صفوان قسام
قيل إن محتالًا ذهب إلى ملك، وأقنعه بأنه يستطيع حياكة ثوب لا يراه إلا الأذكياء، وهو ثوب باهظ الثمن لا يحتمل تكلفته إلا كبار الملوك والسلاطين، ولأن الملك الساذج خاف أن يقال عنه إنه غبي ولا يستطيع رؤية الثوب، أو أنه ليس كغيره من أغنياء الملوك، طلب من المحتال أن يحيك له واحدًا، وكلّف رسامًا ليرسم له صورة بالثوب الجديد، وكان الرسام المسكين يقف عاجزًا أمام عدم رؤيته أي شيء على الملك، وهو يرى جميع الحشم والخدم يتغنون بجمال الثوب وبراعة الخياط، وكلما همّ برسم شيء يبادره الخياط بالقول إنك لا ترى الثوب وتدّعي ذلك، فيحرج الرسام الذي يضطر إلى تغيير اللوحة مرارًا وتكرارًا حتى يمل الملك فيطرده ويحضر رسامًا جديدًا.
وهكذا يبقى الخياط المحتال ناكرًا قدرة الرسام على الرؤية، بينما تبالغ حاشية الملك في إظهار إعجابها بالثوب الذي لا تراه وببراعة الخياط، فإن قالوا إنهم لا يرونه، سيقول عنهم البقية إنهم أغبياء، وسيسخرون منهم، وفي النهاية سيطردهم الملك.
واستمر ذلك حتى أتى يوم وسار الملك بين الناس متفاخرًا بثوب لا يراه إلا الأذكياء، فانحنت الجماهير أمامه وهي تراه عاريًا، وبعضهم صدق بأنه غبي ولا يرى الثوب، ولم يُظهر ذلك، بينما كتم البعض ضحكته من هذا المشهد، سوى طفل وقف بين الجموع وبدأ بالضحك والصراخ: الملك يسير عاريًا، الملك يسير عاريًا. في البداية حاول بعض الأهالي والحرس إسكاته، لكن آخرين استغلوا الوضع وصاروا يضحكون أيضًا، وهذا ما شجع الجميع على الضحك وكشف هذه المهزلة، فلا قيمة هنا لفن لا يعبر عن الشعب ويخدمه، ولا يمكن الإحساس به، حتى لو تجاوز مستوى ذكائه.
يذكّرنا ذلك بحادثة النظارات التي سقطت من شاب في أحد المعارض، وبقيت فترة على الأرض، وكيف تجمهر الناس حولها وتأملوها وتقوّلوا حولها وفسروها والتقطوا لها الصور، وكيف انفض الجميع من حولها، عندما عاد الشاب والتقطها وارتداها، ربما أحسوا عندها أن مبالغة من نوع ما قادتهم للانغماس فيها دون داعٍ.
وفي معرض آخر، ألصق أحدهم موزة بلاصق رصاصي على الجدار، تاركًا الناس في حيرة من أمرهم حول الرسالة المقصودة، فربما كان في الأمر “حزورة” ما، لكن بالتأكيد أشعلت الموزة انتقادات وانشغالًا وسخرية عارمة.
كذلك سيق الفن التشكيلي إلى مجال ابتعد فيه عن الناس، وصار تقليد كبار الفنانين التشكيليين شائعًا حتى درج فن غير مفهوم للعامة، يشبه تمامًا الثوب الذي لا يراه الأغبياء، والمشكلة أن الجميع كان يخشى أن يقول إنه لا يفهم ولا يرى فنًا في لوحة ما. ربما بالفعل هو مفهوم ومرئي لجماعة معيّنة لكنه ليس كذلك للعوام، فما الذي يهمنا إن سار الملك بثوب باهظ الثمن وروعة في الجمال ولم يرَه الناس! وماذا ينفع عقل الملك ووزيره إن كانت المملكة كلها قد أصيبت بالجنون؟
المشكلة ليست بالفن، فبالتأكيد له أهله وذواقته، والجواهري هو أفضل من يعرف قيمة الجوهرة، لكن المغالاة أحيانًا في رمزية الفن وإغراق العامة في التفكر وحل الرموز، يفقد الفن معناه ووظيفته، ومع السخرية أو الاستهزاء ممن لا يعرف ما تعني الرسالة، يصبح الفن المغرق في فرديته معزولًا عن العامة الذين لا يدّعون ما لا يفهمون، ويبتعدون بذلك عن فئة تدّعي الثقافة والاهتمام، لكنها في الحقيقة تأخذه على شكل “بريستيج اجتماعي”، قد يقودهم في المستقبل إلى احتراف ووعي ومعرفة فنية متقدمة، وربما يكون عبارة عن “موضة” هدفها الانتماء إلى شيء ما.
بعض من هذا القبيل نراه في مجال آخر وهو الأبحاث، حيث نشاهد كثيرًا من الأبحاث التي لا تتقيد بالمنهج العلمي، بل صارت أشبه بمزاجية فردية دون قاعدة، وتأخذ تسمية “الأبحاث التشاركية”، التي انتشرت بشدة وصارت “ترند” أو “موضة”، بل إن الأبحاث العلمية ذاتها صارت في خطر لاعتبارها متخلفة و”محصورة ضمن الأطر الأكاديمية”، التي صارت تهمة لتحييد الباحثين المختصين، وبات على الباحث أن يستخدم أدوات لا يقتنع بها فقط ليحافظ على مصدر رزقه.
وهذا ينطبق أيضًا على الفن الراقي الرصين ذاته بكل أشكاله، فبتنا نشاهد انتشار أفلام “السوبر هيرو” أو “الأبطال الخارقين”، وأفلام الحركة والعنف والتأثيرات السينمائية المبالغة كالتفجيرات والقتال الأسطوري، أكثر من الأفلام الراقية التي تعالج شيئًا ما، أيضًا في الموسيقا والغناء والمسرح وغيرها، والسبب هو طمع الخياط وفهمه بأن الجمهور الحالي تربى على برامج أطفال أسرت ذوقه وحورته إلى هذا السوق، ولأن الأكثرية اليوم هم من هؤلاء الأطفال الذين شبوا على برامج العنف هذه، صاروا هم التيار الشائع.
هذا الانحدار بكل شيء، صار يحاسب الناس ويؤطرهم، ورغم أنه خاص بفئة معيّنة، صار على الجميع قبوله أو يجري الحكم عليهم بأنهم جاهلون ومتخلفون وأغبياء و”بلا ذوق” أو “ديناصورات”، وهو تمامًا ما انعكس على قبول الأفكار، وخصوصًا التي تنتشر بطريقة تلبس فيها لباس التقدم والتحرر أو العيب والحرام، وحتى لو كانت تخالف العلم فإنها تُخضعه لها، وبالتالي يصبح العلم تابعًا للموضة أو السائد، وتصبح الأفكار الهوائية هي مقياس العلم، وليس العكس.
يمكن لنا ملاحظة ذلك على سبيل المثال لدى من يتبنون أفكارًا مؤدلجة، كجماعة الأحزاب الذين يحاولون تجيير العلم لمصلحتهم والبحث عن أي فكرة تدعم أفكارهم والبناء عليها، ويهاجمون ما يخالفها، وهنا يصبح العلم أداة للحزب، ويفقد مكانته الحيادية، والمشكلة الثانية عندما يصبح العلم وسيلة لإثبات الأفكار المسبقة، حيث يتم تطويع التجربة العلمية لتعطي نتائج تتفق مع الأحكام المسبقة. ومن هنا قال الكاتب التشيكي الشهير بوهوميل هرابال، “عندما تتسرطن الثقافة تخلق ما هو أشد خطرًا من الفوضى”.
ربما نعرف أن هناك فوضى وهي غياب النظام، وربما نعلم أن هناك من يسمون الفوضويين، وهم جماعات تسعى لإثارة الفوضى من خلال ضرب النظام، لكن الفوضى كسياسة أمريكية ممنهجة، حاولت أن تطال كل الجهات التي تسيطر على الثقافة، حتى تشوهها وتخلخل المجتمعات ونظمها الثقافية، ومن بين أدواتها تحويل الأفكار إلى موضة، وجعل الموضة تقود العلم، وأيضًا تمويل البرامج والمشاريع التي تتحدى المجتمع وتثير الخلل فيه، وتعوّم المغالين ممن يتبنون تلك الأفكار، ويحاربون من يقوم بتوعية المجتمع ويضربون مفهوم الوعي الاجتماعي.
بالعودة إلى قصة الخياط، ما أحوجنا اليوم إلى رسام شجاع يرسم ما يراه بالفعل دون خوف، وإلى طفل يحرض الجمهور على قول الحقيقة، دون أن ينال منه الحراس والسدنة ويهاجموه ويبعدوه عن الإعلام والوصول، ويحاربوه في رزقه وعلمه ومكانته ويلوثوا سمعته بوصفه بالغبي وعديم الأخلاق والرجعي.