إبراهيم العلوش
مناظر القصف المتبادل بين قوات الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع”، الذي بدأ في 16 من نيسان الحالي، تنذر بمأساة جديدة تلحق بالدولة والمجتمع السوداني بسبب تكالب العسكر على الحكم.
عام 2019، نجح تحالف البرهان مع “حميدتي” في إزاحة الرئيس السوداني السابق، عمر حسن البشير، في خطوة انقلابية، ادّعت أن هدفها هو الديمقراطية والحكم المدني، وعلى عكس الجنرال السوداني عبد الرحمن أسوار الذهب، الذي أعاد الحكم للمدنيين بعد انقلابه على الدكتاتور جعفر النميري 1985، فإنهما التفا على المدنيين وعلى الأحزاب السياسية في عام 2021، وتنصلا من الوعود التي قطعاها لعودة الجيش إلى ثكناته، وتصدوا للمتظاهرين، وقد قتلت “قوات الدعم السريع” وحدها أكثر من 100 متظاهر، يُتهم شقيق “حميدتي” بأنه كان مشاركًا فيها.
كانت مظاهرات السودان مشاهد في النضال المدني والسلمية، وبرزت ظاهرة النساء المتظاهرات والقائدات، اللواتي كُن يُطلق عليهن “كنداكات”، بعد أن كانت المرأة تُجلد إذا لبست بنطال “جينز” أيام البشير. وقد انتعشت ذاكرة السوريين بهذه المظاهرات، وذكّرتهم بالأيام السلمية التي كانت قوات الأسد ومخابراته الطائفية تطلق النار على المدنيين الذين قدموا الورود للجيش.
ولكن الجيوش العربية على الأغلب لا تعترف بأوطانها، إلا كثكنات وسجون، وساحات لتدريب الجنود، وتجريب الذخيرة على المدنيين، فالتربية العسكرية قائمة على عقيدة مقيتة أشبه ما تكون بجريمة “زنا المحارم”، فكل البنادق والمدافع موجهة إلى المدنيين، والطائرات تبرع بقصف المدن وبالقيام بالانقلابات، وقلما تخوض حربًا حقيقية على الحدود، وإن فعلت فهي أول الخاسرين.
لمع نجم الجنرال عبد الفتاح البرهان مع الانقلاب الذي قاده على الدكتاتور حسن البشير الذي عيّنه مفتشًا عامًا للقوات المسلحة وكان حليفًا له، أما الجنرال محمد حمدان دقلو الملقب بـ”حمديتي”، فقد كان تاجر إبل تزعّم ميليشيات “الجنجويد” في دارفور، وارتكب هناك جرائم ضد الإنسانية، واستولى على مناجم الذهب، وصار شديد الثراء، واشترى الولاءات والعلاقات الدولية خاصة مع روسيا والإمارات، حيث أرسل جنودًا من قواته إلى ليبيا واليمن لدعمهما هناك، وباع الذهب لروسيا قبيل حربها على أوكرانيا لتضمن موسكو جزءًا من رصيدها بالذهب بدلًا من الدولارات التي قد تخضع قيمتها للتغير.
وكانت روسيا تطمح بأخذ قاعدة بحرية في “بورتسودان” على البحر الأحمر من خلال علاقتها مع “حميدتي” لتجعل من السودان ممرها إلى وسط إفريقيا، التي تحلم بالسيطرة على بعض بلدانها، وسط منافسة مع الصين وفرنسا وأمريكا، وكان لقوات “فاغنر” دور كبير في ذلك، وهي تشبه ميليشيات “الجنجويد”، وقامت بنفس الدور في سوريا.
القتال بين البرهان و”حميدتي” في الخرطوم، يذكّرنا أيضًا بصراع رفعت الأسد مع أخيه حافظ، وازدواجية الحكم اليوم بين بشار الأسد وأخيه ماهر. ثنائية القيادة العسكرية هي ما تجمع العسكر السوداني مع جيش الأسد، حيث يخضع طرفا القيادة للضغط المتواصل والتنافس بينهما في الاستيلاء على الدولة والمجتمع.
هذه الثنائية قائمة على قائد يدّعي الحكمة مع نائب أو أخ أو قائد ميليشيا يقوم بدور “الأزعر” أو “البلطجي”، ويخدم الاستيلاء على الحكم بأعمال سوداء خارج إطار المحاسبة القانونية، في ظل الرضا على المكاسب المحصودة، سواء كنوز الذهب التي يجلبها “حميدتي”، أو الأموال التي يجنيها ماهر الأسد من الحواجز و”الترفيق” و”التشليح”.
الصراع على الحكم بين رفعت وحافظ هدد بتدمير دمشق عندما تمت محاصرتها في العام 1984 من قبل قوات رفعت “سرايا الدفاع”، وكادت المعارك أن تندلع مثل المعارك السودانية اليوم، لولا قبول رفعت الأسد برشوة مالية ضخمة، وسياحة أوروبية تضمن عدم محاسبته على مجازر حماة التي ارتكبها في العام 1982.
تقول الخبيرة الألمانية مارينا بيتر لموقع “DW”، إن دول الجوار ترفض الحكم الديمقراطي في السودان، فهذا ما يشكّل تحديًا لأنظمة الحكم المحيطة في مصر وإريتريا وأثيوبيا والسعودية ودول الخليج عمومًا، لذلك تدعم هذه الدول جنرالات السودان. ولعل هذا ما يفسر التفاف الحكومات العربية حول بشار الأسد وتشجيعه على البقاء في الحكم، حتى ولو ظل متحالفًا مع إيران ومستمرًا في ارتكاب الجرائم ضد السوريين.
السودانيون استقبلوا اللاجئين السوريين منذ العام 2012 بلا “فيزا”، ووجد السوريون أن أهل السودان يتسمون باللطف والضيافة، وأن بلدهم فيه كثير من الفرص الاقتصادية التي برع السوريون في استثمارها، ونالوا شهرة في الأوساط الاجتماعية.
الانقلابيون سرعان ما ضيّقوا على السوريين بتهم مستهلكة، ولكن الأوساط السودانية ضمنت استقبال السوريين، ووجدت فيهم فرصة لتجديد أساليب العمل والحرف اليدوية، والتجارة. ومع شمال العراق، صار السودان رغم بعده مكانًا لزيارات العائلات السورية، وجمع شمل لقاءاتها المؤقتة، لأن كل السوريين يستطيعون الذهاب إلى هناك دون “فيزا”، على عكس مصر ولبنان اللتين ترفضان الزيارات إلا بـ”فيزا” وبعد انتظار التحقيقات الأمنية.
السودان بلد جديد يشرع العسكر بتدميره، ويستعملون حتى وسائل الذكاء الصناعي مثل “GPT AI” في نشر أكاذيبهم، فالدكتاتوريات العسكرية رغم استيلائها على موارد البلدان، لم تخلّف إلا الدمار والدول الفاشلة في ليبيا والعراق وسوريا والصومال، وكراهية أنظمة الحكم لشعوبها داء مقيم في منطقتنا المنكوبة.
انتهى شهر رمضان وجاء العيد، ولكن القصف لم يتوقف. نتمنى للسودان الخروج السريع من هذه الحرب بين البرهان و”حميدتي”، ونتمنى لشعبه سيادة القانون وحكم المدنيين، فالجنرالات لا يهتمون إلا بأناقة بدلاتهم وأوسمتهم وسفارات الدول التي تدعمهم.
وكل عام وأنتم بخير.