يعتبر قطاف فطر الكمأة من الأنشطة الموسمية الزراعية المهمة والمنتظرة في مناطق متفرقة في سوريا، ومصدرًا للرزق للعديد من العائلات، خصوصًا تلك التي تسكن في مناطق البادية الممتدة بين الجنوب والشمال السوري بمحاذاة الحدود العراقية.
“لقمة مغمسة بالدم” تدر القليل على قاطفيها، وتعود بالنفع على تجار ومصدري السلعة التي تجاوزت حدود مناطق السيطرة المختلفة في سوريا نظرًا لأسعارها المرتفعة.
جمع فطر الكمأة نشاط محفوف بالمخاطر، أودى البحث عنه بحياة كثيرين، سواء عبر الألغام المنتشرة بكثرة أو عبر عمليات قتل واستهداف غامضة.
وترصد عنب بلدي في هذا التقرير أسعار فطر الكمأة في سوريا ورحلة تصديره إلى مناطق السيطرة المختلفة وأسعاره خارج حدود سوريا.
استهلاك محدود.. سلعة للتصدير
لا تُستهلك الكمأة بأغلبيتها في الأسواق المحلية في سوريا، ويُطرح بعضها في تلك الأسواق، وتختلف أسعارها من منطقة لأخرى، ويعاد تصدير معظمها إلى دول الخليج العربي.
ويعد هذا الموسم من أكثر المواسم وفرة في الكمأة، وبأحجام قياسية سجلها وزن الفطر، وصل وزن بعض الحبّات منها إلى خمسة كيلوجرامات.
تصنف الكمأة إلى عدة أنواع حسب الحجم واللون، كـ”الزبيدي” و”الحرقة” و”الهبري” و”الأسود”، وعلى هذا الأساس تختلف الأسعار التي تزيد كلما زاد حجم الثمرة.
ومن النادر وجود من يقطف الكمأة بهدف الاستهلاك الشخصي، وأغلب من يقطفها يكون هدفه بيعها نظرًا إلى ارتفاع أسعارها.
صحيفة “تشرين” الحكومية، قالت إن كميات الكمأة المصدرة فاقت الـ 600 طن خلال عشرة أيام، منذ 25 من آذار الماضي، حتى 6 من نيسان الحالي.
وقال عضو لجنة تجار ومصدري الخضار والفواكه محمد العقاد للصحيفة، إن الكمأة تحتل المرتبة الأولى في التصدير تليها البندورة والتفاح وبعض أنواع الفواكه والحمضيات، وتعد المملكة العربية السعودية الوجهة الأكثر استقبالًا للمنتجات المصدرة من السوق تليها الكويت وبعض دول الخليج مثل الإمارات وقطر.
وبلغت قيمة صادرات المنتجات الزراعية من دمشق 72.73 مليون دولار أمريكي، خلال الأشهر الثلاثة الأولى من 2023، أعلى نسبة منها كان فطر الكمأة، وفق تصريحات رئيس مجلس إدارة غرفة زراعة دمشق بشار الملك، لصحيفة “الثورة” الحكومية.
ونقلت صحيفة “الثورة” عن عضو لجنة سوق “الهال” بدمشق محمد العقاد قوله، في 23 من آذار الماضي، إن حركة التصدير خلال هذه الأيام، وباتجاه عدد من الدول العربية “جيدة” وخاصة الكمأة.
وأضاف العقاد أن “هناك طلبًا كبيرًا” على الكمأة، وأن 15 سيارة منها صُدّرت إلى السعودية خلال آذار، إلى جانب 17 سيارة أُرسلت إلى الكويت.
أسعار متدرجة.. التاجر مستفيد
في مدينة الحسكة، شمال شرقي سوريا، يصدّر القسم الأكبر من الكمأة إلى الأسواق في مناطق سيطرة النظام السوري، ليعاد تصدير معظمها إلى دول الخليج العربي.
ويشتري تجار محليون الكيلوجرام الواحد في الحسكة بأسعار تتراوح بين 50 ألفًا و100 ألف ليرة سورية، حسب نوع وحجم حبة الكمأة (كل دولار يعادل 7625 ليرة سورية).
وتعتبر منطقة جبل عبد العزيز وريف المنطقة الجنوبي والشرقي في محافظة الحسكة، والأماكن القريبة من الحدود العراقية، من المواقع التي ينتشر فيها نبات الكمأة.
وفي مخيم “الركبان” على الحدود السورية- الأردنية، يقطع الأهالي مسافات طويلة ضمن “منطقة 55 كيلومتر” لجمع فطر الكمأة، وتتراوح أسعار الكمأة في المخيم حسب النوع، وتبدأ من 15 إلى 20 ألف ليرة سورية، وتتراوح أسعار الأحجام المتوسطة من الفطر من 35 إلى 50 ألف ليرة سورية، وهي أنواع منخفضة الجودة.
وتباع الكميات التي يجمعها السكان في المخيم للتجار الذين بدورهم “يُهربون” الكميات الفائضة وذات النوعية الفاخرة لمناطق سيطرة النظام، وقد يصل سعر الكيلو في تلك الأسواق إلى 140 ألف ليرة سورية، وفق ناشطين إعلاميين مقيمين في المخيم، تحدثت إليهم عنب بلدي.
وتعد محافظة دير الزور المصدر الرئيسي للكمأة في سوريا، وشهدت أسواق المدينة منتصف آذار الماضي، ارتفاعًا قياسيًا في أسعار الكمأة، ووصل سعر الكيلو الواحد في اليوم الأول لطرحها أكثر من 100 ألف ليرة سورية.
ومع طرح الأنواع والأحجام المتعددة في السوق تراوحت أسعار الكيلو من 45 ألف ليرة سورية إلى 200 ألف ليرة.
ويبلغ سعر صرف الدولار الواحد مقابل الليرة السورية 7625 ليرة، الخميس 13 من نيسان، بحسب موقع “الليرة اليوم” المختص بمراقبة سعر صرف العملات.
الكمأة تتجاوز خطوط التماس
ينتشر فطر الكمأة في بعض أسواق الشمال السوري بكميات محدودة، تصل عبر طرق “تهريب البضائع” متجاوزة خطوط التماس التي تربط مناطق سيطرة المعارضة بمناطق سيطرة النظام، و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
علاء ديب صاحب محل خضروات وفواكه في اعزاز، أوضح لعنب بلدي أن سعر الكمأة يتراوح من 150 ليرة تركية للفطر الأبيض (زبيدي حجم صغير) إلى 350 ليرة للفطر ذو اللون الأسمر، (كل دولار يعادل 19.26 ليرة تركية).
وأوضح ديب أن الفطر يُجمع من ريف حماة وبادية حمص ثم يرسل إلى حلب ويدخل عبر منافذ التهريب إلى الشمال السوري، لافتًا إلى أن حركة الإقبال ضعيفة مقارنة بسلع ومنتجات أخرى.
الكمأة
فطر الكمأة ينبت في الأراضي المحمية التي لا تتعرض لعمليات الحراثة والبذار والتسميد وغيرها من العمليات الزراعة، ما يفسر وجوده في “المحميات الطبيعية” وفي بادية الرقة والحسكة ودير الزور، وتعد كثرة البرق المصاحب للأمطار مؤشرًا على “وفرة الكمأة”.
يوجد موسمين لقطاف الكمأة حسب الظروف الجوية، شتوي (من تشرين الثاني حتى شباط)، وموسم قصير آخر خلال الربيع، في محافظات مثل دير الزور، التي تعتبر المصدر الرئيس للكمأة.
وتعتبر ثمرة الكمأة غنية بالفوسفور والصوديوم والبوتاسيوم ومضادات الأكسدة، وتوصف بأنها ابنة البرق والرعد، ويفيض موسمها إن جاء المطر في أوائل الخريف، وسعرها ضعف سعر اللحوم، وتحضّر بطرائق متعددة، حسب البيئة وما تشتهر به.
ويعتمد العاملون في جمع الكمأة على قطعة معدنية أو خشبية صغيرة ينبشون بها التراب بحثًا عن الكمأة ذات اللون القريب من لون التربة.
تركيا… سعر مرتبط بالوفرة والطلب
يعبر فطر الكمأة الحدود السورية التركية ويتوفر في أسواقها، ويختلف السعر من منطقة لأخرى ويرتبط أيضًا بالنوع والحجم، ولا يوجد سعر ثابت، فهو مرتبط بتوفر السلعة والطلب عليها، ويمكن أن تحدد أسعاره بأربع تصنيفات تبعًا للحجم والنوع.
صاحب محل خضروات في منطقة الفاتح باسطنبول أوضح لعنب بلدي أن الكمأة المتوفرة في السوق التركية نوعان، “الزبيدي” (الأبيض) و”الحرق” (الأسود)، وكل نوع منهما يتم فرزه إلى ثلاثة أحجام، حجم صغير مثل بيضة الدجاج ومتوسط بحجم البرتقالة وكبير بحجم ثمرة الرمان.
ويباع كل حجم بسعر مختلف، وتبدأ الأسعار من 300 ليرة تركية إلى 550 ليرة، ويوجد بعض الحبّات تزن نصف كيلو تقريبًا، وفق البائع الذي لفت إلى أن السعر غير ثابت يتغير بشكل يومي بحسب ما يدخل كميات من سوريا.
ويبلغ سعر صرف الدولار الواحد مقابل الليرة التركية 19.26 ليرة، بحسب موقع “Döviz” المتخصص بأسعار صرف العملات.
الإمارات.. سوق رائج للكمأة
يصل فطر الكمأة إلى معظم دول الخليج، وأبرزها الإمارات، ويرسله التجار عبر مطار “دمشق” الدولي، إلى مطار “الشارقة” لينتشر في أسواق الإمارات السبع، ويضاف إلى عاملي النوع والحجم عامل أجور النقل ليختلف سعره من إمارة إلى أخرى.
ويبلغ سعر الكيلوجرام من النوع “الأسود” (الأسمر) 100 درهم إماراتي، ويبلغ السعر من نوع “الزبيدي” 125 درهمًا (كل دولار يعادل 3.6 درهم).
موسم يهدد الحياة
لم يعد الخروج لجمع الكمأة رحلة “ممتعة” كما في الماضي، بعد أن فقد العديد من الأشخاص حياتهم في أثناء رحلة البحث عنها جراء العديد من الأسباب، كالهجمات التي يقف خلفها مجهولون، أو انفجار الألغام الأرضية والقنابل من مخلّفات الحرب.
وتتضمن أخطار البحث عن الكمأة ما يتعلق بالألغام المنتشرة في المنطقة أو التعرض للسلب خلال التوغل في البادية بحثًا عنها، لذا يفضّل البحث عنها ضمن جماعات، وهو ما يزيد من احتمالية إصابة أحدهم بلغم مزروع.
وألحقت عملية جمع الكمأة خسائر بالأرواح عبر السنوات الماضية، أحدث هذه الحالات، مقتل عشرة عمال بانفجار لغم أرضي، بسيارة كانت تقلهم لجمع الكمأة في جبل البشري جنوب غربي دير الزور، في 9 من نيسان الحالي.
سبق الحادثة بيوم، مقتل ستة مدنيين إثر انفجار لغم خلال ذهابهم لجمع الكمأة في بادية السخنة بريف حمص الشرقي، وفق ما ذكرته “الوكالة السورية الرسمية للأنباء” (سانا).
وقُتل في شباط الماضي، ما يقارب 75 شخصًا من جامعي الكمأة في البادية السورية، في ظروف غامضة، واتُهم بتنفيذ الهجوم تنظيم “الدولة الإسلامية” وقوات إيرانية نشطة في المنطقة.