علي عيد
هل هناك ما يسمى صحافة سلام (Peace journalism)، هذا سؤال تقني ومهني في نفس الوقت، والإجابة عنه تتطلب قدرًا من التقييم السياسي، وهذا النوع من الإعلام دونه مصاعب ومسؤوليات.
صحافة السلام، مصطلح أطلقه عالم الاجتماع النرويجي يوهان غالتونغ، وهي مجموعة من الممارسات يمكن أن يتّبعها الصحفيون لتجنب التحيز القيمي تجاه العنف عند تغطية الحرب والصراع، ويمكن اختصار مفهومها على أنها صحافة حل أو مراعاة أو التغطية البنّاءة للنزاعات.
طرح غالتونغ مرتبط بتحليله للنزاعات من مختلف الجوانب، ومفهوم “مثلث غالتونغ” حدد ثلاثة أبعاد لفهم وتحليل النزاعات، وهي التناقض (Contradiction) والمواقف (Attitudes) والسلوك (Behavior)، وتفسر حدود المثلث طبيعة الصراع وأسبابه، وتقاطع المصالح، والأهداف بين المتنازعين، وكذلك تصورات كل طرف عن الآخر، والسلوك العدواني والتهديد الذي تتبعه الأطراف.
جرى اختبار “مثلث غالتونغ” في نزاعات دولية مختلفة، وعلى الرغم من أنه يميل في الإطار النظري لتحليل النزاعات الدولية، فإن تطبيقه ممكن في حالات النزاع الداخلية، مثل السودان وليبيا واليمن وسوريا، وهناك أبحاث في اختبار النظرية على تلك النزاعات.
المختلف في النزاعات الداخلية العربية الممتدة منذ 2010، أنها ذات طابع مختلط، تتضارب فيه المصالح الداخلية مع الخارجية، وتتداخل فيه ثلاثة مستويات، المحلي، والإقليمي، والدولي.
تعتبر الصحافة عاملًا مهمًا وأساسيًا يسهم في إزكاء الصراعات أو خفض مستواها وحلها، ولهذا السبب تتداخل خطط السلام بين ما هو سياسي ثقافي وما هو عسكري استراتيجي، لكن دورها في صناعة السلام لا يلغي مهمتها الأساسية، ومن المحاذير أن يتم استغلال تطويع الصحافة لإخفاء فساد أو جرائم كبرى فقط لأجل حلّ النزاع، لأن أولى بدايات الحل بعد فهم المشكلة تتعلق بضمان العدالة، ومجرد أن يُستخدم الإعلام للمساعدة في الإفلات من العقاب، يعني أنه جزء من منظومة تمييع العدالة.
وتعتمد حلول السلام، وفق غالتونغ، على فهم عناصر التناقض والتحول من العنف السلبي، وهو العنف المباشر بالسلاح والحرب، إلى العنف الإيجابي، وهو التغلب على البندقية لمصلحة الانتقال إلى مرحلة نقاش أبعاده البنيوية والثقافية.
في تجربة الصراع داخل سوريا، تتداخل عوامل متعددة من الاختلافات، بينها الثقافي الديني الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، وحتى النفسي (السيكولوجي)، إذ جرى الحفر باتجاه الأسفل من قبل السلطة، كما لعبت التيارات الدينية وحتى القومية دورًا في تعزيز التباعد.
فهم ما سبق من اختلافات يمكّن من فهم ما يراد تحليله قبل الشروع بتفكيكه، ويتدرج حل النزاع، والانتقال من التناقض نحو المشتركات، ضمن مراحل الحل العملية الثلاث المتمثلة في بناء السلام (Peace building) وصنع السلام (Peace making) وحفظ السلام (Peace keeping)، وملخص هذه المراحل هو البدء ثم المباشرة العملية ثم حفظ النتائج.
أين يأتي دور صحافة السلام في هذه المراحل، هل هو سابق أم لاحق أم موازٍ، ومتى يتم التدخل لتحقيق السلام في الخطاب الإعلامي، ولأي مدى يمكن أن يكون فاعلًا ومشاركًا في العملية.
في الإطار الأخلاقي، لا يمكن رهن صحافة السلام بتوقيت الأزمة، بمعنى أن يسمح بممارسة صحافة الحرب طالما أن الحرب غير موجودة، فعند هذه النقطة يمكن التنبؤ بكون الصحافة واحدة من أدوات الحرب أو العوامل السابقة المؤججة والدافعة لوقوعها، ولعل هذا ما تفسره الحكمة العربية التي تقول “أول الحرب الكلام”، والصحافة هي الكلام بصرف النظر عما ما يستند إليه، ومن هنا يجب التأكيد على أن صحافة السلام يجب أن تبقى حاضرة وراسخة في أدبيات العمل الإعلامي.
بالعودة إلى تجربة الصحافة السورية خلال العقود الستة الماضية، نجدها لا تتمتع بمستوى أدنى من الاستقلالية، وهي بالنتيجة صحافة تستقبل رسالتها من الأعلى وليس العكس، وتقول ما تريد مؤسسة الحكم منها أن تقوله، وفي العقد الأخير، وهو عقد الصراع، لم تنشأ صحافة مختلفة، فالنزاع عزز خطاب الكراهية، وما نشأ من إعلام مستقل ليس قادرًا على ردم الانقسام المجتمعي، ولا يملك أدوات الاستمرار، وليست هناك سوق تموّله، بمعنى أن ثقافة إعلام يموّله الجمهور، صاحب المصلحة من صحافة أخلاقية مسؤولة، ليست موجودة.
في مثل هذه الأوضاع، ستخضع وسائل الإعلام للموقف السياسي للأطراف المتنازعة، فصحافة “الدولة” هي لسان السلطة، والصحافة الخارجية الممولة من حكومات ستتحرك وفق متغيرات العلاقة بين تلك الحكومة والنظام في سوريا، فيما الصحافة المستقلة الممولة من منح صناديق ومؤسسات دولية تدافع عن مفهوم الحرية ستبقى في مكان منعزل، لأن أحدًا من الطرفين المتناقضين لم يطور خطابه، وليس قادرًا على هضم دور تلك الصحافة، فهي تخوض حربًا مع المتصارعين وأدواتهم لتحفيزهم على العقلنة، ما يستهلك من جهودها في تقديم الحقيقة، وهذا دور يرضي الصناديق والمانحين ولا يكفي لإقناع الجمهور.
خطوات انخراط الصحافة في تفكيك الحرب، تبدأ بإدخالها في تحليل الصراع منذ البداية لفهم دورها التاريخي، ثم تشميلها في عناصر صناعة السلام، بل واعتبارها جزءًا مهمًا في هذه العملية، وربما يكون تفكيك إعلام الدولة خطوة متقدمة على تفكيك البنية الأمنية العنيفة وممهدة لها.
جرى إبعاد الصحافة في القضية السورية، خصوصًا بأعمال المفاوضات الجارية في “جنيف”، والسبب، بحسب ما سمعته شخصيًا من مكتب المبعوث الدولي للأمم المتحدة إلى سوريا، هو الخوف من الصحفيين وتسريباتهم، لكن بالمقابل، لم يقم وسيط السلام بجمع كوادر صحفية من طرفي النزاع لمناقشة فكرة مدونة سلوك، أو تبني خطاب سلام.
بناء على ما سبق، يمكن إدخال الإعلام في سوريا بمقدمة مفاوضات السلام بشكل صريح، كمدخل لتفكيك خطاب الحرب، وترتيب ورشات تأهيل للكوادر الإعلامية، وصياغة مدونة معلَنة يوقع عليها المتنازعون، ولا تلزم هذه الوثيقة الصحفيين بعدم تناول الحقيقة، بل بتجنب مفردات الصراع، وهذا جزء من الاشتباك بين مهمة الصحافة الرقابية وقيمها الأخلاقية.