يامن المغربي | حسام محمود
تعد الأعمال السينمائية والدرامية سلاحًا مهمًا تستخدمه دول وحكومات لنشر ثقافتها ولغتها، وتمثّل قوة ناعمة لتوجيه رسائل اجتماعية وسياسية لمجتمعها ومجتمعات وحكومات أخرى.
استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية هذه السياسة في الأفلام التي أنتجتها هوليوود منذ عقود (البطل الأمريكي والمخلّص والجيش الذي لا يُقهر)، كذلك عمدت تركيا إلى تشجيع إنتاج مسلسلات تاريخية وحتى دراما اجتماعية، تمت دبلجتها إلى العربية خلال السنوات الأخيرة، مستفيدة منها في الترويج لصورة الدولة وثقافتها وحتى معالمها التاريخية والسياحية.
وفي سوريا، التي شهدت فورة إنتاجية للمسلسلات الدرامية منذ تسعينيات القرن الـ20، أتاح النظام السوري استخدام الدراما والمسلسلات كسلاح للضغط على المجتمع وتوجيهه كما يريد، وازداد الأمر وضوحًا في سنوات ما بعد الثورة، عندما دعم إنتاج عشرات المسلسلات التي تروي وترسخ وتؤكد روايته حول “الحرب على الإرهاب، ومقاومة المؤامرة، وتحرير الأراضي التي سيطر عليها مسلحون وتنظيمات إرهابية”.
إنتاج النظام للمسلسلات السياسية لم يرتبط باندلاع الثورة في عام 2011، بل كان موجودًا قبل ذلك، وأرسل من خلالها رسائل إلى دول تختلف معه سياسيًا، وكانت الرسائل تتغير وفقًا لشكل العلاقات السياسية مع هذه الدول.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف الدور السياسي في الدراما السورية، وكيفية استخدام النظام للأعمال الدرامية، بما فيها تلك التي يفترض أنها تضمنت انتقادات لاذعة لأجهزة الأمن التابعة له، وأسباب غياب الأعمال الدرامية التي تروي وجهة نظر الثورة والمعارضة حول ما حصل في سوريا خلال السنوات الماضية، رغم وجود عشرات الفنانين والفنيين أصحاب الخبرة والقادرين على إنتاج أعمال تحاكي وجع السوريين وأفكارهم، داخل سوريا وخارجها.
وتكتسب الأعمال السياسية والتاريخية زخمًا كبيرًا، تبعًا لتطور التقنيات الفنية، وتغير مصادر المعرفة، ما يجعلها مرجعًا لبعض المشاهدين، ووثيقة لما حصل من أحداث، دون الأخذ بعين الاعتبار الفرق بين رواية التاريخ بالاعتماد على مصادر تاريخية موثوقة، والعامل الدرامي الأساسي في أي عمل فني.
مسلسلات سياسية في الصدارة
برزت خلال موسم دراما رمضان 2023 عديد من الأعمال التي تستند إلى رؤية أو زاوية أو حدث تاريخي ما، مقسمة الجمهور إلى فرق وأحزاب تناصر مسلسلًا ضد آخر، وفق الرواية التي يقدمها العمل.
وبالنسبة للأعمال السورية، تصدّر “الزند” و”ابتسم أيها الجنرال” اهتمام الجمهور، وتباينت وجهات النظر وفق التوجه السياسي، فجاء مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” محمّلًا بالرسائل السياسية رغم حديث صنّاعه عن استناده إلى “وحي الخيال”، وأن أي تشابه لما يرد فيه مع حدث واقعي “محض مصادفة”.
يعالج “ابتسم أيها الجنرال”، دون استخدام الأسماء الحقيقية، صراع شقيقين على حكم دولة ما بعد وفاة والدهما الرئيس، قبل أن تُحسم الأمور لمصلحة أحدهما الذي ترك الباب مفتوحًا أمام شقيقه ليغادر إلى فرنسا حاملًا ما شاء من مال ورجال، كما قدّم العمل قصصًا وتفاصيل تتقاطع مع الواقع السوري في حكم الأسدين، الأب والابن.
إلى جانب ذلك، جاء مسلسل “الزند” مستندًا إلى فترة أواخر القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، في فترة تراجع الحكم العثماني في سوريا والمنطقة، وقدم العمل بطله بلهجة “غير حمصية” خلافًا للبيئة المفترضة، وقريبة من لهجة مناطق في الساحل السوري، مسقط رأس الأسد نفسه، ما اعتبره مشاهدون ونقّاد لمسة مقصودة لتصميم شخصية البطل الرافض للصمت والظلم، كما أن العمل صُوّر بالكامل في سوريا، خلافًا لـ”ابتسم أيها الجنرال” الذي اتخذ من مدينة اسطنبول بيئة لتصوير أحداثه، مع تغييب معالم المكان بما يخدم رؤية صنّاع العمل.
ومن الأعمال التاريخية التي تحمل في الوقت نفسه بُعدًا سياسيًا، مسلسل “سفر برلك”، الذي أنتجته شركة “mbc” المنتجة لـ”الزند”، وهما عملان يشتركان بالتركيز على الحقبة التاريخية ذاتها، رغم اتجاه السعودية لترسيخ علاقاتها مع تركيا بعد قطيعة لسنوات.
هذا الارتباط بين السياسة والفن بدا بوضوح عبر التأخر في الإعلان عن عرض “سفر برلك” من جهة، وعدم عرض مسلسل “معاوية” في وقت تتجه به الرياض لاستئناف علاقاتها مع إيران، إذ إن شخصية العمل الرئيسة تشهد حالة جدلية لا تنسجم فيها الرؤية الإيرانية مع السعودية، بصرف النظر عن المحتوى الذي لم يصل إلى المشاهد.
إمكانيات النظام غير متاحة للمعارضة
منذ انطلاق الثورة السورية في عام 2011، عمد النظام السوري إلى إنتاج عشرات المسلسلات التي تؤكد وتوثق روايته عما حصل في سوريا، وعرضت القنوات الحكومية، أو المقربة من الحكومة والقنوات العربية في دول حليفة له كالعراق، هذه الأعمال بشكل متكرر، لتكريس هذه الأفكار وتأكيدها، سواء للسوريين أم للمشاهدين العرب المهتمين بالشأن السوري، أو لجمهور الدراما السورية ذاته.
لعبت هذه المسلسلات، إلى جانب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد العربية التي تعاطفت طويلًا مع الثورة السورية، دورًا كبيرًا في تغير وجهة نظر نسبة، ولو محدودة، من سكان العالم العربي تجاه ما حصل في البلاد.
وفي المقابل، لم تنتج المعارضة، أو الفنانون المعارضون خلال 12 عامًا هي عمر الثورة السورية، أعمالًا درامية تروي حكايتهم أو وجهة نظرهم حيال ما حصل في البلاد، رغم إنتاج عشرات الأفلام الوثائقية التي ظهر بعض منهم فيها، ومشاركة عديد منهم بمظاهرات في الشوارع، وظهورهم عبر وسائل الإعلام المختلفة للحديث عن الثورة السورية.
فقط أُنتج عملان خلال 12 عامًا، الأول مسلسل “وجوه وأماكن” عام 2015، و”ابتسم أيها الجنرال” في 2023، علمًا أن كلا العملين من إنتاج شركة “ميتافورا” التابعة لشركة “فضاءات” في قطر.
المخرج والممثل السوري بسام قطيفان، تحدث لعنب بلدي عن أسباب غياب هذه الأعمال الدرامية، خاصة مع حصد عشرات الأفلام السورية الوثائقية والروائية القصيرة جوائز في مهرجانات دولية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية اعتبار أن الدراما والفن هما ميدانا تنافس مع النظام، كما الميادين الأخرى السياسية والاجتماعية وغيرها.
وهناك ثلاثة عوامل وقفت في وجه إنتاج أعمال درامية سورية تروي حكاية مغايرة لما يروّج له النظام، هي التمويل وقنوات العرض والبعد الجغرافي للفنانين السوريين، بحسب قطيفان.
وقال قطيفان، “للأسف، لم تتصدَّ أي جهة من جهات المعارضة السورية لصناعة عمل فني يدعم قصصنا كسوريين، وعلينا ألا ننسى أننا في منافسة مع طرف يمتلك إمكانيات دولة وسلاحًا وجغرافيا أيضًا ودعمًا كاملًا لصناعة معارك كاملة، لننظر إلى الشارة الختامية لأي عمل أنتجه النظام، ولنرَ لائحة الشكر المقدمة إلى كل الوزارات تقريبًا”.
ويرى قطيفان أنه في الوقت الذي لا يمتلك الفنانون المعارضون كل هذه الإمكانيات، فإن النتيجة لن تكون سوى أعمال عرجاء لا تفيد.
من جهته، وجه الممثل السوري نوار بلبل اللوم حول غياب الأعمال الدرامية إلى المعارضة السورية بالدرجة الأولى، التي “لم تهتم أبدًا بصناعة أعمال درامية تنافس تلك التي قدمها النظام حول ما حصل ويحصل في سوريا”.
ولا يكتفي بلبل بلوم المعارضة، بل ويذهب للحديث عن منصات العرض، سواء القنوات الفضائية أو الإلكترونية، على اعتبار أن معظمها مرتبط أو ممول من الحكومات العربية بشكل مباشر، وبالتالي هناك وجود دائم لحسابات سياسية لدى الحديث عن الدراما.
وبحسب بلبل، فإن كلا الطرفين (منصات العرض والمعارضة) مسؤول عن هذا الأمر.
أين الممول
يحتاج العمل الدرامي إلى عناصر فنية مختلفة، تبدأ بسيناريو محكم وصولًا إلى إخراج إبداعي يعرف كيف تُروى الحكاية، وما بينهما هناك عشرات العناصر الفنية، من ممثلين وتقنيين وديكور و”إكسسوارات” وغيرها.
لذا فإنتاج الأعمال الفنية يحتاج بالدرجة الأولى إلى جهات تمويل مالية وقنوات ومنصات للعرض.
قال قطيفان، إن عديدًا من الفنانين السوريين (وهو من ضمنهم) خاطبوا بالفعل عدة جهات، بما فيها مؤسسات معارضة، لتخصيص جزء من تمويلاتها لإنشاء مؤسسة تختص بإنتاج الأعمال الدرامية.
وتابع، “بثمن بضع قطع من السلاح، والحديث هنا عن ملايين الدولارات، كان يمكن أن يكون هناك إنتاج مؤثر يروي الحكاية من وجهة نظر الثورة والناس ليصل صوتهما، مقابل صوت النظام الذي شوّه الثورة ودماء الناس”.
“العمل الدرامي سلاح في وجه الدكتاتور، كما الهتاف واللافتة والأغنية واللوحة والرواية والسلاح”.
بسام قطيفان |
ورغم الدعم السياسي والمالي الكبير الذي قدمته دولتان خليجيتان لديهما أدوات إعلامية ضخمة (المملكة العربية السعودية وقطر)، فإن هذا الدعم لم يذهب أبدًا باتجاه أعمال فنية، رغم أنه وصل إلى دفع مرتبات شهرية لأعضاء “الائتلاف السوري” (أكبر التشكيلات السورية المعارضة).
وعلى اعتبار أن الممول هو جزء أساسي من أي عمل فني، لا يمكن الحديث عن غياب سردية المعارضة في الدراما السياسية دون النقاش حوله.
ولا يتعلق الأمر لدى الدول العربية بالرغبة بعدم الخوض في غمار السياسة بحد ذاتها، إذ سبق للإمارات أن أنتجت عملين سياسيين على الأقل، “المنصة” (ثلاثة أجزاء 2020- 2021)، و”ممالك النار” (2019).
كما أن السعودية أنتجت أعمالًا سياسية كـ”العاصوف” وغيره، إذًا الأمر يتعلق بشكل مباشر بعدم الرغبة بخوض غمار الإنتاج فيما يخص الملف السوري، طالما أنه قد لا يخدم سياسة هذه الدول خارجيًا أو داخليًا.
من جهته، يرى الكاتب والناقد الفني سلام ناصر، أن الحديث عن غياب “الداعم” لإنتاج فني سوري معارض لا يكفي، على اعتبار أن العودة إلى أصل المشكلة ضروري لشرحها في هذه الحالة، إذ إن هذه المحاولات للإنتاج تحتاج أيضًا إلى وسائل ومساحة زمنية لإيصالها إلى الجمهور، بمعنى أن الدراما العربية لم تعتد عبر تاريخها إنتاج ما هو “خارج عن مألوف اعتاده المشاهدون”، بحسب ناصر.
وأوضح أن الدراما العربية عمومًا، بما فيها السورية، اعتمدت على إنتاج ما أطلق عليها ناصر “دراما رضائية”، أي مُرضية للأطراف السياسية المشرفة عليها، وتشمل خطابًا معيّنًا يتبع لأدبيات السلطة الحاكمة.
ومن جهة أخرى، فإن هذه طريقة الإنتاج خرجت بما يمكن تسميته “شمولية الدراما”، وهو مصطلح جاء كنتيجة خاصة في صناعة وعي جماهيري معيّن، وإذا أرادت المعارضة أو الفنانون السوريون إنتاج ما يناقض هذا الأمر، فهم بحاجة إلى أدوات ليست سهلة لاختراقه.
ولهذا السبب، يرى ناصر أن الحديث عن غياب داعم أو منصة عرض ليس كافيًا، طالما أن الأمر يتعلق بشمولية كاملة تحكم الدراما، سواء في سوريا أو غيرها.
وعمليًا، فإن تدخل السياسة بشكل مباشر في إنتاج وعرض وإيقاف مسلسلات درامية ليس حكرًا على النظام السوري وحده، وسبق أن أنتج تلفزيون “قطر” بالتعاون مع “المركز العربي للإنتاج الإعلامي” مسلسل “الطريق إلى كابل” (2004)، قبل أن يتوقف عرضه بعد ثماني حلقات فقط.
وتضاربت الأنباء حينها حول إيقاف العمل لأسباب فنية أو سياسية، والأخيرة أشار إليها بطل العمل عابد فهد في لقاء إعلامي مع المذيع السعودي داود الشريان في عام 2016.
أبرز الأعمال السياسية
– “حمام القيشاني” (1994- 2003) تأليف دياب عيد، إخراج هاني الروماني، بطولة عابد فهد وطلحت حمدي وسلمى المصري وأمل عرفة.
تدور أحداثه حول الحياة السياسية وانعكاسها على المجتمع السوري ودور الأحزاب السياسية فيه بالفترة بين 1946 و1963.
– “إخوة التراب” (1996) تأليف حسن م. يوسف، إخراج نجدة إسماعيل أنزور، بطولة أيمن زيدان وسوزان نجم الدين وجهاد عبدو.
تدور أحداث العمل حول “الثورة العربية الكبرى” ضد الوجود العثماني في سوريا عام 1918.
– “رسائل الحب والحرب” (2007) تأليف ريم حنا، إخراج باسل الخطيب، بطولة سلوم حداد وقصي خولي وسلاف فواخرجي وريم حنا.
تدور أحداث العمل حول المقاومة الفلسطينية في لبنان ضد الاجتياح الإسرائيلي والوجود السوري هناك.
– “الدوامة” (2009) تأليف فواز حداد، سيناريو وحوار ممدوح عدوان، إخراج المثنى صبح، بطولة أيمن زيدان وسلوم حداد وباسل خياط.
تدور أحداثه حول محاولات الدول الغربية السيطرة على ثروات سوريا في الفترة بين 1949 و1951.
– قلم حمرة” (2014) تأليف يم مشهدي، إخراج حاتم علي، بطولة سلاف معمار وعابد فهد وكاريس بشار ورامي حنا.
تدور أحداثه حول شخصيات مختلفة ومآلاتها خلال خمس سنوات من الثورة السورية.
– “لأنها بلادي” (2021) تأليف محمود عبد الكريم، إخراج نجدة أنزور، بطولة سعد مينا وفايز قزق.
يتحدث عن عملية انتقامية لجندي من قوات النظام السوري ضد تنظيم “الدولة”.
– “كسر عظم” (2022) تأليف علي الصالح، إخراج رشا شربتجي، بطولة سامر إسماعيل وكاريس بشار وخالد القيش.
تدور أحداثه حول الفساد في الشرطة وقوات النظام السوري.
– “ابتسم أيها الجنرال” (2023) تأليف سامر رضوان، إخراج عروة محمد، بطولة مكسيم خليل وعبد الحكيم قطيفان وريم علي وسوسن أرشيد وغطفان غنوم.
تدور أحداثه حول عائلة دكتاتورية تواجه أزمات وجودية تهدد حكمها وسط صراعات داخلية وخارجية.
التوثيق السياسي عبر الدراما
يطالب المشاهد الأعمال التاريخية أو التي تتناول فترة تاريخية ما، دون أن تمنح نفسها هذه الصفة، بتقديم معالجة موضوعية للحدث دون الالتفات إلى المعايير الفنية والدرامية، والظروف التي تحكم العمل، والصورة التي يرغب المنتجون بتقديم عملهم عبرها، ما وضع مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” تحت انتقاد شاع خلال العرض، وفحواه أن المسلسل لم يسمِّ الأمور بمسمياتها، واستعان بأسماء وهمية للإشارة إلى واقع حقيقي.
الكاتب الدرامي عبد المجيد حيدر، لفت إلى أن كثيرًا من الشخصيات الدرامية المتخيَّلة أصلًا انقلبت في وعي شريحة من الجمهور، ليتعامل معها على أنها شخصيات حقيقية من التاريخ، كشخصية “هاملت” التي ابتدعها شكسبير، وتحولت مع الزمن إلى شخصية حقيقية في وعي ملايين الناس.
وعلى مستوى الدراما العربية، والسورية تحديدًا، قد يعتقد المشاهد أن “ابن الوهّاج” شخصية تاريخية، رغم أنها متخيَّلة بالكامل، في مسلسل “الجوارح”، فالدراما، وفق الكاتب، تسهم في تشكيل الوعي الجمعي والتأثير فيه، وهذا ما يدفع شركات الإنتاج لتقديم كثير من أعمالها خلف جملة “عن قصة حقيقية”، ما يعني جاذبية أكبر للمشاهد.
وقال حيدر لعنب بلدي، إن الأعمال السورية التاريخية الثلاثة خلال الموسم الرمضاني الماضي، مؤلفة بالكامل، أي أنها من خيال الكاتب، دون نفي اشتراكها في الاستناد إلى وقائع تاريخية معيّنة، وهي لا تدّعي صراحة وجود هذه الشخصيات تاريخيًا.
وبرؤية نقدية للأعمال الثلاثة التي شاهدها الكاتب خلال رمضان، يقدّم “سفر برلك” تماسكًا في حكايته الافتراضية، مع ظهور شخصيات تاريخية حقيقية في العمل، مثل جمال باشا وفخري باشا والشريف علي وشهداء التنوير العربي.
ورغم الاتكاء على الوقائع التاريخية العامة، فإن الدراما كانت متخيَّلة ومنسجمة في الوقت نفسه مع الفترة التاريخية للعمل، وتحترم عقل المشاهد بمستوى واقعيتها.
وفيما يتعلق بـ”الزند”، لم يدّعِ صنّاع العمل أنه وثيقة تاريخية، لكنهم درسوا المرحلة التاريخية، وكانوا أمناء عليها بشكل كبير فيما عدا بعض الشطحات التي ربما ذهب إليها نجم العمل، لكنها ظهرت بوضوح خرق انسجام العمل التاريخي.
ويعتبر مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” عملًا متخيَّلًا وفق القائمين عليه، لكن الجمهور السوري سرعان ما راح يقارن الأحداث بوقائع تاريخية حدثت في سوريا، وما جرى فعلًا أن الكاتب مزج أكثر من شخصية تاريخية في شخصية واحدة، وجمع أحداثًا تاريخية حصلت في أزمنة مختلفة، وقدمها في سياق درامي يخدم الحبكة.
وبحسب رأي الكاتب، فالدراما غير مطالَبة بنقل الواقع كما هو، أو إعادة سرد التاريخ وتصحيحه أو توجيهه.
“الفن مهمته تقديم عبرة وصورة جمالية، وبشكل عام، فإن الفن حتمًا يوثّق التاريخ، لكنه يوثّق تاريخه وحاضره، نحن نعرف حياة العرب في الجاهلية مثلاً من خلال المعلّقات والقصائد”.
عبد المجيد حيدر- كاتب درامي |
ويرى الكاتب الدرامي عبد المجيد حيدر، أنه عند الحاجة إلى عمل توثيقي، يجب صناعته بشروط التوثيق، كتقديم مستندات وصور وأفلام عن المرحلة التي يجري تسليط الضوء عليها، لكن وظيفة الدراما تقديم حكاية مسلّية تحترم عقل المشاهد، وتقدم له وجبة معرفية ومتعة فنية، تسهم في جعل حياته أجمل.
من جانبه، اعتبر الكاتب الدرامي حافظ قرقوط، أن ميل الناس للحصول على المعلومة عبر المشاهدة يفتح الباب أمام الدراما لتشكل حالة توثيقية، لكن أي عمل توثيقي يحتاج إلى مستندات ومراجع حقيقية تقرّبه من الواقع.
وأشار قرقوط إلى أن العمل التاريخي ليس من الضروري أن يكون توثيقيًا بالكامل، لكنه يستند في الوقت نفسه إلى مراجع معيّنة، كمسلسل “الزير سالم” للراحل ممدوح عدوان، واستند فيه عدوان لأبيات شعرية ومعلومات موجودة بالوثائق والأرشيف العربي، وفق حديث سابق جمع قرقوط بعدوان.
فالأعمال الحالية التي تنشد أن تعكس التاريخ غالبًا ما تكون سياسية، وهذا يجعلها تحتمل وجهين، هما الاتفاق أو الاختلاف مع وجهة نظر معيّنة، فالتمويل والإنتاج خدمة لفكرة معيّنة، قد يلوي عنق الحقيقة ويسيء للتاريخ بحد ذاته، وفق رأي الكاتب.
“عندما تصبح الدراما مصدرًا أساسيًا للتوثيق، يصبح المال والإنتاج متحكمًا بهذا التوثيق، وعند غياب الحريات في مناطق معيّنة، يصبح التوثيق خطرًا عبر الدراما، لأنه يتماشى مع رغبة التمويل في توجيه الحقيقة”.
حافظ قرقوط- كاتب درامي |
وحول شروط التوثيق عبر الدراما، يرى الكاتب أن المسلسل يحتاج إلى مرجعية وباحثين يدققون النص لتثبيته وعدم الذهاب به نحو عواطف تخدم الكاتب أو الممول، ليكون أمانة تاريخية للأجيال المقبلة، وغير موجه وفق رغبة الكاتب.
الفن رسالة أم ترفيه؟
أحد أبرز الجدالات التي تسود في الأوساط الفنية حول العالم، تدور حول دور الفن في حياة الناس والمجتمع، هل الفن عمل ترفيهي بحت هدفه الأساسي تقديم التسلية؟ أم أنه يمكن أن يتحمل تضمين رسائل اجتماعية وفلسفية وسياسية أيضًا؟
تتصل هذه الجدلية بالأساس بالفن السينمائي، وتحديدًا منذ الحرب العالمية الثانية، عندما بدأت الولايات المتحدة الأمريكية الطلب من شركات الأفلام في هوليوود إنتاج أعمال تتحدث عن الجيش الأمريكي وبطولاته في الحرب.
سبق هذا الأمر دخول المونتاج كأحد عناصر العمل الفني، وهو ما أسهم بشكل مباشر بتطوير رواية القصة التي يحكيها الفيلم، وبالتالي ظهر أن الفيلم، وبالتالي العمل الفني، يمكن له أن يحمل رسائل فلسفية معيّنة، كما ظهر في أولى التجارب بالمونتاج والتي نفذها المخرج الروسي ليف كوليشوف، في عام 1910.
ويرى الكاتب والناقد سلام ناصر أن العمل الدرامي الجيد يبحث عن فكرة تصيب وعي الجمهور، وإن لم تصِب فيندرج تحت مسمى الدراما الفارغة.
يعتمد أنصار نظرية “الفن للتسلية” على أن الأعمال السينمائية نشأت بالأساس كاختراع علمي استُخدم في الترفيه، وبالتالي فإن العمل الفني المصور، فيلمًا كان أم مسلسلًا دراميًا، يجب أن يعود إلى جذره الأساس.
فيما يرى أنصار النظرية الأخرى، أن العمل الفني ومع التطورات الكبيرة التي شهدها على صعيد التقنيات والوصول إلى الجمهور، بات لزامًا عليه الحديث عن الناس ومشكلاتهم والإسهام في طرح همومهم اليومية وكذلك التوعية.
رسائل داخلية وخارجية
حملت المسلسلات السورية منذ التسعينيات رسائل سياسية داخلية وخارجية، للمجتمع السوري أو للدول الإقليمية، وتحديدًا تلك الأعمال المصنّفة بشكل مباشر على أنها أعمال درامية سياسية، كـ”حمام القيشاني” و”إخوة التراب” وغيرهما، يُضاف إليها الأعمال الكوميدية الناقدة كـ”بقعة ضوء” على سبيل المثال.
تراوحت الرسائل في هذه الأعمال بين الوضوح، كما في “إخوة التراب” بجزئه الأول (1996)، الذي تحدث عن “الثورة العربية الكبرى” ضد الوجود العثماني في بدايات القرن الـ20، وجاء في ظل توتر العلاقات السياسية بين النظام السوري والحكومة التركية، وصلت ذروتها مع حشد الأخيرة دباباتها على الحدود مع سوريا.
فيما كانت الرسائل في أعمال أخرى مبطنة، كما في مسلسل “بقعة ضوء”، الذي جاء في فترة تحدث فيها النظام السوري عن انفتاح ورفع سقف الحريات في البلاد، سبقه مسلسل “حمام القيشاني” الذي تحدث عن الظروف السياسية الداخلية قبل وصول حزب “البعث” إلى سدة الحكم عام 1963.
لم يتوقف الأمر على المسلسلات التي أنتجها النظام السوري، أو شركات الإنتاج السورية المقرّبة منه (شركة “سوريا الدولية” كمثال، والتي كانت مملوكة لمحمد حمشو أحد رجال الأعمال المقربين من الأسد)، بل شمل استضافة تصوير أعمال عربية وتقديم تسهيلات لها.
ويروي الممثل والمخرج السوري بسام قطيفان لعنب بلدي، أن عملية إنتاج مسلسل “الاجتياح” من إخراج شوقي الماجري 2007، تعثّرت بسبب رفض الأردن تصوير العمل على أرضه، وعمل حينها قطيفان كمخرج منفذ للعمل.
ويحكي العمل قصة فصائل فلسطينية توحدت في مقاومة اجتياح قوات الاحتلال الإسرائيلي لمخيم “جنين” في عام 2002، وهو من إنتاج “المركز العربي للإنتاج الإعلامي” (مركز أردني).
وقال قطيفان، إن فريق العمل قرر الانتقال للتصوير في سوريا، وقدم النظام السوري حينها تسهيلات كبيرة جدًا، بما في ذلك أجور مخفضة لاستخدام الأسلحة والدبابات في المعارك، كما أنه لم يعارض أي جملة قيلت في النص المكتوب طالما أنها لم تقترب من أي شأن سوري.
وأضاف، “يمكننا القول إن النظام ظهر بشكل داعم للقضية الفلسطينية، ويقف إلى جانبها، ولم تظهر أي مشكلة من جانبه في أثناء التصوير”.
وشارك في بطولة العمل حينها عدد كبير من الممثلين السوريين، كعباس النوري وديما قندلفت ومكسيم خليل.
رسائل ما قبل الثورة.. تكريس سلطة المخابرات
الرسائل السياسية التي تضمنتها الأعمال الفنية المنتَجة ما قبل الثورة، لم تكن معلَنة بالضرورة، فمسلسل “بقعة ضوء”، أحد أشهر المسلسلات التي تضمنت نقدًا لأجهزة الأمن والمخابرات لدى النظام، حمل بدوره رسائل مختلفة تمامًا عن المقصود وظهر على الشاشة.
الممثل السوري نوار بلبل، أحد الممثلين الذين شاركوا في عديد من اللوحات التي جاءت في المسلسل، يرى أن هذا العمل كان عاملًا مهمًا في إيصال رسائل النظام إلى الناس، التي تظهر على أن سقف الحرية ارتفع، لكن في الوقت نفسه يكرّس صورة المخابرات وسطوتها وقوتها، وهو ما يزرع الخوف في نفوس المواطنين.
إحدى اللوحات التي تضمنها المسلسل، تظهر مجموعة من الناس يدفنون شخصًا، ثم يلقي أحدهم كلمة يعدد فيها مناقب الفقيد، ومع ذكر كلمة “كان معارضًا” يقوم الميت من تابوته ليصرخ في الناس، هذه اللوحة كانت إحدى اللوحات التي تكرس قدرات المخابرات السورية على ملاحقة الناس في قبورهم.
نوار بلبل- ممثل سوري |
وحول الرسائل الداخلية والخارجية، يرى بلبل الذي شارك في عدد كبير من المسلسلات السورية (47 مسلسلًا)، أن رسائل الخارج ظهرت أيضًا عبر تكريس فكرة أن سوريا لديها دراما قوية ومنفتحة وناقدة، هذه رسائل للدول القريبة والبعيدة، وهذا ما يجعل الشعوب العربية تفكر للحظة بأن السوريين كان لديهم مساحة ديمقراطية واسعة، وذلك بسبب ما يظهر في المسلسلات، رغم أن الفنانين المعارضين كانوا يعملون ضمن المتاح.
في حين قال الكاتب والناقد سلام ناصر لعنب بلدي، إن النظام السوري، والأنظمة الشمولية عمومًا، تطوّع النصوص الفنية لخدمة توجهاتها وتسليع المجتمع، لذا فإن الرسائل، داخلية أم خارجية، تمشي في هذا الإطار، لذا يمكننا أن نرى علاقة بعض الأعمال السورية وارتباطها بتجاذبات سياسية، كما الحديث عن الوجود العثماني على سبيل المثال.