إبراهيم العلوش
مع تصريحات الرئيس ماكرون عن الصين والتحرر من التبعية الأمريكية، تدخل الحكومة الفرنسية في أزمة جديدة، تضاف إلى أزمة الاحتجاجات على قانون التقاعد التي تسيطر على الشارع الفرنسي، وتشلّ عمل الحكومة.
تصريحات الرئيس ماكرون العائد من زيارة إلى الصين الأسبوع الماضي، أثارت ضجة دبلوماسية وسياسية تتسم بردود الفعل الغاضبة، إلى حد اتهامه بالجنون من قبل الصحافة الأمريكية والألمانية، وقال الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، إن ماكرون ينافق للصين ويتخلى عن الغرب الموحد، وكتبت الصحف عن محاباته لبوتين قبل الحرب، وجلوسه معه على الطاولة البيضاء الكبيرة لمدة ست ساعات، انتهت بإعلان روسيا الحرب على أوكرانيا بعد عدة أيام من الزيارة.
وللمصادفة، فإن محادثات ماكرون مع الرئيس الصيني كانت حول طاولة شديدة الاتساع، كانت تضمه مع رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بالإضافة إلى أن محاصرة الصين لتايوان تشتد يومًا بعد يوم.
استعاد الرئيس الفرنسي في تصريحاته مواقف الرئيس ديغول، الذي كان يصر دائمًا على الانعتاق من الهيمنة الأمريكية واستقلال فرنسا بقراراتها، إلى حد انسحابه سابقًا من حلف “الناتو”.
لكن تصريحاته وهو عائد من الصين، والتي ربما كان بحاجة إليها لدعم مكانته الداخلية، كانت ذات أثر ثقيل على الأمريكيين خاصة، وعلى الأوربيين أيضًا، والصحافة الأوروبية اتهمت فرنسا بالتهاون في الدفاع عن أوروبا، وعدم إسهامها الجدي في دعم المجهود الحربي بأوكرانيا إلا بالكلام وبعض المساعدات القليلة التي لا تقاس بالمساعدات الأمريكية السخية.
لكن فرنسا كانت مستاءة من التواطؤ الأمريكي والبريطاني، الذي سحب عقد تصنيع الغواصات الأسترالية في فرنسا، الذي كان عقدًا كبيرًا يصل إلى 55 مليار يورو، ومستاءة أيضًا من جارتها ألمانيا التي أعلنت عن تجديد جيشها وشراء معدات حربية من الولايات المتحدة الأمريكية، متجاهلة المصانع الفرنسية المجاورة لها والمتحالفة معها، بينما ذهب الرئيس ومعه 54 رئيس شركة فرنسية لاحتلال مواقع متقدمة في السوق الصينية بالحصول على العقود المجزية، بالإضافة إلى عقد لبناء طائرات “إيرباص” الأوروبية في الصين بتكلفة 30 مليار يورو.
الغضب الأوروبي لا يزال مستمرًا، وإن كانت ألمانيا قد خففت من هجومها على السياسة الفرنسية لاحقًا بتصريحات وزيرة خارجيتها من الصين بالتبني غير المباشر لتصريحات الرئيس ماكرون، بينما ظلت دول أوروبا الشرقية أكثر غضبًا لخوفها من الحرب التي قد تعيد هيمنة روسيا على بعض دولهم، التي كانت منضوية في حلف “وارسو” السوفييتي الذي تزعمته روسيا.
على الطرف الآخر، وفي اليوم الـ12 للإضراب العام بفرنسا، تجد الناس في بعض المدن يتنقلون مشيًا على الأقدام محاولين الوصول إلى مواعيدهم أو الرجوع إلى بيوتهم، التي يؤخرها انقطاع المواصلات أو تباعد تدفقها. ولا يزال الفرنسيون يعتبرون الرئيس ماكرون متسلطًا، ويتجاهل إرادة الناس بإصراره على إقرار قانون التقاعد الجديد، ومن خارج مجلس النواب، في خطوة تجعل من الديمقراطية شأنًا حكوميًا أكثر منها شأنًا شعبيًا.
وتهدد أزمة قانون التقاعد بشلّ عمل الحكومات الفرنسية حتى نهاية ولاية ماكرون الأخيرة في عام 2027، ولا سيما أن الأغلبية البرلمانية، التي كان قد امتلكها في ولايته الأولى، تلاشت، وصارت قرارات الحكومة في مهب الانشقاقات، والتناقضات بين الأحزاب التي تخشى من الغضب الشعبي الذي صنّف ماكرون كمتسلط عنيد.
والغضب الشعبي في فرنسا له أسباب كثيرة بالإضافة إلى قانون التقاعد، فالتضخم يهدد الفقراء، ويزيد عليهم مشقة الحياة بالمقارنة بالأثرياء، الذين يدفعون القليل من الضرائب، ويكسبون الثروات الطائلة مستغلين حتى الأزمات العامة مثل “كورونا”، وأزمة الحرب الروسية، فشركة البترول “توتال” مثلًا، أثرت من ارتفاع الأسعار، وصارت متحكمة بحاجة الحكومة للبترول والغاز لتعويض البترول والغاز الروسي، الذي كان يتدفق على أوروبا قبل أن يعلن بوتين حربه لاستعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي الذي كانت حدوده تقع في برلين الشرقية في قلب أوروبا.
المحتجون يهددون بشلّ البلاد، والتصريحات الخارجية تصف سياسة فرنسا بالجنون، ووضع الاقتصاد المتراجع بالنسبة للاقتصاد الألماني بالإضافة إلى ملفات التعليم، و”الإسلاموفوبيا”، وعنف الشرطة تجاه المحتجين، وغيرها من الملفات التي تجعل وضع الحكومة أمام أزمتين كبيرتين مع المزيد من الأزمات الداخلية، والتي تغيّب الدور الفرنسي في السياسة العامة والسياسة الدولية.
ولعل غياب فرنسا عن التأثير في الملف السوري وفي الملف اللبناني من أبرز التجليات التي تتضح لنا نحن أبناء المنطقة، ففرنسا لم تعد الأم الحنون للبنان، ولم تعد تهتم بمبادئ الديمقراطية أمام موجة إعادة تأهيل بشار الأسد التي تهدد مستقبل المنطقة، وتكافئ المجرمين على إجرامهم، وعلى تهجيرهم للسوريين.
فهل صار “الفيتو” الفرنسي موضوعًا على الرف، وهل غاب تأثير فرنسا كدولة كبيرة ومؤثّرة في مجلس الأمن لمصلحة الصين، ومن ثم روسيا، اللتين تحلمان بعالم محكوم بالمستبدين وإلى الأبد؟