بلا معايير قانونية وأخلاقية
الكاميرا الخفية في سوريا.. “إضحاك” على حساب كرامة الناس
عنب بلدي – حسن إبراهيم
في شباط 2022، نشر “اليوتيوبر” السوري يوسف قباني تسجيلًا مصوّرًا وهو يتجول بزي خليجي في شوارع مدينة دمشق مع مرافقة إلى جانبه، حاملًا بيده المال، ويسأل الناس عن أحوالهم، ومن يشكو فقره يأمر “اليوتيوبر” المرافقة بإعطائه قليلًا من المال، أمام عدسة الكاميرا.
أثار التسجيل موجة غضب كبيرة، وفتح باب الانتقادات بأنه “مستفز يستغل أوجاع الناس ويهين كرامة السوريين”، ليعتذر “اليوتيوبر” بعدها عن التسجيل، مشيرًا إلى أن فكرته كانت خاطئة، نافيًا أخبار اعتقاله في سوريا، بعد مطالب واسعة بذلك، وأنباء عن توقيفه.
بدعوى “الإضحاك”، ترصد كاميرا سرية بأكثر من زاوية ردود فعل ضحايا لـ”مقالب” تحمل في طياتها سخرية، واستهزاء، وتخويفًا، وتحرشًا لفظيًا، وإساءة، واستغلالًا للحاجة، وافتراء، وضربًا.
مثل ما فعله قباني، تنشط “المقالب” في سوريا مع بداية الموسم الرمضاني، وتنتشر على منصات التواصل الاجتماعي أكثر من شاشات التلفاز، تتلاعب بعواطف الناس وتستفزهم بتخطيط مسبق، وبممارسات لا يحمل بعضها احترامًا لكرامة الأشخاص أو للذوق العام.
“مقالب” تحصد آلاف المشاهدات، تُنشر بعد موافقة من “الضحايا”، خالطة شعورهم بالصدمة والفرحة بتخلصهم من ورطة غير متوقعة، آملين بالخروج منها بأقل الأضرار، بعد ابتسامة “صفراء” لا تحمل الرضا.
ضحايا أمام العدسة
بصوت عالٍ في الشارع، وبحجة أنه يتحدث عبر الهاتف، ينادي شاب على فتاة من المارة لأكثر من مرة، ويتدرج بالحديث معها مستخدمًا عبارات تصل إلى الشتيمة، باحثًا إما عن رد فعل غاضب منها، وإما أن تطاله الفتاة بالاعتداء بيدها، فينتهي المشهد على أنه كاميرا خفية.
ويتعرض زبون في محل حلاقة لاعتداء (ضرب باليد) ورش بالمياه على وجهه من شخص آخر بحجة تعليم شخص ثانٍ أصول المهنة، بينما في المقهى تُعرض صور زبون يجلس فيه على شاشة رئيسة على أنه مطلوب وفار من العدالة.
وتكثر “المقالب” التي تقتحم فيها فتاة طاولة يجلس قربها شاب وفتاة، معكرة صفو الجو، خالقة مشكلات تزعزع الثقة بينهما، ويمتد هذا “المقلب” إلى الشارع والأماكن العامة، لتدخل الفتاة في تجمعات عائلية على أنها ابنة أو زوجة للرجل (الضحية).
وفي محال الخضراوات والمطاعم، تنشط “مقالب” عبر طرح عروض على سلعة أو وجبة من خلال لافتات معلّقة على الواجهة، وحين إقبال الزبون يتفاجأ بصغر الكمية والحجم، وربما يعطيه البائع سلّة فارغة، غير آبه بتعابير وجوه الزبائن المتعبة والغاضبة، والتي دفعها العرض وربما الحاجة لقصد المكان، ليلتمس المشاهد ضيق صدر الضحايا ويشعر بالتعاطف معهم.
وتطغى ملامح الخوف والصدمة على شاب (ضحية)، حين يتفاجأ بأن الجثة التي طُلب منه أن ينقلها عبر سيارته تتحرك داخل الكفن، وأن صاحبها لا يزال على قيد الحياة، لينتهي المشهد على أنه كاميرا خفية.
ويتوجه شاب نحو مجموعة أطفال (فوق عشر سنوات)، بحجة أنه يبحث عن شخص مقصود بعينه، متحدثًا عبر الهاتف مع شخص آخر، ويوهمهم بأن لديه سلاحًا لكنه يكون قطعة خيار أو باذنجان، ولحين اكتشاف “المقلب”، يتسبب الشاب بحالة هلع وخوف وهروب الأطفال، أو تهجمهم عليه وضربه.
انتهاك خصوصية
الباحثة في علم الإعلام الاجتماعي ليلاس دخل الله، قالت لعنب بلدي، إن هذا النوع من “المقالب” يرسخ ثقافة التنمر والعنف، ويهدد الصحة النفسية للبالغين والأطفال، وكذلك صحة المجتمع الأخلاقية، ما يؤدي إلى انهيار أخلاقي.
وترى الباحثة أن “المقالب” تقوم على انتهاك خصوصية الناس واستغلال ضعفهم أو حاجتهم، إذ تجرح كرامتهم وتجعلهم ضعفاء بعين المجتمع، وتفتح الباب لاستغلالهم من قبل فئات أخرى في المجتمع.
وتسبب “المقالب” مشكلات نفسية ومجتمعية كبيرة، وتزيد الفجوة بين الفرد والمجتمع، بحسب دخل الله، التي ذكرت أن نشر ثقافة الاستهزاء واللا مبالاة بخصوصيات الناس من علامات الانهيار الأخلاقي، مشيرة إلى أن المجتمعات تكبر باحترامها للإنسان وبقيمها الأخلاقية.
وفي حال كانت “المقالب” تتحدث عن حالة الأشخاص الاقتصادية أو الاجتماعية، قد يظن الأشخاص (الضحايا) أنها تسهم برفع صوتهم أو تلبي شيئًا من احتياجاتهم، ما يدفعهم للقبول، وفق دخل الله.
ولطالما كانت “مقالب” الكاميرا الخفية محط جدل واسع في سوريا وفي العالم العربي ككل، أثار بعضها موجة انتقادات واسعة، خاصة تلك التي تحمل تبريرات بأن غايتها إيصال رسالة إلى المجتمع، أو تسليط الضوء على بعض الممارسات الخاطئة فيه.
اعتبرت الباحثة أن تبرير بعض “المقالب” على أنها تحمل رسالة أو أي هدف كان، لا يبرر استخدام طرق وأساليب لا تتماشى مع عادات وثقافة المجتمع، وهذا التبرير يتنافى مع الأخلاق الإنسانية والمهنية أيضًا.
ولفتت دخل الله إلى وجود قواعد مهنية وإعلامية، لإعداد تقرير أو لقاء مع أشخاص ليتحدثوا عن مشكلاتهم وقصصهم بإرادتهم وبصورة لا تقلل من احترامهم، وتسلّط الضوء على المشكلة والحل ضمن قواعد تحترم الإنسان والمُشاهد والمنبر الذي يُقدم.
تخويف لحصد المشاهدات.. كاميرا غير هادفة
تحظى “المقالب” بنسب مشاهدات مرتفعة بشكل عام، وبعد رصد أجرته عنب بلدي لمنصات تنشر “المقالب”، تحصل التسجيلات التي تتضمن تخويفًا للأشخاص ومفاجأتهم على نسب مشاهدات مرتفعة أكثر من غيرها.
قالت الباحثة دخل الله، إن بعض المقالب تُربط بعنصر التخويف لإخضاع الضحية، وبعنصر المفاجأة لتشويق المشاهد، معتبرة أن “المقالب” تحمل مخاطر عالية، منها أن يصبح المشاهد مستمتعًا بمشاهدة إنسان آخر يتم تخويفه أو إهانته، وتكمن الخطورة بأن يعتاد الإنسان رؤية هذه الصور فتصبح طبيعية بالنسبة له.
وترى الباحثة أن برامج الكاميرا الخفية نوع من الاستغلال للحصول على مشاهدات عالية، بتحطيم شخصية أمام عامة الناس، وفتح جرح أو طرح مشكلة بطريقة غير أخلاقية وتركها.
ولفتت دخل الله إلى وجود كثير من برامج الكاميرا الخفية، التي بثتها محطات تلفاز وقنوات “يوتيوب” غربية، كانت تعرض مثلًا كيفية تعامل الطفل مع حالات معيّنة، أو كيفية تعامل شخص مع موقف معيّن، وأغلب هذه الحلقات تتحدث عن أمور عفوية وتلقائية، بحيث يضحك المشاهد ولكنه يتعلم من أخطاء الآخرين.
وذكرت الباحثة أن برامج الكاميرا الخفية تلك، عملت ضمن ضوابط أخلاقية ومجتمعية عالية جدًا، وتم استخدامها كأداة تصحيح وبناء لا هدم وتفكيك، مشيرة إلى وجوب إيقاف برامج الاستهزاء والتدخل بخصوصيات الناس كي يصبح المجتمع أكثر صلابة، فحاجة الناس وضعفهم ليست مكانًا للسخرية ولا مادة تجارية لكسب المشاهدات، حسب قولها.
مشروع قانون لا يضبط
لا يوجد قانون أو ضوابط لعمل “مقالب” الكاميرا الخفية في سوريا، رغم بروزها خلال السنوات الماضية، مع كثرة انتشار “اليوتيوبرز” و”المؤثرين” والمنصات التي تقدم هذا المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولا يقتصر أمر غياب الضوابط على “مقالب” الكاميرا، إنما يتجاوزه لمحتوى مماثل لا يخلو من حمل “الإهانة” للناس.
ويوجد في سوريا مشروع قانون “مكافحة الجريمة المعلوماتية”، الذي يتضمن عقوبات بالسجن وغرامات مالية على كل ما يُنشر عبر الشبكة إلكترونيًا، سواء كان ذلك عبر وسائل إعلام مرخصة أو مواقع إلكترونية أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي كانون الأول 2021، اقترحت وزارة الاتصالات السورية مشروع تعديل قانون “مكافحة الجريمة المعلوماتية” رقم “17” لعام 2012، للمناقشة أمام “مجلس الشعب”، وطرأ عليه تعديل وإعادة صياغة في مادتين متعلقتين بـ”النيل من هيبة الدولة” و”النيل من هيبة الموظف”.
وقالت مقررة لجنة الشؤون التشريعية والدستورية في “مجلس الشعب”، غادة إبراهيم، خلال إقرار تعديل المادتين، إن الإساءة إلى الدولة أشد من الإساءة إلى الأشخاص، ويجب الفصل بين الجريمتين وعقوباتهما، إذ إن العقوبة في حال كانت الإساءة لموظف الدولة بصفته الوظيفية أشد من الإساءة له بصفته الشخصية، وفق تعبيرها.
ويعاقَب بالسجن من شهر إلى ستة أشهر وبغرامة تصل إلى 200 ألف ليرة سورية، كل من ذم أحد الناس بشكل غير علني بوسيلة إلكترونية على الشبكة، وتُشدّد العقوبة إلى الحبس من أربعة أشهر إلى سنة، وتصل الغرامة إلى 500 ألف إذا اقترف الذنب بشكل علني.
ويعاقَب بالسجن من شهر إلى ثلاثة أشهر وبغرامة تصل إلى 200 ألف ليرة، كل من اقترف القدح أو التحقير بأحد الناس، بشكل غير علني بوسيلة إلكترونية على الشبكة، وتُشدّد العقوبة إلى الحبس من شهرين إلى ستة أشهر وغرامة 500 ألف ليرة، إذا اقترف القدح أو التحقير بشكل علني.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :