عنب بلدي – حسن إبراهيم
ظهر القائد العام لـ”هيئة تحرير الشام”، “أبو محمد الجولاني”، مؤخرًا في اجتماع مع وزراء في حكومة “الإنقاذ” العاملة في إدلب و”مجلس الشورى العام” ووجهاء في منطقة الشمال السوري، متحدثًا عن الحلال والحرام والسلطة والمنع والدعوة، في حديث غير مألوف لقائد “الهيئة”، يحمل تحولًا لافتًا عن جذور الفصيل وخطابه الديني.
حديث تطرق فيه “الجولاني” إلى الحلال والحرام والفرق بين سلطة الله وسلطة الواقع، والأعراف والتقاليد ومراعاتهما، راسمًا نهجًا جديدًا لـ”تحرير الشام” (“جبهة النصرة” سابقًا)، فيما يتعلق بالدعوة والسلطة، محررًا فتاوى متجذرة في “الهيئة”.
أثار الحديث جدلًا واسعًا، لكنه لم يكن مفاجئًا في تغييرات طرأت على سلوك “تحرير الشام” وخطابها عبر سنوات، تبعته ترجيحات عن حصول انشقاقات أو شرخ بين شرعيي “الهيئة”، وتساؤلات عن مدى إقناع الغرب بإزالة الفصيل من لوائح “الإرهاب”.
ظهرت “تحرير الشام” لأول مرة في سوريا مطلع 2012، تحت مسمى “جبهة النصرة لأهل الشام”، وهي فصيل تميّز بخروجه من رحم تنظيم “القاعدة”، أبرز الفصائل “الجهادية” على الساحة العالمية، وأعلنت لاحقًا انفصالها عن أي تنظيم، واعتبرت نفسها قوة سورية محلية.
“لا دعوة بالعصا”.. “خط استراتيجي ودعاية”
جاء حديث “الجولاني” عبر تسجيل مصوّر، نشرته مؤسسة “أمجاد” الإعلامية التابعة لـ”الهيئة” في 27 من نيسان الماضي، قال فيه إن سلطة التحريم هي عند الله فقط، والسلطة على الأرض لها حق المنع ولها إدارة الحلال والحرام، ولا يمكن اعتبار المحرم إلا بقطعية الدلائل والإثبات.
وأضاف قائد “تحرير الشام” أن وجود “سيّاف” على باب محكمة أو داعية في الأسواق، هو “تقزيم للشريعة”، حسب وصفه، لافتًا إلى وجود شرطة “آداب عامة” ووزارة داخلية تتعامل مع المخالفات، ولديها تعميمات على المطاعم والمقاهي تضبطها ضمن إطار معيّن.
وقال إنه يجب تغليب جانب الدعوة على العصا، ويجب مراعاة عُرف الناس، وعدم تكرار تجارب أثبتت فشلها، طارحًا مثالًا عن السعودية عندما كانت تمنع قيادة المرأة للسيارة على أنها حرام ثم سمحت بذلك، مشيرًا إلى أن السلطة تقع في تناقض.
وذكر أن المختلَف عليه فيه سعة، ولذلك غطاء الوجه عند الجمهور غير واجب، والحجاب المكشوف الوجه حجاب شرعي، وبالتالي ليس من حق السلطة فرض الخمار على عامة الناس، “لأننا لا نريد تحويل المجتمع إلى مجتمع منافق”، على حد قوله.
وتابع “الجولاني” ردًا على سؤال عن توقيف جهاز “الحسبة”، بأنه تبيّن بعد التجربة السعودية أن تخصيص “هيئة أمر بالمعروف” أتى بنتائج سلبية، مشيرًا إلى أن “سلطة الحسبة التي كانت تمثّل الشرطة والتموين ومراقبة الأسعار، توزعت على عديد من المؤسسات، وفكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجودة في المساجد، وفي القوانين الجمركية، وقوانين التموين، وفي القضاء، وفي الفصل بين المظالم”.
الباحث المتخصص بدراسة الحركات الإسلامية وتحولات “السلفية الجهادية” عزام القصير، قال إنه بات واضحًا لجميع المراقبين أن تتالي صدور تصريحات كهذه من قادة “تحرير الشام” هو تعبير عن خط استراتيجي تسير عليه “الهيئة” منذ أن انفصلت “جبهة النصرة” عن تنظيم “القاعدة” منتصف عام 2016، وخاصة بعد أن استتب الأمر للقيادة العسكرية والشرعية الحالية بقيادة “أبو محمد الجولاني”.
وتابع القصير في حديث إلى عنب بلدي، أن “الجولاني” ومساعديه يرغبون بتثبيت حكمهم، وتأمين بقائهم عن طريق إقناع المجتمع الدولي والأطراف الإقليمية الفاعلة بأن “الهيئة” تخلت عن “إرثها الإرهابي”، وأنها باتت كيانًا محليًا، وجزءًا من الثورة السورية.
ويرى الباحث أن التصريحات في هذا السياق، تأتي كدعاية لإقناع المراقبين باعتدال خطاب “الهيئة”، وابتعادها عن نهج تنظيم “الدولة” في فرض أحكام الشريعة كما يفهمها قادة التنظيم.
“رؤية جديدة”.. هل تُحدث شرخًا شرعيًا؟
تصريحات بأمور “حساسة” ومرتبطة بشأن ديني وشرعي، لا تعتبر أمرًا بسيطًا وسط ترجيحات بحدوث انشقاقات، خاصة في فصيل يضم شرعيين ذوي نفوذ واسع وكلمة مسموعة وأصحاب سطوة على معظم قرارات “الهيئة” إلى جانب قائدها “الجولاني”، عُرفوا بفتاواهم التي لطالما أثارت جدلًا واسعًا، وبمواقفهم من قضايا خارج سوريا لها ارتباطات بتنظيمات “جهادية”.
في 30 من نيسان الماضي، نشر القيادي في “الهيئة” ميسر بن علي الجبوري (الهراري) المعروف بـ”أبو ماريا القحطاني”، قولًا عن الإمام ابن القيم، نص على: “ومَنْ أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب، على اختلاف عُرفهم وعوائدهم، وأزمنتهم وأمكنتهم، وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضلَ وأضل”، واعتبره محللون مقاربة ومحاكاة لحديث “الجولاني”.
وبعد أيام من انتشار تسجيل “الجولاني” المصوّر، تداولت صفحات محلية أخبارًا “غير مؤكدة” عن ترك عضو مجلس الإفتاء الأعلى، ورئيس المجلس الشرعي في “تحرير الشام”، عبد الرحيم عطون (أبو عبد الله الشامي)، منصبه.
وتداولت الأنباء أن سبب ترك المنصب خلافات سابقة مع شرعيين، بسبب “اقتحام الهيئة” مناطق ريف حلب سابقًا، ومنها ربط الاستقالة بحديث “الجولاني” وتحوله “الديني” مؤخرًا.
الشرعي السابق في “تحرير الشام” والمنشق عنها “أبو يحيى الشامي”، كتب في “تلجرام“، أن عطون ربما يجلس ويصمت وكأنه موجود في “تحرير الشام”، ولا يتكلم عن سبب تركه ولا يعلن استقالته.
تواصلت عنب بلدي مع المكتب الإعلامي في “تحرير الشام” للتأكد من صحة معلومات الاستقالة، والحصول على توضيحات، لكنها لم تتلقَ ردًا حتى ساعة إعداد هذا التقرير.
الخبير في الشؤون الجهادية والباحث في مركز “التحليل والبحوث العملياتية” عروة عجوب، علّق على الأنباء عبر “تويتر” قائلًا، إن مصادر مطلعة نفت صحة الاستقالة، وأن عطون قريب جدًا من قيادة “تحرير الشام”، ولعب دورًا فعالًا في ترسيخ حكمها والانفصال عن “القاعدة”.
ولفت عجوب إلى أن مصدر الادعاء هو صالح الحموي، المنشق السابق عن “تحرير الشام”، وله كل الدوافع لإضعاف الجماعة من خلال تشجيع التفكير بالتمني وليس الوقائع، مشيرًا إلى أن هذا لا يعني أن الخلافات بين قادة “هيئة تحرير الشام” غير موجودة، لكن تم احتواؤها حتى الآن.
الباحث المتخصص بدراسة الحركات الإسلامية وتحولات “السلفية الجهادية” عزام القصير، يرى أن هناك إمكانية جدية لحدوث شرخ بين شرعيي “الهيئة”، إن استمر “الجولاني” بنهجه “البراغماتي”، خاصة أنه انتقل من التركيز على نفي تهمة “الإرهاب” باستخدام لغة سياسية دبلوماسية محورها فكرة أن “الهيئة” غير معنية بشن هجمات خارجية واستهداف مصالح غربية، إلى الحديث مؤخرًا عن تحولات في خطاب “الهيئة الديني”، وهو العصب الأيديولوجي الذي يشد بعض المرجعيات الدينية لـ”الهيئة”.
واعتبر الباحث أنه بالعموم يمكن فهم التصريحات الماضية (الأخيرة) على أنها تنازل إضافي يُقدم عليه “الجولاني” لمحاولة ضمان نجاته واستمرار حكمه وربما لعب دور سياسي مستقبلًا.
وشهدت “تحرير الشام” انشقاقات داخل بيتها الداخلي، تجسدت بخروج أبرز قيادييها من تيارات دينية لم يكونوا راضين عن محاولة “الهيئة” تغيير اللهجة والمسار لمجاراة الواقع العسكري والسياسي الحالي الجديد في المنطقة.
كما شهدت السنوات الماضية صراعًا بين تيارات الفصيل المعتدلة والمتشددة، وخروج شرعيين وقياديين عن الفصيل، منهم طلحة الميسر (أبو شعيب المصري)، و”أبو العبد أشداء”، و”أبو اليقظان المصري”، وعبد الله المحيسني، ومصلح العلياني.
تصريحات غير كافية
يترافق أي سلوك وخطاب لـ”الجولاني” وشرعيي “الهيئة” بحديث عن إمكانية إزالة اسم الفصيل من لوائح “الإرهاب”، إذ أدرجت واشنطن “جبهة النصرة” على اللوائح، في كانون الأول 2012، ووافقتها دول مختلفة بما فيها تركيا.
وعقب فك الارتباط بـ”القاعدة” وتغيير مسمى الفصيل إلى “جبهة فتح الشام”، أكد المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا، مايكل راتني، في 12 من آذار 2016، أن “الجبهة كيان إرهابي”.
ولم يفلح الفصيل بالهروب من التصنيف، بعد تغيير المسمى إلى “هيئة تحرير الشام”، إذ أصرت واشنطن، في 15 من أيار 2017، على وضعه على قوائم “الإرهاب”، تبعه إدراج قياديين فيه على فترات متقطعة، في حين ترى “الهيئة” أن التصنيفات الغربية “تفتقد إلى الحقيقة”، ولم تكن مبنية على “حقائق أو أدلة ملموسة”.
ولا يزال “أبو محمد الجولاني” مُدرجًا ضمن المطلوبين لأمريكا، وبمكافأة تصل إلى عشرة ملايين دولار أمريكي لمن يدلي بمعلومات عنه.
يرى المتخصص بدراسة الحركات الإسلامية عزام القصير، أن ادعاء قادة “الهيئة” باعتدال تنظيمهم لا يعدو كونه حملة دعائية للاستهلاك الخارجي، معتبرًا أن الغرب والدول الإقليمية لا يكتفون بتصريحات من هذا القبيل.
وأوضح القصير أن هناك حاجة لأن يتخذ تنظيم “الجولاني” خطوات عملية وجدية تثبت تغيّر “الهيئة”، معتبرًا أن خطوات كهذه يجب أن تشمل رفع يد “الهيئة” عن المجتمع المدني المحلي وتوسيع هامش الحريات أيضًا. وهناك حاجة أساسية لإنهاء سيطرة الجناح العسكري، المتمثل بـ”الجولاني” ورفاقه، على حكومة “الإنقاذ” وهيئاتها.
تسيطر “تحرير الشام” عسكريًا وأمنيًا على محافظة إدلب وجزء من ريف حلب الغربي وريف اللاذقية وسهل الغاب، شمال غربي حماة، وعملت على بسط سيطرتها، من خلال حلّ بعض الفصائل وإزاحتها، ومصادرة أسلحتها، أو إجبارها على التماشي مع سياستها، ثم اتجهت لتفكيك الجماعات “الجهادية” التي يطغى المقاتلون الأجانب على تشكيلاتها العسكرية.