صفوان قسام
قيل إن الأعرابي موصوف بالكرم، فهو يستبقي الضيف ثلاثة أيام في منزله أو خيمته بكرامة وسخاء قبل أن يسأله عن اسمه، أو حاجته، وهو يجير اللاجئ مهما كان سبب هروبه، ويدفع ثمنًا لذلك الغالي والرخيص. وكثرت التفسيرات الاجتماعية والأنثروبولوجية في تفسير هذا السلوك، ورد جذوره إلى الحوادث المغرقة بالقدم والتفسيرات التي تذكر الارتباطات المتعلقة بالموضوع لا الأسباب، لكن لعلم النفس الاجتماعي رؤية خاصة في التفسير.
لا سلوك يصدر عن البشر دون وجود احتياج، جسدي أو اجتماعي أو نفسي. والاحتياج الكامن وراء الكرم لدى الأعرابي هو حاجته إلى الاجتماع بالآخر، فمن كان منقطعًا عن الونس والصحبة لفترة طويلة، يميل إلى تهيئة الظروف المناسبة للحظوة بها، ولأن سكان البوادي والصحارى ليسوا بالأمر المنتشر بكثرة، فقد تمر أشهر دون أن يلتقي أبناء القبيلة أو القرية بوافد من خارجها، وعندما يحضر فإن حدثًا مهمًا قد حصل، يغير في مناخ الحياة اليومية المملة والرتيبة، لذا يحاول الأعرابي اتباع طقوس لاستبقاء الوافد “الضيف” أطول فترة ممكنة لديه لإرضاء هذه الحاجة، ولما شاعت هذه الطرق والطقوس صارت تسمى بـ”التقاليد والعادات”.
والتقاليد راسخة في المجتمع، وتتناول الحياة والأدوار والسلوك الاجتماعي، وتحتاج إلى زمن حتى تتبلور أو تتغير، كتقاليد الأفراح والأتراح والزيجة والمباركة، والعادات تتناول السلوك الفردي، كعادة أفراد أسرة في تناول الطعام، وهي أقل ثباتًا ورسوخًا، وقد تتغير في يوم وليلة، كأن يغيّر شخصًا عادته من تناول الطعام بيده إلى تناولها بالملعقة بعد أن تعرف إليها.
ويحاول علم النفس الاجتماعي دراسة قوانين تشكّل التقاليد الاجتماعية خصوصًا من خلال التجارب، وكثيرة هي التجارب النفس- اجتماعية التي تمت في هذا السياق، كتجربة سجن “ستانفورد” وتجربة “ملغرام”، التي اهتمت بتفسير سلوك “الطاعة”، وبينت أن غياب الرقابة والمحاسبة قد يدفع التجمعات إلى العنف المفرط خصوصًا عند عدم تساوي القوى. ولكن التجارب الاجتماعية التي استُخدمت على البشر كانت دائمًا محط نقد أخلاقي، لذا استُعيض عنها بالتجارب التي طُبقت على الحيوانات في ظروف تراعي قدر الإمكان أن تكون غير مؤذية، والتي تشتهر بها مدارس علم النفس المقارن.
ومن بينها تجربة شهيرة على خمسة قردة، بدأت بوضعها ضمن قفص واحد وفي وسطه سلم، وعلى أعلى السلم عنقود من الموز، وكلما همّ قرد من القرود الخمسة بالصعود إلى رأس السلم، رش المشرفون المياه الباردة على القرود الأربعة الباقية، وبعد مدة صارت القردة تُنزل تلقائيًا كل قرد يحاول الصعود لجلب الموز وتضربه، لأنها صارت تعرف أنها سَتُرش بالمياه الباردة، وبعد مدة تم استبدال قرد من هذه القردة بواحد جديد لا علم له بما حصل، فلما أراد أن يقطف الموز بادره البقية بالسحب والضرب، وبعدها اعتاد على الأمر فصار يشارك البقية بضرب من يحاول الصعود، ثم تم استبدال قرد آخر بجديد، وتكررت القصة معه، واستبدل الجميع، وبقيت القردة، التي لم تشهد المياه الباردة مطلقًا، تمارس ردود فعل القردة السابقة وتقلدها دون أن تعرف السبب.
وفي تجربة أخرى على مجموعة من القردة أيضًا، جرى تعليم عدد من القردة المبادلات النقدية، وأنها يمكن أن تستبدل النقود بالموز، ووُضع في بيئة الاختبار دكانان لشراء الموز، واحد عليه لافتة لسيدة ترتدي فستانًا زهريًا وتشير بيد إلى قطعة نقدية، وباليد الثانية إلى حبتي موز! وآخر عليه لافتة لسيدة بفستان أزرق، وتشير بيد إلى قطعة نقدية وباليد الثانية إلى حبة موز واحدة! صارت القرود تبادل النقود مع الدكانين، لكنها اكتشفت أن الدكان الزهري لا يلتزم بمنحها حبتي الموز في كل مرة تبادل النقود بها، ونصف عدد المرات كانت تُمنح حبة موز واحدة بدل اثنتين، بالمقابل فإن الدكان الأزرق كان يعطيها حبتي موز دائمًا، حتى لو كانت لوحة الدعاية فوقها تشير إلى حبة واحدة. بعدها تم استقدام السيدتين اللتين في الدعاية وبنفس الثوبين، فتوجه كل القرود إلى السيدة التي ترتدي اللون الأزرق، ولم يأتِ أي قرد للسيدة التي ترتدي اللون الزهري، ثم وضعت ألعاب باللون الزهري وألعاب باللون الأزرق، فتبين أن القرود لا تقترب بشكل لطيف من الألعاب ذات اللون الزهري، وبالمقابل فإنها تلعب مع الألعاب الزرقاء بشكل طبيعي، ما دل على أنه بات للون قيمة! واللافت أن القردة الجديدة لم تعايش التجربة السابقة، فبعد أن شاهدت تصرف مجتمع القردة الحالي، صارت تقلده دون أن تعرف السبب، بل بالغت حتى بردود الفعل العنيفة التي صدرت من الأهل تجاه الألعاب الزهرية!
تشير مثل هذه التجارب إلى الطرق التي تتشكل بها تقاليدنا، والتي قد نكون انفصلنا عن ظروف تشكيلها، وسبب بقائها، ومع ذلك فإننا كبشر مفطورون على الميل للراحة، فالتقاليد تُشعر المجتمع بالاستقرار، فلا يفكر في أبعادها طالما أنها تسهم في توازنه، لكن التقاليد والأعراف والعادات قد تصبح في مرحلة ما، وهذا حتمي، عبئًا على المجتمع، فحتى لو كانت ذات وظيفة سابقًا، فإنها تنتهي بانتهاء وظيفتها حاليًا، لكن مجتمعنا، كما يقول هشام شرابي، مجتمع يفهم أن كلام الناس أهم من العيب، فيخضع للسلطة الشفوية والتقول، أكثر من الاقتناع الفردي بأن هذا الأمر أو ذاك هو في جوهره عيب، وكأن المجتمع يقول لأفراده افعل ما تشاء ولا تدع أحدًا يراك، لذا يتخوف المجتمع من الانتفاض على هذه التقاليد البالية خشية من كلام الناس، فعلى سبيل المثال، كلنا يعرف أن الأعراس مكلفة وفيها من البهرج والبذخ ما يكسر ظهر العروسين، لكننا خوفًا مما يقوله الناس نلتزم على مضض بالتقليد الثقيل علينا.
المجتمع يميل دائمًا إلى الاستقرار، وحتى في صراعه يصارع لأجل الاستقرار، وهو يفرز تقاليده بصورة تلقائية إن تُرك الأمر له دون تدخل، لكن ما نشهده اليوم مثلًا، من تدخل باسم الأفكار الجاهزة اليمينية واليسارية، المحافظة والمتحررة، يعوق تطور المجتمع، فعلى سبيل المثال، ظهرت في التجارب الاجتماعية الحديثة على وسائل التواصل الاجتماعي تجربة لفتاة تتحرش بشاب، وتم رصد ردود فعل المجتمع الذي “استغباه”! وربما أخذ الأمر بفكاهة، لكن عندما تم قلب الأدوار، انتفض الجميع لحماية الفتاة! وأيضًا عندما تهجم الشاب على الفتاة لفظيًا علنًا، قام الجميع للدفاع عنها، بينما عندما تهجمت هي عليه، نظر الجميع إليه نظرة استهزاء، لأنه غير قادر على ضبط الموقف! هذه التجربة تكشف التمييز والتحيز المسبق تجاه المرأة في المجتمع بما صار يُعرف بالنسوية، وتم حذف هذه التجربة وسلسلة من التجارب المشابهة لأنها تناقش بالدليل انحراف المجتمع نتيجة التدخل بتقاليده ومساره التطوري، وهو ما يمهد لاضطرابات اجتماعية مستقبلًا ستكون لها نتائج كارثية، وهذا ما ترفضه تلك الجهات التي تتدخل في ثقافة المجتمعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي.