علي عيد
ترتبط حرية الصحافة، بشكل عام، بمستوى حرية التعبير والحريات العامة في أي دولة، لذلك، تُدرج مسألة الحريات في الدساتير، كمسألة جوهرية وحق أساسي.
غالبًا ما ترتبط الحريات بمستوى الاقتصاد وعيش المواطن ومشاركته في الشأن العام، إذ تكفل حرية الوصول إلى المعلومات ونشرها نوعًا من الرقابة المجتمعية، كما تشكّل حرية نقد السياسات الاقتصادية والخطط ضمانًا لمنع الانحراف واستشراء الفساد، وغالبًا ما تترافق الأوضاع الاقتصادية السيئة بتعميم حالة المنع وانتشار الفساد والمحسوبية في ظل ضعف المساءلة.
لم يتغير نمط الحكم في سوريا منذ عام 1970، وجاءت المرحلة بعد عام 2000 بأدوات حديثة للمنع، على الرغم من أنها بدأت بحديث واسع عن التطوير والحريات.
من المفارقات أن مستوى الفقر في سوريا كان نحو 11.5% قبل عام 2000، وارتفع إلى 34.3% عام 2011، أي في العام الذي اندلعت فيه المظاهرات للمطالبة بالتغيير.
وتشير الدراسات المسحية المتخصصة إلى انحدار سوريا إلى المركز 154، من حيث احترام حقوق الإنسان عام 2011.
ويلاحَظ أنه في الفترة التي سبقت “ربيع دمشق”، كانت سوريا في مرتبة أفضل بالنسبة لترتيبها على جدول حرية الصحافة، فقد سجلت 126 من أصل 180 دولة، عام 2002، وفق تصنيف منظمة “مراسلون بلا حدود”، الذي يعتمد على نقاط تُجمع عبر خمسة مؤشرات هي: الأمان، السياسة، الاقتصاد، التشريعات، المؤشر الاجتماعي.
وبمجرد شعور السلطة بخطر رقابة حرية التعبير على أدائها وحتى وجودها، انحدرت البلاد للأسفل 19 مرتبة، عام 2003، متأخرة إلى المرتبة 155.
منذ 2010، الذي سبق اندلاع الثورة بعام واحد، دخل تصنيف سوريا اللون البنفسجي، بدأ بالترتيب 173، وهو يتذبذب أسفل هذا الترتيب.
جاءت سوريا في العام الحالي بالمرتبة 175، تليها خمس دول تحكم بعضها أعتى الدكتاتوريات في العالم، مثل إيران وكوريا الشمالية والصين.
في الفترة بين عامي 1970 و2020، لم تكن البلاد تعيش ظروفًا طبيعية، لكنها لم تسجل نفس المؤشرات المتطرفة في القمع والعنف “العاري”، قياسًا بالفترة التي تلتها، وهذا ليس دليلًا على أن البلاد كانت تعيش حالة أفضل، بل مؤشر على أن أدوات المنع التي أعقبت تلك المرحلة كانت مرتبطة بعوامل، منها انتشار البطالة وتراجع مستوى العيش، وتدهور الوضع الاقتصادي مع نمط مختلف من الفساد، تمثّل برجال أعمال من أبناء الطبقة الحاكمة للبلاد.
بعد 2011، حصل انكشاف تام لدور صحافة السلطة، إذ أضيف العامل الأمني إلى العوامل السياسية والاقتصادية، وترافق هذا الانكشاف مع تدهور في سجل الحريات العامة وحرية واستقلال الصحافة، وسجل المؤشر حصول سوريا على تصنيف 176 من أصل 180 دولة.
سجلت سوريا اعتقال وقتل عدد كبير من الصحفيين بعد عام 2011، وتشير بعض الأرقام، من بينها إحصائيات “رابطة الصحفيين السوريين،” إلى نحو 1500 انتهاك بحق الصحفيين، بينها ما يزيد على 464 حالة قتل.
وزاد في مؤشر سوء الأوضاع على مستوى الحريات الصحفية، دخول أطراف جديدة على سجل الانتهاكات وقمع الحريات العامة، إذا شهدت منطقتا شمال شرقي وشمال غربي سوريا تسجيل نحو 300 حالة قتل وانتهاك بحق الصحفيين حتى نهاية عام 2022.
ليس ثمة مؤشرات على أن قطاع الصحافة مؤهل لظروف أفضل في البلاد، وتراجع العمليات العسكرية النسبي مرتبط بمؤشر ارتفاع عكسي لمستوى التضييق والخوف، وهذا التضييق يرتبط أيضًا بقوانين وتشريعات تتعلق بتنظيم العمل الصحفي، تفرضها السلطة المركزية في دمشق، وقوى الأمر الواقع في الشمالين الشرقي والغربي.
إذا استمرت القوى المسيطرة في المناطق الثلاث وفق توازنات وتسويات سياسية وعسكرية، فهذا يعني أن أطرافًا أخرى ستدخل معادلة التضييق، والمقصود بها الصحافة المستقلة المهاجرة الموجودة في مناطق جغرافية مجاورة أو دول منخرطة في التسويات بما يؤمّن مصالحها فوق مصلحة الانتقال السياسي والمساءلة والمحاسبة ووقف الإفلات من العقاب.
لم تكن ظروف الصحفيين “حراس الحقيقة” أفضل قبل عام 2000، ولا قبل 2011 قياسًا بظروفهم اليوم، وهذا يعني أنهم شريحة مستهدفة، وبمستوى يفوق معدلات استهداف العاملين في هذا القطاع بمناطق أخرى من العالم، وهذا يستدعي إدخال شرط الحريات العامة والصحفية في كل تفاصيل العملية السياسية، ومنها المسألة الدستورية، وحتى ضمن شروط التسوية مهما كانت أطرافها.
هناك قلق واسع دفع مئات الصحفيين السوريين للتخلي عن مهنتهم، أو الانتقال إلى مناطق جغرافية أكثر أمنًا، وهناك اندفاعة جديدة لهروب الصحفيين، تقف وراءها عوامل مختلفة، وتشمل الداخل ودول المحيط السوري.. وللحديث بقية.