عنب بلدي – خالد الجرعتلي
ينتظر المراقبون باهتمام ما ستفضي إليه مساعٍ علنية وأخرى خلف الأبواب، بشأن ما تسمى “مبادرة الأردن” أو “المبادرة العربية”، وشروطها، خصوصًا مع ازدياد عدد المدرَجين على جداول التقارب مع النظام السوري، بدءًا من الإمارات وانتهاء بالسعودية، مرورًا بمصر.
مطلع العام الحالي، انضمت دول عربية أخرى إلى ركب المطبّعين، من بينها السعودية التي سبق ورفع سفيرها في الأمم المتحدة شعار “لا تصدقوهم” قاصدًا النظام السوري.
التسريبات والأخبار الواردة عن مصادر ليست مكشوفة في أغلبيتها، تشير إلى ما يشبه سياسة “الباب الموارب”، إذ لا يمكن الجزم بظروف المصالحة أو التقارب بين دول عربية والنظام السوري، وخصوصًا عودة سوريا إلى الجامعة العربية ومشاركتها في القمة المزمع عقدها منتصف أيار المقبل، دون إعلان رسمي من السعودية، الدولة المضيفة للقمة، وهو ما يجعل من تحركات الرياض مؤشرًا لما يدور في الكواليس.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع باحثين ومختصين موجة التقارب العربي الأحدث مع النظام السوري، وأثرها المحتمل في وقف الصراع المستمر لأكثر من 12 عامًا بدعم ذات الأطراف الساعية للتقارب اليوم.
حقيقة المبادرة وخلفياتها
في أحدث بيان أصدرته وزارة الخارجية القطرية حول موقفها من الملف السوري، في 23 من آذار الماضي، ورد مصطلح “المبادرة الأردنية” في إشارة إلى دور عربي ينخرط مع النظام السوري في حوار سياسي بغرض الوصول إلى حل لـ”الأزمة السورية”.
ويعود إطلاق هذا المصطلح إلى عام 2016، عندما حاول الأردن طرح حلول لتسوية الملف السوري، ونجح في الحصول على استثناء أمريكي من منع التبادل التجاري مع سوريا، ليعيد، في تشرين الأول 2018، فتح معبر “نصيب” بين البلدين، إلا أن مبادرته توقفت عند هذا الحد، ولم تنعكس على واقع المنطقة.
وقال الخبير الأردني في الأمن الاستراتيجي عمر الرداد لعنب بلدي، إن “المبادرة الأردنية” كما وصفها وزير الخارجية الأردني، لم تكن جديدة، إذ طرحها الملك الأردني مع الرئيس الأمريكي قبل عامين بسبب ازدياد تهريب المخدرات والتهديدات الأمنية التي واجهها الأردن من جهة، وتزامنت مع رغبة الأردن بالانفتاح الاقتصادي ومشروع تمرير الغاز والكهرباء إلى لبنان عبر الأردن من جهة أخرى.
ولم ترَ المبادرة الأردنية حينها النور، وفشلت لأسباب مختلفة، وفق الرداد.
ومع التقارب السعودي والزيارة المصرية الرسمية إلى سوريا في شباط الماضي، بات من الضروري الإجابة عما إذا كانت المبادرة هي نفسها التي أُطلقت عام 2016، أو أن ما يجري الحديث عنه هو مبادرة جديدة.
الباحث في مركز “الحوار السوري” محمد سالم، قال لعنب بلدي، إنه وبحسب معلومات وتقارير اطلع عليها، لا توجد مبادرة عربية موحدة ومتبلورة، وإنما هي “خطوط عريضة غامضة تتمحور حول التقارب مع النظام”.
وذكر الباحث أن التقارب السعودي- السوري مرتبط بالتحرك على المستوى العربي، وأن ضعف ثقة العرب بالنظام دفعهم للتعامل معه بأسلوب “خطوة مقابل خطوة”، وهو ما لمسه دبلوماسيون غربيون اجتمعوا مع مسؤولين عرب مؤخرًا في عمّان، وفق سالم.
وبالنظر إلى التصريحات المتواترة والتسريبات عن تقارب سوري- سعودي، والزيارات المتكررة لمسؤولين عرب، بينهم وزيرا الخارجية الإماراتي والمصري إلى دمشق، ورغبة الأردن بخلق مسارات تفاوضية، لا يمكن القول إن ما يجري وصفه اليوم بـ”المبادرة الأردنية” أو “المبادرة العربية” هو وليد اللحظة، بل جاء مرتبطًا بمبادرات سابقة لم تلقَ آذانًا صاغية في دمشق.
توجه غير مكتمل الملامح
الباحث في مركز “عمران للدراسات” معن طلاع، يرى أن “المبادرة الأردنية” أو “المبادرة العربية” إن صحت تسميتها بذلك، هي انعكاس لتوجه في المنطقة وخصوصًا الدول العربية، لكنه فعليًا لم يكتمل بعد.
الملامح الأولية لهذا التوجه، بحسب طلاع، تظهر على أنه يهدف إلى إيجاد تسوية للملف السوري، دون وجود دور مركزي للولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه يتطلب عدم معارضة واشنطن، إلى جانب ضمان موافقة روسيا.
ومن أهم المتطلبات للمضي بهذا التوجه، وضع استحقاق ملف اللاجئين على الطاولة، وأيضًا مجموعة الإجراءات المطلوبة من النظام السوري، بالإضافة إلى إيجاد تعريف أوسع لمفهوم “المصالحة” فيما يتعلق بالقوات العسكرية المنتشرة على الجغرافيا السورية والمدعومة من قبل دول أخرى، بحسب طلاع.
ويرى طلاع أن هذا التوجه قد يضع النظام أمام استحقاقات لتشجيع عوامل الاستقرار، والتكيف مع نتائج الواقع الراهن.
الباحث في مؤسسة “القرن الدولية للبحوث والسياسات الدولية”، والمتخصص بالشأن السوري سام هيلر، يرى في هذا الصدد أنه ليس من الصحيح أو الضروري وجود مبادرة عربية، ورجح أن تكون التوجهات الجديدة تشكلت نتيجة لمجموعة مبادرات غير منسقة وأحادية الجانب.
وبالنظر إلى كون الأردن سوّى علاقاته بالنظام السوري وفقًا لمقاربة “خطوة بخطوة”، اختلف الأمر بالنسبة للإمارات التي سوّت علاقاتها بالنظام بشكل غير مشروط، بحسب ما قاله هيلر لعنب بلدي.
وأضاف أن “السؤال الكبير” الآن هو إلى أي مدى تختار المملكة العربية السعودية أن تمضي في تسويتها مع النظام، خصوصًا أن الرياض قادرة فعلًا على حشد دول عربية أخرى خلفها بشكل ممنهج وجماعي، وهو ما يختلف عن المبادرات السابقة، وما لا يستطيع الأردن فعله.
السعودية أحدث الواصلين
في 24 من آذار الماضي، نشرت صحيفة “عكاظ” السعودية، مراحل نقلتها عن مسؤول في وزارة الخارجية السعودية لم تسمِّه، لتطبيع علاقات الرياض مع النظام السوري.
وركّزت مراحل التطبيع على تبادل التمثيل القنصلي بين العاصمتين، وعودة العلاقات بين البلدين، مقابل تعهد دمشق بحزمة إصلاحات للوضع الداخلي والعلاقة مع المعارضة، وثلاث خطوات أخرى متعلقة بضبط النظام عمليات تهريب المخدرات من الأراضي السورية نحو الأردن.
سبق ذلك ببضعة أيام تسريبات صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عن أن الدول العربية تسعى لإخراج سوريا من عزلتها مقابل الامتثال لمجموعة طلبات.
المطالب العربية تركزت حول الحد من النفوذ الإيراني، وتطويق عمليات تهريب المخدرات نحو الأردن، إلى جانب السماح بحماية عربية للاجئين السوريين، حال عودتهم إلى البلاد، بحسب الصحيفة.
ونقلت الصحيفة عن مستشار لدى النظام السوري ومسؤولين أوروبيين وعرب لم تسمِّهم، أن الأسد لم يُظهر أي اهتمام بتقديم أي إصلاح سياسي، أو السماح بدخول قوات عربية لحماية اللاجئين.
المملكة العربية السعودية غابت منذ سنوات عن الساحة السورية، إذ لم تعد تدعم فصيلًا أو جهة عسكرية معيّنة، واقتصرت مشاركتها في الملف السوري على التصريحات السياسية، وبعض التحركات الدبلوماسية.
عودة السعودية حديثًا عقب قمة “بكين” في الصين، أظهرت بوادر لحل خلافاتها العالقة مع إيران، مقرّبة إياها من حدود التطبيع مع النظام السوري، وهو ما ظهر إلى العلن في حديث “رويترز” نقلًا عن مسؤولين لم تسمِّهم، أن وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، سيتوجه إلى دمشق خلال الأسابيع المقبلة، لتسليم الأسد دعوة رسمية لحضور القمة العربية المقرر انعقادها في 19 من أيار المقبل، بالعاصمة السعودية الرياض.
الباحث الزميل في مركز “عمران للدراسات” نادر خليل، قال لعنب بلدي، إن للسعودية عدة أهداف محتملة من محاولة الدخول على خط الملف السوري، ربما يكون أحدها تلمّس وساطة النظام السوري بين طهران والرياض بطريقة ما، بما يخص ملف “الحوثي” في اليمن الذي بات طوله أمده يؤرّق السعودية.
وعلى الأغلب، تسعى السعودية ودول أخرى كالإمارات لاستكشاف فرص أو إمكانيات الدخول على ساحة استثمار النفوذ في سوريا مقابل تمويل اقتصادي، بحسب الباحث.
وبالنظر إلى عدم وجود قطيعة بين إيران والسعودية بعد اليوم، يمكن وصف ما طرحته إيران على السعودية بأنه يسير ضمن مبدأ “أدعم حليفي في دمشق، مقابل تقليم أظافر حليفي باليمن”، في إشارة إلى تنازلات تقدمها السعودية في الملف السوري، مقابل تنازلات تقدمها إيران في الملف اليمني، بحسب خليل.
الباحث والمحلل السياسي السعودي مبارك العاتي، قال لعنب بلدي، إن خطوة السعودية الأحدث في تسوية علاقاتها مع سوريا تهدف إلى تحقيق اختراق بحالة “الجمود” في العلاقات السعودية- السورية، والعلاقات العربية- العربية.
وأضاف أن منافع كثيرة يمكن أن تتحقق إثر هذا التقارب، أهمها إيقاف الخلاف بين الرياض ودمشق، وإيجاد مخارج في عدد من القضايا العالقة، وكسر حالة الجليد بين العاصمتين.
ويرى العاتي أن من أبرز المنافع التي قد تلتفت إليها الرياض اليوم، هي إيجاد حلول للقضية الأمنية المتعلقة بتهريب المخدرات إلى المملكة، وقضايا الإرهاب العابر للحدود، إذ ستأخذها السعودية على عاتقها لإيجاد حلول لها خلال المحادثات المقبلة.
الباحث السعودي يرى جازمًا أن التقارب الحاصل بين إيران والسعودية مؤخرًا كان اتفاقًا مهمًا ومفصليًا في تاريخ علاقات المنطقة ككل، نظرًا إلى تأثير الدولتين على عدد من الأحداث والملفات في المنطقة، بدءًا من الملف السوري.
وأضاف أن التقارب السعودي- الإيراني كان ذا “تأثير إيجابي” على عدد من الملفات، من بينها سوريا.
وبحسب ما نقلته صحيفة “عكاظ” السعودية، في 26 من آذار الماضي، عن الأمين العام المساعد والمشرف على شؤون مجلس الجامعة العربية، حسام زكي، من المنتظر أن تعقد القمة العربية الـ32 بالسعودية في 19 من أيار المقبل.
سبق ذلك، مطلع آذار، حديث الأمين العام للجامعة العربية، أحمد أبو الغيط، عن عدم وجود توافق عربي على عودة سوريا إلى الجامعة.
وأشار إلى أنه لا توجد خارطة طريق، أو رؤية واضحة بشأن كيفية التعامل مع الملف السوري في إطار الجامعة العربية.
ماذا عن قطر؟
ومن أبرز الدول التي طالبت بإسقاط النظام السوري على مدار السنوات الـ12 الماضية، كانت السعودية وتركيا وقطر، وخلال النصف الثاني من عام 2022، بانت نُذُر تغير في موقف تركيا، وصولًا إلى لقاء جمع نائبي وزيري خارجية تركيا والنظام السوري بموسكو، في 4 من نيسان الحالي، ضمن اجتماعات “الرباعية” التي دعمتها ومهّدت لها موسكو.
الانعطافة التركية تبعتها أخرى سعودية، مع إعلان بدء التقارب مع النظام السوري نهاية شباط الماضي.
وحافظ الموقف القطري على ثباته منفردًا إلى جانب دول عربية ذات تأثير أقل في الملف كالمغرب والكويت، إذ رسمت الدوحة محددات وشروطًا لإحداث أي تغيير في سياستها بالملف السوري.
وجاء على لسان المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية القطرية، ماجد الأنصاري، في 23 من آذار الماضي، “لن يكون هناك أي تغير بالموقف القطري (…) ما لم توجد تطورات حقيقية داخل سوريا بشكل يرضي تطلعات الشعب السوري، أو يكون هناك إجماع عربي مبني على هذه التطورات الإيجابية في الداخل السوري”.
مصر.. خطوات هادئة
في 1 من نيسان الحالي، التقى وزير الخارجية في حكومة النظام السوري، فيصل المقداد، مع وزير الخارجية المصري، سامح شكري، في أول زيارة رسمية لمصر منذ بدء الثورة عام 2011.
وحول أسباب الزيارة قال مصدر أمني مصري لوكالة “رويترز“، إنها “تهدف إلى وضع خطوات لعودة سوريا إلى الجامعة العربية بوساطة مصرية وسعودية”.
الزيارة جاءت، بحسب الإعلام السوري الرسمي، بناء على دعوة من وزير الخارجية المصري، لإجراء مباحثات تتعلق بتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، ومناقشة آخر التطورات في المنطقة والعالم، دون ذكر تفاصيل أخرى.
سبق ذلك ببضعة أيام زيارة شكري الأولى منذ عشر سنوات إلى سوريا للقاء المقداد، لـ”إيصال رسالة تضامن”، عقب الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، إذ كانت هذه الزيارة نقطة انطلاق لبوادر علاقات عربية مع النظام، تحت مظلة الوضع الإنساني الذي خلّفه الزلزال.
الباحث السياسي والاستراتيجي بمركز “الأهرام للدراسات” كرم سعيد، قال لعنب بلدي، إن ميل الدول العربية باتجاه إعادة سوريا إلى محيطها العربي، ترتبط بالسعي العربي لتحييد ما أسماه “الضغوط الغربية” عليها.
وأضاف أن ضغوطًا كثيرة تمارسها الولايات المتحدة ودول غربية على القوى العربية فيما يتعلق بالملفات الحقوقية الداخلية، وأخرى متعلقة بتسوية “الملفات الشائكة” المتعلقة بالإقليم العربي.
ويرى سعيد أن مصر تحاول اليوم لعب دور في التسوية السورية، لاستعادة دورها السياسي في العالم العربي، ويمكن رؤية ذلك من خلال رصد التحركات المصرية لتعزيز دورها في الملف الليبي، أو بقية الصراعات العربية الأخرى.
وأشار إلى أن الزيارة الأولى التي أجراها سامح شكري إلى سوريا، مطلع شباط الماضي، جاءت تأكيدًا على أن مصر يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في الملف السوري، بدءًا من التقارب مع السعودية، وحتى في ملف التقارب السوري- التركي.
الزيارات المصرية- السورية المتبادلة فسرها سعيد على أنها رغبة من الجانبين في إعادة العلاقات ورفع فرص التقارب بينهما في الفترة المقبلة.
ويرى سعيد أن لمصر رؤية في سياق الحل السياسي في سوريا، ترتكز على مشاركة جميع الأطراف المحلية في أي حلول مقبلة، ووحدة أراضي البلاد التي اعتبرها مستهدفة من قبل مجموعة من الدول الإقليمية.
لماذا الآن؟
اليوم وبعد مرور سنوات على عمر الثورة السورية، لطالما رأت معظم الدول المهتمة بالشأن السوري، أن النظام بأذرعه العسكرية والأمنية ارتكب “جرائم حرب” بحق الشعب السوري.
تمحورت المواقف العربية، باستثناء العراق ولبنان والجزائر، حول دعم الشعب السوري ومطالبه التي نادى بها منذ عام 2011، لكن تبدل المواقف دفعت به جملة من التغييرات السياسية، أبرزها مرور 12 عامًا دون تغيير في الملف السوري.
الباحث المتخصص بالشأن السوري سام هيلر، يرى أن أبرز المعطيات التي غيّرت صيغة التعامل مع الملف السوري اليوم، هي مرور 12 عامًا على الملف الذي تحول إلى أزمة في المنطقة.
وأضاف هيلر لعنب بلدي، أن زلزال شباط كان “نقطة تحول”، واللحظة التي قررت فيها دول كانت تميل بالفعل إلى إعادة العلاقات مع دمشق للقول إن هذا يكفي، وأن الوقت المناسب للمضي قدمًا في التطبيع قد حل.
“حتى لا يُقرأ التغيّر الجديد في الملف السوري على أنه تغيّر بموقف المجتمع الدولي من النظام، نحن بحاجة لأن نكون واضحين بشأن هوية المجتمع الدولي هنا، إذ يبدو أن بعض الدول الإقليمية، مثل تركيا والسعودية، قررت مراجعة سياساتها في سوريا، لكن عددًا من الدول المهمة، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، استمرت في رفض التطبيع مع النظام”. سام هيلر باحث متخصص بالشأن السوري في مؤسسة “القرن الدولية” |
الملف السوري يعرقل مشاريع المنطقة
لا يمكن الحديث عن الملف السوري اليوم دون التطرق إلى مجموعة من الدول، والمسارات السياسية، وحتى ملفات أخرى تتبادل التأثير مع الوضع في سوريا، كالملف الاقتصادي في لبنان، وصولًا إلى الملف الأمني في الأردن، والعسكري في اليمن، وتقاسم النفوذ في العراق.
ويعتبر تداخل التأثير في هذه الدول، بسبب أن الدول المؤثرة فيها تملك نفوذًا سياسيًا وعسكريًا في كثير من الأحيان يجعل من تقاربها أو تباعدها معكوسًا في هذه الملفات.
الباحث في مركز “عمران للدراسات” معن طلاع، قال لعنب بلدي، إن الملف السوري بات يُنظر إليه على أنه “معرقل لعدة ملفات ومشاريع تنموية في المنطقة”، ويمتد هذا التأثير حتى متطلبات التنمية في الأردن مثلًا.
ومن أبرز هذه الملفات ما هو متعلق بتمديد خط الغاز نحو لبنان مرورًا بسوريا، إلى جانب الخطة الأولية لإعادة الإعمار، وهو ما دفع بالأردن لطرح مبادرة بهذا الخصوص، بحسب طلاع.
ويرى الباحث أن الاصطفافات الدولية والإقليمية التي شكّلتها الحرب الأوكرانية، جعلت من إمكانية إيجاد حل للملف السوري عن طريق “جنيف” غير ممكنة، وبالتالي فإن السيناريو المحتمل هو “التمترس الجغرافي” (الحفاظ على الوضع الراهن)، بالتالي فإن هذا الشكل سيبقى معرقلًا لملفات تهم المنطقة.
يضاف إلى ذلك عمليات تهريب المخدرات نحو الأردن على الصعيد الأمني، وتهريب الأسلحة نحو لبنان، في سياق النشاط الإيراني في سوريا، يقابله نفوذ سعودي في اليمن ضد مجموعات “الحوثي” التي تدعمها إيران.
وتتنافس أيضًا إيران والسعودية في لبنان من خلال دعمهما أطرافًا عدة، كما هي الحال في العراق.
“ترهل” الموقف الأمريكي
عقب يوم واحد من خروج أخبار التقارب السعودي مع النظام إلى العلن، علّقت وزارة الخارجية الأمريكية أن الموقف الأمريكي من التطبيع مع النظام لم يتغير.
وجاء في تصريح نقلته قناة “الحرة” عن متحدث باسم الخارجية، “لن نطبّع مع نظام الأسد، ولن نشجع الآخرين على التطبيع في غياب تقدم حقيقي ودائم نحو حل سياسي يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم “2254”.
سبقه رد أوروبي على استفسارات وجهتها عنب بلدي في مراسلة إلكترونية، على لسان المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي، لويس ميغيل بوينو، قائلًا، إن الاتحاد لن يقبل تهميش المسار السياسي، ولن يتلخص موقفه بعدم إمكانية التطبيع، قبل انخراط النظام السوري في عملية انتقال سياسي، وتنفيذ كامل لقرار مجلس الأمن رقم “2254”.
المعارض السوري، والرئيس السابق لـ”الائتلاف الوطني”، نصر الحريري، قال لعنب بلدي، إن غياب الفاعلية الأمريكية في الملف السوري خلال السنوات الماضية جعل من التلويح بالتقارب مع النظام السوري عبارة عن “رسائل توجه إلى أمريكا”.
وأضاف أن بعض الدول العربية اليوم تنظر إلى الملف السوري على أنه مشكلة في المنطقة، مع عدم وجود أي محاولة أمريكية فاعلة لإيجاد حل في الملف دفعًا للخروج بمسارات لإعادة العلاقات مع النظام.
وأضاف أن حالة التململ من التجاهل الأمريكي لقضية السوريين، لم تعد محصورة بالشعب السوري وحسب، وإنما تسربت ظلالها إلى مطابخ السياسة العربية.
الباحث السياسي معن طلاع، يرى أيضًا أن ما وصفه بـ”الترهل الأمريكي في إدارة ملفات المنطقة”، يعتبر العامل الأهم في إحداث تغييرات بمواقف دولية من النظام السوري.
وتابع أن التطورات المتعلقة بالملف النووي الإيراني، والملفات الأمنية الإسرائيلية، خلقت هامشًا تستغله الصين وروسيا.
ويعتبر التقارب السعودي- السوري من نتائج تحسّن العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران مؤخرًا، التي جرت بوساطة من الصين في العاصمة بكين، إذ سبق واجتمع سياسيون إيرانيون مع آخرين سعوديين بحضور السفير السوري في بغداد نهاية آذار الماضي.
“غياب الموقف الجدّي الأمريكي من المنطقة، دفع بعديد من الدول من بينها السعودية لطرح مسار للتقارب مع النظام السوري، كرسالة لواشنطن، تحتج من خلالها على الجمود الذي أصاب الملف”.
نصر الحريري الرئيس السابق لـ”الائتلاف السوري لقوى المعارضة” |
ماذا عن “2254”
فيما يخص القرار”2254″، الذي لا يزال يرد في تصريحات من المنابر الأوروبية والأمريكية، قال الباحث نادر الخليل، إن القرار الدولي ينص على انتقال سياسي وانتخابات برعاية أممية، ويبقى تطبيقه أمرًا واردًا إذا حصل تفاهم مسبق على أن يبقى الأسد ونظامه داخل تركيبة الحكم، وفق ما يمكن تسميته “اتفاق طائف سوري”، ولكن ليس طائفية سياسية كالحالة اللبنانية.
وأضاف خليل أن المشكلة الكبرى تبقى في أمريكا التي تتعامل مع الملف السوري وفق مبدأ “إدارة الأزمة وديمومتها”، ولا يبدو أنها تريد حتى الآن إيجاد حل لها.
الباحث يرى أن حل الأزمة السورية لا يخدم المصالح الأمريكية بشكل مباشر، فهو يعني تسوية إقليمية طرفاها إيران والخليج، وهو ما لا يخدم مصالح واشنطن التي تراهن على استمرار التأزم بالمنطقة، بهدف إبقاء جميع الأطراف تحت نفوذها غير المباشر، مع اضطرارهم لتقبل وجودها أو البقاء بحاجة إليها.
وهكذا تبدو أمريكا هي من تضع “فيتو” على تسوية في سوريا حتى الآن، بحسب خليل.
وأضاف أن السياسة ومصالح الدول لا تحمل ثوابت، فالسياسة الأمريكية غير ثابتة وقابلة للتغيير حسب المعطيات ومصالحها، وخاصة إذا أُدخلت في التفاهمات بصورة تخدم مصالحها.
فرصة نجاح “ضئيلة”
الباحث في مركز “الحوار السوري” محمد سالم، قال لعنب بلدي، إنه لا يرى فرصًا لنجاح أي مبادرة متكاملة، وإنما قد يحدث بعض تبادل المصالح بشكل محدود، مثل ملف المعتقلين السعوديين لدى النظام، وتبادل القنصليات.
وعن سبب طرح الحديث عن المبادرة، قال سالم، إن الموضوع مرتبط “بمناخ التردد وضعف الالتزام” الأمريكي بالشرق الأوسط، حيث باتت الدول ترى أن “الزمن الأمريكي بدأ يولي ظهره”، متيحًا الفرصة لصعود لاعبين دوليين وإقليميين جدد كروسيا والصين وإيران، ممن باتوا يفرضون “واقعًا يجب التعامل معه”.
واستند الباحث إلى ضعف التوجه العربي للغرب عندما لم تستجب السعودية للطلب الأمريكي بزيادة إنتاج النفط، وهو ما مثّل موقفًا أقرب لروسيا عمليًا، في ظل الصراع الغربي مع روسيا في أوكرانيا.
الخبير الأردني في الأمن الاستراتيجي عمر الرداد، يرى أن ما يجمع بين المبادرة العربية وغيرها من المبادرات المشابهة السابقة هو إعادة النظام إلى الجامعة العربية مقابل إبعاده عن إيران، وبحسب علاقة النظام التحالفية مع إيران، يعتقد الرداد أن دمشق لن تتنازل بهذه السهولة عن هذه العلاقة.
هل يستجيب النظام؟
مبادرات عديدة أُطلقت خلال السنوات الماضية وانتهت دون أثر، أو أفشلتها شروط الأطراف المؤثرة.
الدكتور نصر الحريري، اعتبر أن مبادرة متكاملة لم تتشكل حتى الآن، ورجّح أن تكون التغييرات الأخيرة عبارة عن تحركات دون بنود مسبقة محددة على شكل مبادرة.
وأضاف أن هذه “الموجة” من التحركات السياسية لا يمكن أن تختلف عن سابقاتها، ومن المرجح أن تلاقي المصير نفسه، خصوصًا مع تمسك النظام بحلول الطرف الواحد.
الباحث معن طلاع يرى أن إدارة النظام السوري وإرادته غير موجودة فيما يتعلق بأي استحقاق خارج إطار “التحديات الحكومية”، وبالتالي لا يمكن للنظام التعامل مع أي من ملفات عودة اللاجئين، أو الإصلاحات القضائية، أو إعادة الهيكلة، أو ملف المعتقلين، خارج إطار كونها ملفات تديرها حكومة النظام، لا على أساس “استحقاق وطني”، بحسب طلاع.
الباحث أشار أيضًا إلى أن سلوك النظام يوضح أنه مقبل على إعادة سلسلة مراسيم العفو عن بعض المعتقلين، وهو ما يؤكد أنها إجراءات “شكلية” متصلة بملف التفاوض، ولا تعكس ما يحدث على الأرض فعلًا.
أما عن عودة اللاجئين فيرى طلاع أن النظام غير مستعد لمثل هذه الخطوة، خصوصًا أنه يرى اللاجئين السوريين كمعارضين له، وقد اعتبر مغادرتهم البلاد بمنزلة “تنظيف ذاتي”.
وبالنظر إلى الدول المنخرطة في التوجه الجديد نحو التقارب مع النظام، فإن ملف السلاح الإيراني في الجغرافيا السورية سيكون حاضرًا، وهو ما لا يمكن للنظام التعامل معه بشكل فعلي.
وعلى الرغم من أن النظام يملك صلاحية جزئية للحديث في هذا الملف، يبقى الوجود الإيراني في سوريا متجذرًا في عدة مسارات سياسية، واقتصادية، وعقارية، وأمنية داخل منظومة النظام.
وبالنظر إلى المعطيات السابقة، فإن إمكانية إبعاد النظام عن إيران بعد السنوات الـ12 الأخيرة باتت شبه مستحيلة، بحسب طلاع.
وخلال زيارته إلى روسيا، منتصف آذار الماضي، قال رئيس النظام السوري، بشار الأسد لقناة “روسيا اليوم”، إن الحديث عن أن هناك علاقة سورية- إيرانية يجب أن تنقطع “لم يعد يثار مع سوريا”، مضيفًا أن هناك “وفاء بين سوريا وإيران عمره أربعة عقود، وأن هذا الموضوع لم يعد مشكلة على الساحة العربية”.
النظام السوري بات اليوم أمام فرصة “تاريخية” أتاحتها له الرياض، وعليه أن يتفاعل إيجابيًا وسريعًا معها حتى لا يخسر هذا الملف.
مبارك العاتي باحث ومحلل سياسي سعودي |
الباحث السعودي مبارك العاتي يرى في هذا الصدد أن فرصة تقارب النظام مع الدول العربية، وخصوصًا السعودية، يمكن أن تفتح له إمكانية العودة إلى محيطه العربي عبر “البوابة الكبرى”، في إشارة إلى المملكة.
وفي الوقت نفسه، لا يمكن التقدم بأي خطوة في هذا التقارب في حال لم يخطُ النظام بشكل إيجابي ويبدي “حسن نيّته” وجديته تجاه الدول الأخرى، بحسب الباحث.
العاتي قال أيضًا، إن النظام السوري بات اليوم أمام فرصة “تاريخية” أتاحتها له الرياض، وعليه أن يتفاعل إيجابيًا وسريعًا معها حتى لا يخسر هذا الملف.