هل يحاكَم صحفيون سوريون كما جرى في رواندا
علي عيد
يتنادى الحقوقيون بمحاسبة مجرمي الحرب الذين يتسببون بسقوط الضحايا، ويتكرر هذا عبر التاريخ المعاصر من ألمانيا النازية إلى تشيلي إلى البوسنة والهرسك ودول إفريقية، وصولًا إلى ما يجري اليوم من حشد لمحاكمة المسؤولين عن مجازر في سوريا، وهو ما تعطّله الولاية القضائية، وليس هذا موضوعنا الأساسي، لكنه مدخل ذو صلة لمناقشة دور الإعلام في تلك الجرائم.
تاريخيًا، بقيت الصحافة مملوكة لقطاعين أساسيين، هما قطاع السلطة والأحزاب وقطاع رجال المال، وكان التنافس يدور حول مسألتين اثنتين، الأول الربح وعائدات البيع، والثاني الإعلان ونشر الدعاية والترويج.
بين هذين المالكين والهدفين، نشأت صحافة مستقلة نسبيًا، لأشخاص أو جماعات منفصلة، أو بدعم من ديمقراطيات في بعض الدول للحفاظ على رسالة متوازنة داخليًا.
شاركت الصحافة في نزاعات السلطة والحروب، بشكل مباشر ومفضوح كما حصل في رواندا، منذ ستينيات القرن الماضي، إذ أسهمت الإذاعة الرواندية “آر تي إل إم” (RTLM) أو “الألف تلة” في مذابح ذهب ضحيتها مئات الآلاف من البشر.
انحرفت الإذاعة التي أُسست عام 1964، مع وصول “الهوتو” للحكم، وباتت منبرًا لخطاب الكراهية والتحريض على القتل، وشاركتها الدور مجلة “Kangura”، وهما مملوكتان لرجل الأعمال الرواندي فيليسيان كابوغا، ولعبت نحو 20 صحيفة أخرى دورًا مماثلًا.
تورطت “الألف تلة” في مذبحة الـ”100 يوم” عام 1994، وبتوجيه وتمويل ودعم من كابوغا، إذ اضطلعت بمهمة شيطنة “التوتسي”، وبث محتوى إعلامي يحرض على إبادتهم، ونشرت قوائم أشخاص وعناوينهم لقتلهم بزعم تورطهم في دعم “الجبهة الوطنية” المعارضة.
وصف الصحفي حسن نكزي، صاحب وصايا “الهوتو” العشر، التوتسي بـ”الصراصير”، ودعا إلى حمل السكاكين لقتلهم.
جرى تضليل “التوتسي” بالترويج عبر وسائل الإعلام تلك بأنهم محميون إن دخلوا الكنائس، فجرى اصطيادهم وذبحهم، إذ تمت تصفية خمسة آلاف من “التوتسي” داخل كنيسة واحدة.
يُتهم كابوغا بأنه أسهم عام 1993 في شراء كميات كبيرة من السواطير التي وُزعت على الميليشيات لاستخدامها في المذابح عام 1994.
مثل رواندا، شهدت المنطقة العربية، وسوريا على وجه الخصوص، تورط الإعلام في الدعوة إلى القتل، وجرت شيطنة مماثلة للآخر كما حصل سابقًا في رواندا، وهناك رسائل عالقة في الذهن بثها الإعلام الرسمي والموالي له، تهاجم من ناهضوا الحكم، ووصل الأمر إلى استخدام رئيس الدولة عبارات تفتح الباب لاعتبار معارضيه خونة وإرهابيين.
وخرجت الشاشات الرسمية بتغطيات ظهر فيها إعلاميون وهم يستنطقون مدنيين جرحى، كما حصل بمذبحة داريا في 25 من آب عام 2012، التي قُتل فيها المئات ذبحًا أو بالرصاص، حيث ظهرت مذيعة قناة “الدنيا” من مكان الحدث مرتدية واقي الرصاص وهي تحاور أطفالًا من ذوي الضحايا، وامرأة مصابة، وتتجول مع الكاميرا على صور جثث القتلى في المجزرة.
الصور والتعليقات الصادمة، عززت نمطًا من التشفي وعدم احترام كرامة الضحايا، وأسهمت في نشر الذعر والخوف لدى الملايين من السوريين.
منذ 2011 وطوال سنوات، استُخدم الإعلام كأداة في الحرب، ولم يُفتح حتى اليوم ملف تورط الإعلام في الصراع.
سنّت الجهات التشريعية في مختلف أنحاء العالم قوانين تمنع جرائم النشر، ومنها جرائم التحريض على العنف والكراهية، لكن تلك القوانين بقيت دون المأمول في منع ومحاكمة تورط الدولة نفسها، أو السلطة الحاكمة مدنية وعسكرية، في مواجهة الشعب وتضليله، أو تبرير عمليات القتل والتصفية الحاصلة خارج إطار القانون.
قصور القوانين رافقته نظريات حول المسؤولية الجنائية أو الأخلاقية عن جرائم النشر، ما يشير إلى الحاجة إلى التفكير في الفصل بين حرية التعبير كحق مصون في الدساتير، وإباحة استخدام الإعلام في الصراعات، ومن الجهة التي ستتولى حماية هذا القطاع من استخدامه لترويج نظريات الدولة العنيفة.
في حالة رواندا، تم تحويل مجرمي الحرب إلى محكمة “لاهاي”، وبينهم فيليسيان كوبوغا الذي أوقف في أيار 2020 بإحدى ضواحي باريس بعد فراره من العدالة لمدة 25 عامًا.
بعد أشهر من بدئها، عُلّقت، في آذار الماضي، محاكمة كوبوغا، لتقييم حالته الصحية، إذ يدفع محاموه بإصابته بالعجز والخرف، وسواء تم تجريمه أو منع محاكمته أو موته، فقد جُلب إلى محكمة الأمم المتحدة الخاصة برواندا، والتي أُسست عام 1994.
حسن نكزي، صاحب وصايا “الهوتو” العشر، التي عمّقت الشرخ في رواندا بين “الهوتو” و”التوتسي”، ولعبت دورًا في الترويج لإبادة نحو 800 ألف مدني، وهو من خرج على هواء إذاعة “الألف تلة” وهو يغني، “لو أبدنا كل الصراصير فلن يحكمنا أحد.. سنكون المنتصرين”.
عام 2003، أدانت محكمة رواندا الصحفي حسن نكزي، الذي استخدم الإعلام في التحريض على حمل السكاكين، وعوقب بالسجن المؤبد 35 عامًا.
لن ينسى التاريخ وصف الناس بـ”الصراصير” في رواندا، وكذلك وصفهم بـ”الجراثيم” في سوريا.
نكزي وكوبوغا، اثنان من 86 شخصًا أدانت المحكمة قسمًا منهم حتى الآن، وهو جزء يسير من الانتصاف للضحايا، ونموذج يمكن تطويره في حالات مستقبلية، ودرس مستفاد حول جريمة استغلال الإعلام وتورط الصحفيين في جرائم الحرب والإبادة.. وللحديث بقية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :