صفوان قسام
صرح مخترع الهواتف اللاسلكية منذ مدة أنه يشعر بالصدمة في كل مرة يشاهد فيها طفلًا يعبر الشارع دون حذر، وهو يحدق في هاتفه النقال! ربما كان تصريحه هذا يلخص لسان حال كل من أسهموا في ابتكار وتطوير أجهزة كان هدفها خدمة البشرية وراحتها، ولكنها ككل الاختراعات البشرية كانت ذات آثار سلبية عليهم.
وصارت الهواتف النقالة أجهزة ذكية، ولم تعد تقتصر على الهاتف كجهاز، فقد أصبحت عامل جذب في المضمون وبرامج التشغيل والميزات والألعاب، وباتت واحدة من الملهيات إلى حد الإدمان، وكلنا نلمس هذه الظاهرة التي نعانيها أفرادًا وجماعات، في المنزل والشارع والعمل.
نجد عائلة بأسرها يجلس أفرادها مستسلمين لهواتفهم دون تواصل، ثم نجد الأم شاكية من انحناء ظهر أولادها وانعزالهم الاجتماعي وضعف بصرهم ومشكلات البدانة أو الهزال نتيجة فرط جلوسهم على هواتفهم الذكية! وهي من كانت تعطيهم الهاتف ليصمتوا ويلتهوا عنها لتنهي مشاغلها.
لكنّ للأمر بعدًا أكبر وأخطر يتجاوز قدرة المجتمع على استيعابه، فعلى سبيل المثال، كان من المعروف سابقًا أن علاقة كالصداقة تنشأ وتستمر وتنتهي في الحياة الواقعية، ومع وجود مواقع التواصل صار للصداقة بُعد آخر، وهو الحياة الافتراضية، وأضافت أشكالًا جديدة للصداقة:
الشكل الأول: النمط التقليدي وهو صداقة نشأت في الواقع واستمرت وانتهت في الواقع.
الشكل الثاني: صداقة بدأت في الواقع واستمرت في الواقع والحياة الافتراضية وانتهت عليهما.
الشكل الثالث: صداقة نشأت واستمرت وانتهت افتراضيًا.
الشكل الرابع: صداقة نشأت افتراضيًا واستمرت في الواقع والحياة الافتراضية وانتهت عليهما.
ومن المعروف أن للعلاقات الاجتماعية خمس مراحل عمومًا هي: التعارف، البناء، الاستمرار، التدهور، الانتهاء، علمًا أن مرحلة التدهور ليست مرحلة موجودة في كل العلاقات، فقد تنتهي العلاقة بموت أحد طرفيها فجأة، دون مرور بالتدهور، وهي أيضًا ليست بالضرروة أن تفضي للانتهاء، فقد تُحل المشكلات وتعود العلاقة للاستمرار، إضافة إلى أن التعارف يجب أن يكون مرحلة متزامنة طوال العلاقة نفسها، ففي كل موقف يتعرف الطرفان إلى بعضهما أكثر حتى بعد انتهاء العلاقة. وأيضًا فإن البناء قد يتغير بعد فترة من الاستمرار بالعلاقة، أو المرور في مرحلة التدهور، فقد تبدأ كزمالة وتُبنى على هذا الأساس، ثم تتطور لتصبح صداقة وتُبنى على هذا الأساس، وتتطور لحب وارتباط وأيضًا تُبنى عليه، وقد تمر بالتدهور فيعاد النظر بالبناء كله وهكذا.
المشكلة في العلاقات الاجتماعية على مواقع التواصل الاجتماعي، أنها علاقات بالعموم تُظهر لنا الشكل الأمثل عن الآخر، ولا تعكس الصورة الحقيقية عنا، وبالتالي فإن مرحلة التعارف تبقى في مرحلة اللانضج واللاواقعية، التي تُبنى العلاقات عليها، فنحن دائمًا مبتسمون وسعداء وناجحون على “إنستجرام”، ونحن مثاليون في ما ننشره على “فيسبوك” ونتحاور برقي دون غضب، وننتقي أفضل الخيارات لنتابعها على مواقع أخرى، وهو ما يظهرنا بصورة جميلة كأشخاص.
وللمفارقة، فإنه فعلًا وبسبب برامج التصوير التي تضيف معالجة للصور نظهر بشكل رائع، ما يدفع الآخر للتعلق والأمل والانجذاب، وعند اكتشاف حقيقة أننا بشر وطبيعتنا هي ذاتها، تأتي الصدمة على قدر الأمل، ويكون التدهور والانتهاء مؤلمًا جدًا، وقد يشكّل عقدًا ومشكلات في العلاقات الاجتماعية إن لم نستوعب ما نمر به وندرب مرونتنا النفسية عليه.
الأمر في المجتمع على مواقع التواصل الاجتماعي نفسه كأفراد، شاهدنا كيف تهب الصفحات الشخصية والعامة والمجموعات عند حصول أمر عام، وخصوصًا في مجتمعنا. سابقًا كانت النخبة المثقفة هي من تملك ميزة الكتابة والتعبير والظهور على وسائل الإعلام، واليوم صارت الأدوات في متناول الجميع، وتساوى من يعلم ومن لا يعلم في إمكانية الوصول، وهناك بدأت تظهر المشكلات الاجتماعية على السطح، كلها دون استثناء، ومع طريقة المعالجة اللامنطقية واللامنهجية واللاعلمية، تفاقمت هذه المشكلات، وصارت الحلول أصعب، بل باتت تفرخ ردود فعل على طريقة المعالجة، وتخلق مشكلات مركّبة ومعقّدة على المشكلة الأم.
عندما نجد موضوعًا على سبيل المثال يتناول علاقة الأكثرية بالأقلية، فإننا نلاحظ أن خلفية الكاتب أو الكاتبة في علاج الموضوع تتدخل هنا، فاليميني عمومًا يتبنى علاقة فيها هيمنة أو ميزات إضافية للأكثرية على حساب الأقلية، واليساري يرفض هذه العلاقة القائمة على اللامساواة المطلقة، وفي التعليقات نجد حالة من النقاش المتشظي والمبعثر واللامنهجي، الذي يتبع أيضًا للخلفية والتعليم والذكاء والوعي والعمر والجنس والعرق والدين والمذهب والعمل والمستوى الاقتصادي والقرب من السلطة والسكن والمنطقة والعشيرة، وغيرها من العوامل التي تؤثر في رأي من يكتب التعليق، الذي يفضي عمومًا لكثير من الإساءة والسباب أحيانًا، وتناول الموضوع من زوايا لا تخطر على بال، وليس بالضرورة أن تكون كلها صحيحة أو مبنية على منطق علمي، فقد تكون تحليلات شخصية سطحية، وقد تكون رأي عالم نقلًا أو تأليفًا.
والمشكلة أن هؤلاء الكتّاب العارفين أقلية أمام جهل العوام، الذين يهاجمونهم ويقللون من احترامهم، فقد يوصفون بالكفار والملحدين والعلمانيين (الأخيرة ليست شتيمة إلا عند من يجهلها)، وقد يوصفون بالمتطرفين و”الدواعش”… وهؤلاء هم من وصفهم جمال الخاشقجي بـ”الذباب الإلكتروني”، هم أكثر جرأة على المهاجمة، لأنهم يتخفون وراء الشاشات ولا يواجهون، ولأنهم غير معروفين، فهم يتحدثون بثقة عالية.
ومن الأمور التي تزيد من هذه المشكلة، خوارزمية مواقع التواصل الاجتماعي نفسها، فكلما وجد الموقع إقبالًا على المنشور زاد من مساحة نشره، والمؤسف حقًا أن العوام ليسوا بمقياس لما يجب نشره، فقد تكون فتاة ذات مظهر لافت ولديها كثير من المتابعين المعجبين بمظهرها، هي من تقوم بنشر رأي شخصي، ربما يكون أقل من عادي وربما خاطئ أيضًا، لكن الجمهور المتابع لها والمأخوذ بسحرها يقدم لها “الدعم النفسي المبني على الافتتان”، ويتفاعل مع منشورها، فيزيد “فيسبوك” من انتشاره ويتبناه كثيرون، ولأن القاعدة في علم النفس الاجتماعي تقول، إنه كلما زاد انتشار الرأي وسمعته من أكثر من مصدر صار حقيقة، يصبح رأيها الخاطئ صحيحًا، والجمهور سيتبناه ويهاجم من يناقشه.
يبقى أن نشير إلى أن الألم النفسي ذا الانعكاس الاجتماعي الحاصل بين الأصدقاء والمعارف على مواقع التواصل الاجتماعية هو ألم مضاعف في الواقع، إذ إن الخلافات في العلاقات الاجتماعية التي تحصل على تلك المواقع تجعل الشخص يظن أن كل الناس رأوه وهو يتلقى الإهانة، فيشعر بخزي مضاعف، وأنه مفضوح، ولأن الكتابة لا تنقل المقصود تمامًا، يكون رد الفعل على أرض الواقع أضعاف ما هو عليه لو حصل الخلاف وجهًا لوجه، وغالبًا سيتم علاجه لو كان كذلك، والعكس بالعكس.