، من خطوطها العريضة إعادة اللاجئين من دول الجوار إلى سوريا، دون اعتبارات لرغبة اللاجئين، أو شروطهم للعودة إلى المكان الذي لجؤوا منه قبل سنوات طلبًا للحماية.
ولظروف مختلفة، أبرزها أمنية واقتصادية ومعيشية، غادر أكثر من 6.8 مليون سوري وطنهم منذ عام 2011، لا يستطيع معظمهم العودة حاليًا، لعدم زوال مسببات لجوئهم الأمنية بدرجة أولى، وتفاقم الوضع المعيشي والاقتصادي وغياب الاستقرار.
ورغم سنوات اللجوء التي لا تعتبر قصيرة، لم يستطع بعض السوريين الاندماج في مجتمعاتهم المضيفة لأسباب عدة، كتعاطي المجتمع المضيف مع مسألة لجوئهم، أو دوافع أخرى أمنية واقتصادية واجتماعية، ما أجبرهم على التفكير بالعودة إلى سوريا، لكنه خيار يصطدم بمعوقات وموانع تختلف من شخص لآخر.
تستطلع عنب بلدي في هذا الملف رأي مجموعة من اللاجئين السوريين في لبنان والأردن وتركيا وأوروبا والأمريكتين، بشأن العودة إلى سوريا في ظل الظروف الحالية، ودوافع عودتهم من عدمها، وشروطهم لذلك.
كما تناقش مع خبراء إمكانية تقديم النظام ضمانات مقابل إعادة اللاجئين، ورغبته أساسًا بعودتهم، إلى جانب الظروف التي يجب أن تتوفر في سوريا لعودة الراغبين.
العودة ليست ضمن المخططات
أجرت عنب بلدي استبيانًا استطلعت فيه آراء 100 لاجئ سوري، يقيم 47 منهم في تركيا، و27 في لبنان، و9 في الأردن، و17 في أوروبا والأمريكتين، وتصل نسبة الذكور المشاركين إلى 54%، فيما تصل نسبة الإناث إلى 46%.
تتراوح أعمار المشاركين في الاستبيان بين 18 و48 عامًا، وتبلغ نسبة الحاصلين على التعليم الجامعي فما فوق بينهم نحو 73%، بينما حصل 19% منهم على شهادة التعليم الثانوي، و8% على شهادة التعليم الأساسي.
37% من المشاركين من العازبين، بينما تعد النسبة المتبقية منهم (63%) من المتزوجين، ومن بين هؤلاء يوجد لدى 56% منهم أطفال، بينما 44% من المشاركين ليس لديهم أطفال.
ووفق أسئلة الاستبيان التي طرحتها عنب بلدي، لا يشعر 58% من المشاركين بالاستقرار في بلد اللجوء، بينما أجاب 21% منهم بأنهم يشعرون بالاستقرار إلى حد ما، وقال 12% منهم إنهم يشعرون بالاستقرار.
ورغم ارتفاع نسبة الأشخاص الذين لا يشعرون بالاستقرار، جاءت الإجابة عن سؤال حول تفكيرهم بالعودة إلى سوريا، بأن 85% لا يفكرون بالعودة، فيما يفكر بذلك 15% فقط منهم.
أسباب غياب الاستقرار في بلد اللجوء تعددت بين المشاركين، وتمثلت بالعنصرية التي تمارَس تجاه اللاجئين، والخوف من الترحيل القسري خاصة في لبنان وتركيا، بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي والمعيشي وما يرافقه من غلاء لا يتوازى مع قيمة الدخل ومستوى الأجور.
بينما جاءت الردود حول شروط العودة إلى سوريا متباينة، وتتمثل بأكثر من مطلب، إذ قال 78 شخصًا إن شروطهم للعودة تتمثل بحدوث تغيير سياسي، فيما اعتبر 52 شخصًا أن تحسن الوضع المعيشي والاقتصادي شرط أساسي للعودة، بالإضافة إلى ضرورة وجود ضمانات أمنية بعدم تعرض النظام لهم، بحسب ما يراه 66 شخصًا من المشاركين.
وكان تغيير النظام الشرط الرئيس للمشاركين، بالإضافة إلى وجود ضمانات أمنية بعدم تعرض الأجهزة الأمنية للعائدين، وعودة الأمان إلى سوريا من مختلف النواحي، إلى جانب شروط تتعلق بتحسين الأوضاع المعيشية وتأمين الاحتياجات الأساسية للعائلة، كالكهرباء والماء والغاز ومستوى التعليم.
الخوف يتحكم بحقائب اللاجئين
“أنت ذاهب إلى الموت”، عنوان تقرير لمنظمة العفو الدولية عام 2021، وهو واحد من بين العشرات لمنظمات محلية ودولية وصفت حال اللاجئين السوريين العائدين إلى سوريا في ظل واقع أمني متردٍ طال أثره عشرات العائدين من بلدان اللجوء، إذ تشهد مختلف مناطق السيطرة تضييقًا أمنيًا واعتقالات متكررة، يضاف إليها اقتتالات داخلية وقصف متكرر في الشمال الشرقي والغربي.
وبحسب نتائج الاستبيان الذي أجرته عنب بلدي، اعتبر 66 شخصًا من المشاركين أن وجود ضمانات أمنية أول شروطهم للعودة إلى سوريا.
مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، قال لعنب بلدي، إن البيئة غير المستقرة وحالات الاعتقال والانتهاكات المستمرة، تحتل الجزء الأكبر من نقاشات المنظمات حول ملف عودة اللاجئين.
وخلال اجتماعات جمعت غرفة دعم المجتمع المدني السوري (CSSR) والمنظمات السورية إلى جانب المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، مطلع أيار الحالي، ناقشت المنظمات السورية مع مختلف الجهات مفهوم العودة الآمنة إلى سوريا، بحسب ما قاله الأحمد.
ورغم الضغوطات المستمرة لإعادة اللاجئين السوريين، استبعد الأحمد احتمالية عودتهم في الوقت الراهن “طوعًا”، لافتًا إلى أن الخوف يجعل الاستقرار في جميع مناطق السيطرة مستحيلًا.
ويرتبط زوال هاجس الخوف بملف المعتقلين والمفقودين في سوريا، إذ يؤثر كغيره من ملفات حقوق الإنسان على رغبة السوريين بالعودة، بحسب ما قاله الأحمد.
وأوضح أن وجود آلاف المختفين قسرًا، وعدم تقديم أي تنازلات حيال هذا الملف من قبل أطراف الصراع، يجعل جميع العائدين عرضة ليكونوا ضحية إضافية لذلك الانتهاك، ويمنع عودة اللاجئين خصوصًا من ذوي المعتقلين والمختفين قسرًا.
وخلص مشروع نشره معهد “الشرق الأوسط للأبحاث”، في 2022، اتخذ مقاربة منهجية في تقييم النتائج مقابل 22 عتبة حماية للأمم المتحدة “يجب الوفاء بها قبل بدء عمليات العودة الطوعية الجماعية”، وتضمن استطلاع رأي لـ300 عائد إلى سوريا في جميع مناطق السيطرة الأربع، إلى أنه “لا مكان آمن للعودة إلى سوريا”.
مجتمع أنهكته الحرب
بعد أن ألقت الحرب بظلالها على المجتمع السوري لأكثر من 12 عامًا، تنامت مختلف المشكلات المجتمعية في سوريا، ونشأت مشكلات جديدة تشكّل عائقًا أمام عودة اللاجئين، خصوصًا من استطاع الاندماج في مجتمعات دول اللجوء منهم.
وتظهر تلك المشكلات بشكل واضح بارتفاع نسبة الجريمة في سوريا، وزيادة حالات الانتحار، وارتفاع أعداد المتسربين من المدارس، إلى جانب عمالة الأطفال وفوضى السلاح، بحسب دراسة أعدها الباحث رسلان عامر ونُشرت في مركز “حرمون للدراسات” بعنوان “سوريا.. عشر سنوات من الحصاد المر”.
ورغم المشكلات الاجتماعية التي يواجهها اللاجئون السوريون في دول اللجوء وتمنع استقرارهم، يرى عديد منهم العودة إلى مجتمع أنهكته الحرب خيارًا مستبعدًا، خصوصًا بالنسبة للأشخاص الذين يملكون أطفالًا صغارًا.
الاختصاصي والباحث في علم الاجتماع صفوان قسام قال لعنب بلدي، إن نسبة كبيرة من اللاجئين السوريين يفضّلون البقاء في دول اللجوء متجاهلين عديدًا من المشكلات الموجودة فيها، مقابل العيش في مجتمع أكثر استقرارًا.
وأضاف قسام أن تفشي المشكلات الاجتماعية لأسباب اقتصادية ومعيشية وأمنية، كالسرقة والخطف والقتل وانتهاك حقوق المرأة، يجعل المفاضلة بين العودة إلى مجتمع منهك والبقاء في ضغوطات قانونية واقتصادية أمرًا صعبًا بالنسبة للاجئين خصوصًا في دول اللجوء.
الاقتصاد دافع لـ”القليل”
أدت الحرب الروسية- الأوكرانية وما رافقها من ارتفاع في مستويات التضخم بمعظم دول العالم، إلى تدني مستوى المعيشة في عديد من الدول، ما ألقى بآثاره الواضحة على معظم اللاجئين السوريين خاصة ممن يعيشون في الخيام، أو في بيوت بالإيجار، وما يتبع ذلك من ارتفاع في أسعار المواد الأساسية لا تتناسب مع حجم الدخل الشهري.
وعلى اعتبار الأسباب الاقتصادية أحد أسباب غياب الاستقرار للاجئين في دول اللجوء، فإن ذلك قد يدفعهم للتفكير بالعودة إلى سوريا، حيث الوضع أسوأ بعين البعض، أو أفضل بعين الآخر الذي يمتلك منزلًا أو عملًا بسيطًا في بلده ربما.
الباحث الاقتصادي الدكتور فراس شعبو قال في حديث إلى عنب بلدي، إن الظروف الاقتصادية في بلدان اللجوء قد لا تكون السبب الأبرز لاتخاذ اللاجئين قرارهم بالعودة إلى سوريا، بقدر الأسباب الأمنية، معتبرًا أنه مهما كانت الظروف الاقتصادية سيئة في بلدان اللجوء، لن تكون أسوأ من الظروف في سوريا لمعظم اللاجئين عمومًا، حيث يعم الانفلات الأمني والفوضى والفساد في ظل غياب البنى التحتية ومقومات المعيشة الأساسية، وقلة فرص العمل.
بالمقابل، قد يكون هذا السبب من دوافع العودة لفئة تعد “قليلة” ممن تتوفر لديها المسكن والعمل والمهنة، بحسب شعبو.
ويلجأ معظم المقيمين في سوريا إلى الاعتماد على أكثر من مصدر لمحاولة الموازنة بين الدخل والمصاريف، وأبرز تلك المصادر الحوالات المالية من مغتربين خارج سوريا، والاعتماد على أعمال ثانية، كما تستغني كثير من العائلات عن أساسيات في حياتها لتخفض معدّل إنفاقها.
متغيرات يفرضها “شرق أوسط” جديد
شهد الملف السوري أحداثًا متسارعة على الصعيد الدبلوماسي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، بدأت بزيارة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، إلى العاصمة السورية دمشق، وكانت الأولى منذ أكثر من عشر سنوات.
ورغم أن الزيارة حينها كانت “تضامنية” بعد الزلزال الذي ضرب مدنًا سورية، في 6 من شباط الماضي، فتحت الباب لزيارات أخرى لمسؤولين عرب رفيعي المستوى إلى دمشق.
أبرز تلك الزيارات كانت لوزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، في 18 من نيسان الماضي، وجاءت بعد زيارة وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، إلى العاصمة السعودية، الرياض.
تُوّجت هذه الزيارات ببيانَين سعوديَّين عقب الزيارتَين، تقاطعا بنقاط مشتركة مع ملف عودة اللاجئين السوريين إلى مدنهم وإجراء مصالحة وطنية شاملة لم تُذكر تفاصيلها، وهو ما أشار إليه أيضًا بيان اللقاء التشاوري الذي جمع أربعة وزراء خارجية عرب مع النظام السوري في العاصمة الأردنية عمّان، في 1 من أيار الحالي.
تشي هذه الزيارات والبيانات المتتالية والحديث المتكرر عن “عودة سوريا إلى محيطها العربي” بتغيرات إقليمية كبيرة، ناتجة عن التغيرات الدولية أيضًا، سواء الغزو الروسي لأوكرانيا أو الملف النووي الإيراني، والحضور الصيني في الشرق الأوسط.
وبقدر ما يرتبط ملف عودة اللاجئين السوريين بعملية تغيير سلوك النظام أو رحيله عن سدة الحكم في سوريا، يبدو الأمر أكثر تعقيدًا، خاصة أن الملف السوري، الذي يشكّل اللاجئون جزءًا أساسيًا منه، لم يعد ملفًا محليًا خاصًا بالسوريين أو النظام السوري فقط، بل يرتبط بملفات إقليمية ودولية أيضًا.
وأوضح مدير قسم الأبحاث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، معن طلّاع، أن هناك تشكلًا لنظام إقليمي جديد، أضلاعه تركيا وإيران وإسرائيل مع غياب ضلع عربي ورؤية أمريكية واضحة.
وأشار طلّاع، في حديث لعنب بلدي، إلى أن الموقف السياسي العام لدى أي دولة يرتبط بالمصالح بشكل رئيس، وجزء من هذه المصالح يأتي مع تغيير خارطة التحالفات الإقليمية والدولية، لذا يصبح هناك تجاوز مؤقت عن بعض المواقف.
ويرى طلّاع أن كل الملفات المتعلقة بالملف السوري (الكبتاجون، اللاجئون، الأمن) تشكّل جزءًا من تفاهمات عامة مرتبطة بالتغيرات الإقليمية.
وكان بيان وزارة الخارجية السعودية حول زيارة فيصل بن فرحان إلى دمشق، نقل تأكيد الوزير السعودي “تهيئة الظروف اللازمة لعودة اللاجئين والنازحين إلى مناطقهم”، وهو ما أشار إليه أيضًا البيان الختامي للقاء التشاوري بين وزراء خارجية كل من العراق والأردن والسعودية ومصر والنظام، الذي عُقد في العاصمة الأردنية عمّان.
وذكر البيان حينها عدة نقاط أساسية تتعلق بعودة اللاجئين، أبرزها أن “العودة الطوعية للاجئين السوريين أولوية قصوى يجب اتخاذ الخطوات اللازمة لبدء تنفيذها فورًا”.
لا ضمانات من النظام السوري
ترتبط عودة اللاجئين السوريين إلى مدنهم وقراهم بعاملَين أساسيَّين، الأول وجود ضمانات حقيقية بعودة آمنة دون التعرض للاعتقال أو لأي مخاطر أخرى، والثاني تهيئة البنية التحتية اللازمة.
وإن كانت البنية التحتية ترتبط بالعامل الاقتصادي، فإن الضمانات ترتبط بشكل مباشر بالعامل السياسي، وتحديدًا النظام السوري باعتباره مصدر التهديد للاجئين السوريين الراغبين بالعودة، خاصة أن تصريحاته المتكررة حول التأكيد على عودة اللاجئين السوريين تأتي عكس تصرفاته على الأرض، ففي الوقت الذي عقد عدة مؤتمرات مع روسيا دعا خلالها لعودة اللاجئين، لم يطبق أيًا من الشروط المنصوص عليها للعودة الآمنة.
وأصدرت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” بيانًا، في 27 من نيسان الماضي، قالت فيه إن النظام السوري والميليشيات الإيرانية يشكّلان تهديدًا جديًا لحياة اللاجئين المعادين إلى سوريا، موثقة رفضه إدخال مجموعة من اللاجئين رحّلتهم السلطات اللبنانية قسرًا، وتعرضهم للنهب والابتزاز من قبل قوات النظام.
كما وثّق التقرير ألفين و504 حالات اعتقال تعسفي بحق لاجئين عادوا من دول اللجوء أو الإقامة، ثم أفرج عن ألف و517 حالة فقط، منذ عام 2014 حتى تاريخ إصدار التقرير.
كما ذكر التقرير فرض عديد من القوانين التعسفية التي تهدف إلى السيطرة على ممتلكات النازحين واللاجئين، كالقانون “63” والمرسوم “66” الصادرَين في عام 2012.
هذه التحركات تفتح الباب لسؤالين أساسيين: ما الضمانات التي قد يقدمها النظام ومن يضبطها، وهل يرغب النظام فعلًا بعودة اللاجئين السوريين؟
ويرى معن طلّاع أن العودة هي مطلب للاجئين السوريين أنفسهم قبل أن يكون عربيًا أو من دول اللجوء، ويرتبط بوجود بيئة آمنة للمشاركة المجتمعية في الحكم، ما يتطلب بدوره تغييرات طويلة ورئيسة وجذرية في الدستور والبيئة القانونية، وكذلك بصيغة الحياة السياسية والمدنية في سوريا.
وبناء على هذه التفاصيل، فلا ضمانات حقيقية لضبطها، خاصة أن النظام الذي لم يدعم العملية السياسية خلال سنوات طويلة لن يقدّم ضمانات حالية، بل سيقدم نماذج للمصالحات والتسويات التي نفذها في درعا وحمص وغيرهما، وفق طلّاع.
وأضاف طلّاع، في حديثه إلى عنب بلدي، أن النظام السوري لن يقدّم سوى أنماط مؤقتة حتى تتم إعادة تشكيله من جديد، ومن جهة أخرى فإن الدول العربية نفسها لن تقدم ضمانات حقيقية بل سياسية، على اعتبار أن الانفتاح العربي نفسه يأتي ضمن تغييرات إقليمية.
وأوضح طلّاع أن الرغبة العربية بوجود ضمانات سياسية شكلية لشراء الوقت حتى يتم تسويق النظام مجددًا، وفق تعبيره.
هل يرغب النظام بعودة اللاجئين؟
الكم الهائل من التحليلات والأخبار والاجتماعات السياسية والبيانات الناتجة عنها، تطرح سؤالًا مفاده: “هل يرغب النظام حقًا بعودة اللاجئين السوريين إلى قراهم ومدنهم، لأسباب اقتصادية على الأقل؟”.
يربط الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية إعادة الإعمار ورفع العقوبات بانتقال سياسي حقيقي في سوريا، وهو ما يشمل عودة اللاجئين، وبالتالي لا إعادة إعمار دونهم.
ويرى الباحث الاقتصادي فراس شعبو، في حديث إلى عنب بلدي، أن النظام السوري لا رغبة لديه بعودة اللاجئين، وهو ما يشير إليه أيضًا معن طلّاع.
من وجهة نظر شعبو، فإن ملفات إعادة الإعمار واستقطاب الأموال وإعادة العلاقات تتقدم ملف عودة اللاجئين من حيث الأهمية بالنسبة للنظام السوري، على اعتبار أن سماحه بعودة اللاجئين قد يؤدي إلى مماطلة المجتمع الدولي بالدخول في الملفات الأكثر أهمية بالنسبة له.
ومن جهة أخرى، فإن النظام السوري لا قدرة لديه على تأمين الاحتياجات الأساسية لمن يعيش في مناطقه، ومن هذا المنطلق فإن عودة اللاجئين ستشكّل ضغطًا إضافيًا عليه، خاصة مع المشكلات الاقتصادية الكبيرة التي يعانيها، وتراجع قيمة الليرة السورية المستمر أمام العملات الأجنبية.
لذا فإن هذا الملف محسوم، وما يطلبه النظام بشكل مباشر من المجتمع الدولي أن يقوم الأخير بالبناء ودفع الأموال ثم يعود اللاجئون، وفق شعبو.
الحل مرهون بالتغيير..
الاقتصاد رفيق السياسة
يأتي الحديث عن العودة إلى سوريا كجزء من البحث عن حل من قبل السوريين لحالة عدم اليقين التي يعيشها كثير منهم في دول اللجوء، والتي تتفاوت فيها آلية التعامل مع وضعهم القانوني، وحقوقهم واحتياجاتهم ومدى توفيرها، وارتفاع وانخفاض خطاب الكراهية والحوادث العنصرية بحقهم.
ويمكن أن تفكر أعداد محدودة بالغوص عميقًا باتجاه بلد ثالث، والبحث عن بديل لخلق استقرار على أرض محايدة، لكن غياب الاستقرار المادي أيضًا للاجئ لا يتيح لديه كثيرًا من الخيارات للمفاضلة بينها.
وبالنظر إلى مسألة العودة التي يستعمل النظام السوري خطابها منذ سنوات، لا تبدو سوريا عمومًا ومناطق سيطرة النظام تحديدًا خيارًا مريحًا للاجئين السوريين المقيمين على مدار سنوات خارج تلك المناطق، ما يعني صورة وأسلوب حياة مختلفًا كليًا.
الأرقام والإحصائيات والدراسات التي تجريها منظمات دولية تقدم تبريرات واضحة لرؤية الرافضين للعودة، إذ تحافظ سوريا منذ سنوات على تذيّل المؤشرات المعنية بقياس مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والحقوقية والاقتصادية والمعيشية، وبدا ذلك بوضوح أكبر بعد الزلزال المدمر الذي أثر في أربع محافظات سورية مطلع شباط الماضي.
وفي الوقت الذي تجتمع فيه عديد من الأزمات في سوريا، بشكل متزامن، جاءت سوريا في المركز السادس كأكثر البلدان غير القادرة على إدارة الأزمات لعام 2022، وفق المؤشر الصادر عن “صندوق السلام الأمريكي”.
كما احتلت الأزمة الإنسانية في سوريا المرتبة السادسة ضمن قائمة “لجنة الإنقاذ الدولية” لعام 2023، بسبب الآثار الإنسانية المستمرة للصراع، وتفاقم الوضع الصحي بعد انتشار مرض “الكوليرا” في البلاد، بينما كانت بالمركز التاسع في تقرير عام 2021.
سوريا الأكثر فسادًا لعام 2022، وفق تصنيف منظمة “غلوبال ريسك”، وثالث أكثر بلد هش للعام نفسه، بعد اليمن والصومال، وفق المؤشر الصادر عن “صندوق السلام الأمريكي” لهشاشة البلدان.
وتعتبر سوريا من البلدان المتأخرة في مؤشرات معدل فقر العاملين، وإنتاجية العمل، وأسعار المحروقات، رغم أنها دولة نفطية (تتركز كثير من الحقول النفطية الرئيسة في مناطق تسيطر عليها “الإدارة الذاتية” بشمال شرقي سوريا).
وأدى الفقر وارتفاع الأسعار إلى إضعاف الوصول لأبسط الخدمات الأساسية، مثل الإنترنت، حيث يستخدم 46.6% من السكان الإنترنت، لتقع سوريا في المركز الـ13 من أصل 14 بلدًا في الشرق الأوسط، وفق موقع “بيانات إنترنت العالم”.
سوريا الأولى في انعدام الحرية عالميًا، وفق تقرير مؤسسة “فريدوم هاوس” الأمريكية لعام 2022، والأخيرة عربيًا على مؤشر الديمقراطية في العام نفسه، وفق تصنيف “وحدة الإيكونوميست للاستقصاء”.
صدارة في الانتهاكات بحق فئات المجتمع المختلفة، ومن أسوأ البلدان للعيش بالنسبة للنساء، وفق تصنيف معهد “جورج تاون” الأمريكي، وأرقام كثيرة تفرض نفسها كترجمة للواقع المعاش في بلد غير منسجم بالحدود الدنيا مع تطلعات مواطنيه.
الباحث في الاقتصاد الدكتور فراس شعبو، أوضح لعنب بلدي أن مسألة العودة إلى سوريا ليست مرهونة فقط بالظرف الاقتصادي المرير للمواطنين، لكن الميزات غائبة بغض النظر عن بقعة السيطرة، سواء للنظام أو المعارضة.
وقال شعبو، إن هناك انتشارًا للفساد والفوضى والانفلات الأمني وغياب البنية التحتية وانعدام القدرة على التشغيل، ما يعني عدم توفير فرص العمل، فحديث تركيا عن بناء قرى أو مجمعات سكنية أو أبنية في شمال غربي سوريا لإعادة اللاجئين مثلًا يتطلب أيضًا إقامة معامل ومصانع وشركات ومزارع وطرق وبنى تحتية وعجلة اقتصادية دائرة لدفع الإنتاج والاستهلاك، فلا بد من خلق بؤر اقتصادية لتحقيق انتعاش فعلي.
غياب التغيير السياسي يعني أنه لا يوجد إعمار، أضاف الباحث، ورغم تحركات بعض الدول، فإن انعدام الحل الذي تقبله أوروبا وأمريكا، لن يفضي إلى نتيجة، وسوريا بحاجة إلى أفعال لا أقوال، على الأقل اقتصاديًا، وتحركات بعض الدول قد تطيل بقاء النظام، لكنها لن تنقذه، وقيمة الليرة دليل على ذلك.