عنب بلدي – جنى العيسى
خلال السنوات الماضية، لجأ النظام السوري إلى خلق عدة أرقام لسعر صرف الدولار في سوريا، لجملة أسباب، أبرزها الاستفادة من فروق السعر بين الأسعار التي يفرضها والأرقام الواقعية لقيمة الليرة السورية أمام الدولار في السوق “الموازية”.
منذ مطلع العام الحالي، اتخذ مصرف سوريا المركزي عددًا من القرارات تحت مبرر مشترك يتمثل بأنه “خطوة باتجاه تقليص عدد نشرات أسعار الصرف الصادرة عنه، ضمن سعيه لتوحيدها”.
تناقش عنب بلدي في هذا التقرير أسباب رغبة النظام بتوحيد أسعار الصرف، بعد سنوات على التمسك بإصدار عدة نشرات، وأهدافه من وراء القرارات التي تشير إلى ذلك.
أربعة أسعار معلَنة
توجد في سوريا عدة نشرات لأسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الليرة، ثلاث منها يعلَن عنها بشكل يومي، هي السعر الرسمي، ونشرة المصارف، ونشرة الحوالات، بالإضافة إلى سعر إضافي غير رسمي هو سعر “السوق السوداء”.
في 2 من نيسان الحالي، رفع المصرف المركزي سعر صرف الدولار في نشرة المصارف إلى 6532 ليرة سورية بعد أن كان 4522 ليرة، كما رفع سعر صرف الدولار للحوالات “للشخصيات الاعتبارية” الواردة من الخارج إلى 6500 ليرة، بدلًا من 4500 ليرة.
سبق ذلك إلغاء نشرة البدلات العسكرية، وهي المبلغ الذي يجب دفعه كبدل عن الخدمة الإلزامية في سوريا، على أن تحل محلها نشرة المصارف.
ومطلع شباط الماضي، رفع المصرف سعر صرف دولار الحوالات والصرافة إلى 6650 ليرة سورية، وسعر صرف اليورو إلى 7328 ليرة، على أن تعدّل بشكل دوري مجاراة لسعر صرف العملات أمام الليرة في “السوق السوداء”، ووصل وفق أحدث تعديل عند تحرير هذه المادة إلى 7250 ليرة سورية.
وفي قرار لم يُنشر على معرفات مصرف سوريا المركزي، أو وسائل الإعلام الموالية، وبعد تعنّت لسنوات، بدأ مصرف سوريا المركزي، بحسب قرار صادر عنه في 9 من شباط الماضي، تطبيق سعر نشرة الحوالات والصرافة، القريب من سعر صرف “السوق السوداء”، على الحوالات المخصصة للاستجابة الطارئة للزلازل، من قبل المنظمات الأممية والدولية والإنسانية.
ووفق موقع “الليرة اليوم” المتخصص بأسعار الصرف والعملات النقدية، يصل سعر مبيع الدولار إلى 7550 ليرة سورية، وسعر شرائه إلى 7500 ليرة، ويتراوح منذ نحو شهر بين 7300 و7600 ليرة للدولار الواحد.
دولار أكثر
خلال السنوات الماضية، تكررت التقارير والدراسات التي أكدت حصول النظام السوري على إيرادات كبيرة من فروق الأسعار عبر شرائه الحوالات المرسَلة إلى سوريا بسعر صرف ثابت يحدده، أقل بكثير من سعر صرفها بـ”السوق السوداء”، ما يثير التساؤلات حول قراراته مؤخرًا التي تشير إلى تقريب أسعار الصرف من “السوق السوداء”.
وتعليقًا على قرارات مصرف سوريا المركزي، قالت وزيرة الاقتصاد السورية السابقة، لمياء عاصي، إن تعدد أسعار الصرف كانت العائق الأساسي في اجتذاب أي استثمارات للبلاد، وإن التفاوت بين سعر الصرف الفعلي والمتداول في “السوق السوداء” صعّب الاستثمار بشكل “مربح وفعّال”، معتبرة أنه لا يمكن السيطرة على سعر الصرف سوى بتوحيد نشرات صرف العملة، وتوفير مصادر “دولارية” في السوق، سواء كانت تتعلق بتمويل المستوردات أو الاحتياجات الأخرى.
الأستاذ المشارك في كلية إدارة الاقتصاد بجامعة “ماردين” التركية، الاقتصادي السوري الدكتور عبد الناصر الجاسم، يرى أن هناك خللًا واضحًا في إدارة الشأن النقدي والمالي لدى البنك المركزي الحاكم، وسط غياب الرؤية الواضحة ومواكبة المتغيرات التي أصابت أو تصيب الاقتصاد السوري لدى مجلس إدارته، الأمر الذي ينعكس جليًا على الشؤون المالية والنقدية.
واعتبر الجاسم، في حديث إلى عنب بلدي، أن القرارات الصادرة كلها “ارتجالية وردود فعل”، ويأتي جزء كبير منها على شكل توجيهات من جهات وصائية أومن جهات ذات مصلحة.
بينما اعتبر الباحث الاقتصادي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” مناف قومان، أن هدف النظام من سياسة تقريب أسعار الصرف من سعر “السوداء” يكمن في رغبته بامتصاص سيولة النقد الأجنبي بالسوق لخزائنه.
ويرى قومان، في حديث إلى عنب بلدي، أن النظام أدرك أن سياسة محاربة سعر “السوق السوداء” غير مجدية، ولم تفضِ لحصر قنوات النقد الأجنبي بخزائن البنك المركزي.
ويعتقد الباحث أن المصرف المركزي بات يعتمد على سياسة سعر صرف مرن، وابتعد عن سياسة سعر الصرف الثابت.
ومطلع آذ ار الماضي، قال مدير “مديرية العمليات المصرفية” لدى مصرف سوريا المركزي، فؤاد علي، إن تعديل نشرة “الحوالات والصرافة” بشكل يومي، زاد من حصة السوق الرسمية من الحوالات بشكل “كبير جدًا” مقارنة بـ”السوق السوداء”، مؤكدًا أن المبالغ المتجه فؤاد علية إلى السوق الرسمية ازدادت بشكل ملحوظ عقب القرار، إذ وفّر على أصحاب الحوالات الذهاب إلى السوق “الموازية”، والتعرض لمخاطرها العديدة، وفق قوله.
“إصلاحات مالية”.. ما وراءها؟
يعتقد الدكتور عبد الناصر الجاسم أن ما يجري اتخاذه من قرارات بخصوص توحيد سعر الصرف في النشرات الصادرة عن المركزي، هو محاولة لتهيئة البنية المالية والنقدية تحسبًا، عند الحصول على مساعدات خارجية ومساعدات في إطار الزلزال، أو مساعدات قد تنتج عن التحركات السياسية التي حصلت مؤخرًا من عدد من الدول تجاه النظام، مشيرًا إلى أن الأمر هنا يتطلب وجود منطقية في تحديد أسعار الصرف، وأن تكون البنية المالية مواتية وملائمة.
وتتعلق سياسة النظام هذه بأسباب أخرى، ربما بأن تكون مقدمة لتخلي الحكومة عن مسؤولياتها “الوهمية” التي كانت تقنع بها الناس دائمًا، من ناحية ضبط أسعار صرف العملة وغيرها، ما قد يقودها في النهاية إلى “تعويم” سعر الليرة، وفق الدكتور عبد الناصر الجاسم.
تعويم العملة (سعر الصرف العائم)، هو نظام من أنظمة سعر الصرف الذي يُسمح فيه بتحرير قيمة العملة من السلطات النقدية في الدولة، والسماح لها بالتغير وفقًا لسوق الصرف الأجنبية، فيتغير سعرها تبعًا للتغير في العرض والطلب. |
ولا يستبعد الجاسم أن تكون وراء هذه السياسة طلبات أو إملاءات خارجية بقصد “الإصلاحات المالية والنقدية”، استعدادًا لمرحلة إعادة الإعمار، أو وجود مجموعات مستفيدة تشكّل “لوبيات” ضغط تتألف من شركاء النظام “الحيتان” وبعض رجال الأعمال من واجهات السلطة السياسية ممن أصبحت لديهم مصالح اقتصادية تقتضي أن تكون السياسة المالية والنقدية واقعية.
وبعد الزلزال المدمر الذي تأثرت به أربع محافظات سورية، في 6 من شباط الماضي، تعددت مصادر التدفق النقدي من العملات الأجنبية إلى سوريا، منها حوالات المغتربين لذويهم المتأثرين بالزلزال، أو بهدف المساعدة ضمن الحملات الإغاثية التي نُظمت لهم، أو عبر الحوالات القادمة من المنظمات الدولية، أو من الدول “الصديقة” للنظام.
استنزاف للاقتصاد
وحول أثر سياسة تقريب أسعار الصرف، يرى الباحث مناف قومان أن اتباع النظام هذه السياسة يشير إلى عدة معطيات، أبرزها اعترافه بضعف قيمة الليرة وقوتها الشرائية، ونفاد خزائن المركزي من العملة الصعبة، واعتماده المطلق على القطع الأجنبي في الأسواق، بالإضافة إلى نقص المساعدات الأجنبية التي كانت تصب في حسابات “المركزي” من روسيا وإيران والحلفاء، فضلًا عن توقف خطوط الائتمان التي كانت سارية من إيران.
ووفق هذه المعطيات، يتطلب الأمر جمع القطع الأجنبي من السوق، بحسب ما أوضحه قومان، مشيرًا إلى أنه ربما من المرتقب في الأشهر المقبلة اعتماد الدولار أكثر من الليرة في التعاملات، بالشكل الذي يؤدي إلى انتشار ظاهرة “الدولرة” في البلد.
“الدولرة” مفهوم يُستخدم عندما تعتمد دولة ما على الدولار الأمريكي أو عملة دولة أجنبية أخرى رسميًا بدلًا عن عملتها الوطنية، أو بالإضافة إليها، وتسمى هذه العملية أيضًا استبدال العملة.
تحدث “الدولرة” عندما يكون المصرف المركزي في البلد ضعيفًا أو اقتصاد البلد ليس بالاقتصاد المستقر، وتلجأ له الدولة عادة للحفاظ على الاقتصاد من حالات التضخم الجامح. |
ويعتقد قومان أن هذه العوامل ستتفاعل مع بعضها في ظل بقاء الظروف الاقتصادية الصعبة التي تحيط بالمشهد السوري، وتؤدي إلى مزيد من استنزاف الليرة مع كل حدث، وسط عدم وجود توقعات بتحسن قيمة الليرة على المدى المنظور.
وبحسب تقرير صادر عن مركز “جسور للدراسات” مطلع 2021، تفتقد الليرة السورية حدود المقاومة اللازمة للدفاع عن استقرارها، ومن الصعب أن تصمد أمام أي هزة مهما كانت صغيرة، ما يؤكد أنها عُرضة للانخفاض السريع.
وأضاف التقرير أنه غالبًا ما يكون أثر التحولات السياسية والاقتصادية في سعر صرف الليرة على شكل موجات ارتفاع واضحة، أي بانخفاض قيمة الليرة، الأمر الذي يجعل من الصعب تحديد المستويات التي يُمكن أن تحققها.