احتشد آلاف السوريين في الشوارع مودّعين نزار قباني في عام 1998، في مشهد يعكس المساحة التي احتلها في ذكرياتهم والمساحات اليومية في عاطفتهم وحكاياتهم وتجاربهم مع السياسة والمرأة.
قلّة من الشخصيات السورية نزل الناس بالآلاف طوعًا لوداعها إلى الشوارع، وحظيت بوداع كالذي حظي به نزار، المولود في 30 من نيسان 1923.
وبقدر ما حاز نزار على شعبية واسعة، كرّستها غناء قصائده من قبل كبار المطربين العرب، من أم كلثوم وعبد الحليم وصولًا إلى ماجدة الرومي.
إلا أن نزار المثير للجدل، اتهم باستسهال الشعر وتجريده من قيمته، ودفع الناس إلى اعتبار أن أيًا ما خطت أقلامهم هو شعر.
أثر النكسة على شعر نزار قباني
استيقظ العالم العربي صبيحة 5 من حزيران 1967 على حرب الجيوش العربية مع إسرائيل.
وبقدر الحماس الهائل والتوقعات الكبيرة بإنهاء إسرائيل وتحرير فلسطين، جاءت الصدمة التي أنهت أحلام الكثيرين وكانت الأساس في إنهاء المشروع القومي العربي.
لم يكن نزار حينها بمعزل عن تلك الصدمة، وأدت الهزيمة إلى تغيّر في طريقة تفكير المثقفين العرب تجاه المجتمع والناس والقادة العسكريين.
ذهب جزء من المثقفين باتجاه النقد، وفضلوه على الغرق باليأس، فأصدر المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم كتابه “النقد الذاتي ما بعد الهزيمة” عام 1969، وأصدر نزار قصيدته “هوامش على دفتر النكسة</spa”>” 1967.</
قصيدة التي كتبها نزار لم تحمّل القادة العسكريين وحدهم مسؤولية الكارثة، بل تضمنت نقدًا لاذعًا للمجتمع أيضًا، وعمليًا فإن هذه الهزيمة تركت أثرًا واسعًا على شعر نزار قباني.
ويرى الشاعر والناقد السعودي محمد الحرز، في حديث لعنب بلدي، أن الأثر الذي تركته الهزيمة عميق، بمعنى أن الهزيمة لم تكن انكسارًا داخليًا لنزار يفرز القلق والخوف والضعف، وبالتالي فإن التحولات طالت الشعر السياسي لنزار، لكن هذه القصائد السياسية كانت أشبه بوثائق يمكن دراستها اجتماعيًا وتاريخيًا، وفق الحرز.
أثارت قصيدة نزار جدلًا وسعًا، ومنعت من التداول ومنع من الدخول إلى مصر حتى أرفق القصيدة برسالة أرسلها إلى الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر شرح فيها ما يريد قوله في القصيدة فألغي القرار، بحسب ما ورد في برنامج “باب الخلق” الذي يقدمه الإعلامي المصري محمود سعد.
الأثر الذي تركته الهزيمة على نزار، وأثر الأخير على الشعر، وعلى غيره من الشعراء والأدباء، أنشأ ما يُعرف بـ”أدب النكسة”، بحسب الشاعر ياسر الأطرش.
وقال الأطرش، لعنب بلدي، إن نزار كان حادًا وقاسيًا على الناس والأنظمة الحاكمة من خلال تقييم التجربة العربية حينها بشكل كامل.
ويرى الأطرش أن نزار رأى بعين الواقعية أن الناس المستسلمون لأقدارهم هم متهمون بالتخاذل أيضًا.
مدرسة نزار.. السهل الممتنع
يمكن القول إن نزار أسس لمدرسة شعرية بعده، سواء بأشعاره السياسية أو العاطفية، والأولى يرى الأطرش أنه ترك أثرًا كبيرًا باعتباره مرجعًا لمن بعده وتحديدًا في التحفيز على الجرأة وتوسيع النظرة إلى المجتمع والناس وحب الوطن والأرض والمدينة.
بالتوازي مع المدرسة الشعرية التي أسسها نزار، وجهت للأخير اتهامات بأنه فتح الباب لاستسهال كتابة الشعر، عبر تأليف أي جمل تكتب بطريقة معينة لتتحول إلى شعر.
هذه الاتهامات هناك من يؤيدها ومن ينفيها بين نقاد الأدب والشعر العربي، إلا أن الأمر ليس بسهولة ما يبدو عليه، خاصة أنها وجهت لآخرين أيضًا، بمن فيهم الرحابنة الذين اعتمدوا في أغانيهم على أشعار غنائية بسيطة الكلام.
وأوضح الشاعر ياسر الأطرش لعنب بلدي أن مدرسة نزار تعتمد بالأساس على السهل الممتنع الأكثر حداثة في الشعر العربي، وهي مدرسة تبدو ممكنة لكن لا أحد ينجح فيها.
الألفاظ العادية التي يعتمدها من يتبعون أسلوب نزار في الكتابة والشعر، لا تنجح دون صيغة نزار نفسه وفق الأطرش.
عكس نزار تجاربه الحياتية وتنقله بين بلدان العالم المختلفة أثناء عمله الدبلوماسي (عمل في سفارات سوريا في الصين ومصر وإسبانيا وغيرها) وانتحار شقيقته الكبرى عندما كان صبيًا صغيرًا، ووفاة ابنه البكر توفيق ثم مقتل زوجته بلقيس في تفجير للسفارة العراقية في بيروت، على شعره، لذا فإن شخصية كما نزار لا تذهب نحو الاستسهال.
هذه النظرية يشرحها الشاعر محمد الحرز بأن شخصية نزار الشعرية لا توحي أنه يتقصد الاستسهال بوصفه أحد عناصر التجديد، لكنه كان محكومًا بمرجعيات شعرية مؤثرة تواجدت لدى فوزي معلوف وجبران خليل جبران وانتهاء عند سعيد عقل.
ويشير الحرز إلى أن طريقة نزار بالكتابة محكومة بالتطور الذي صاحب هؤلاء الشعراء أيضًا، وهؤلاء تخلصت اللغة على يديهم من شكلها التقليدي وأصبحت أكثر حيوية وقدرة على ارتياد مناطق تعبيرية جمالية غير مسبوقة.
عامل آخر يراه الحرز مهمًا في طريقة نزار الشعرية، وهو حمله مهمة تنوير الناس وإيقاظهم.
وقال الحرز إن هذين العاملين “هما اللذين أوجدا المبرر النظري لفكرة أن نزار قرّب الشعر للناس، لكن الحقيقة أن شعرية نزار وشخصيته، وهما لا ينفكان على الإطلاق، وهما من البساطة ما يجعل من شعره بسيطا سلسًا غير معقد وغير انفعالي بالمطلق، وهذا ما ترافق أيضًا مع سليقة الجماهير وتلقيهم له”.