حاجة المقاتل قد تدفعه للفساد
تأخير وضعف رواتب “الوطني”.. ضغط لتفكيكه أم لكسب ولاء
عنب بلدي – حسن إبراهيم
“اعتدنا تأخير تسليم الراتب الشهري منذ سنوات، حتى لو وصل، فهو لا يكفي سوى أيام قليلة، وكلما كان عدد أفراد العائلة أكبر، قلت كفايته، وبعد عشرة أيام تبدأ رحلة الديون والبحث عن عمل بالمياومة”، هكذا لخّص “سليمان”، وهو أحد مقاتلي “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، حالة معظم المقاتلين مع تكرار تأخر الراتب وقلّته.
وقال “سليمان” (اسم مستعار لأسباب أمنية)، إنه تلقى مؤخرًا راتبه عن الشهرين الماضيين، إلى جانب عشرات الآلاف من العناصر، بعد انتظار أكثر من 60 يومًا، دون الزيادة التي وعدت بها وزارة الدفاع في “الحكومة السورية المؤقتة” المظلة السياسية لـ”الجيش الوطني”.
تأخر رواتب عناصر “الجيش الوطني” شمالي سوريا بات حالة عامة، دون مبررات واضحة، في حين لا تتأخر رواتب العاملين في بقية المؤسسات، مثل المجالس المحلية و”الشرطة المدنية” و”الحكومة المؤقتة” وغيرها.
مظاهرات ومطالب لم تغير واقع الراتب لعشرات الآلاف من المنخرطين في هذا التشكيل العسكري، إذ يعيشون أوضاعًا صعبة، حالهم كحال السكان في الشمال السوري.
قال “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”، إن عدد مقاتلي “الجيش الوطني” وصل إلى 80 ألف مقاتل في 2019، في حين ذكر تقرير لمعهد “الشرق الأوسط”، في تشرين الأول 2022، أن التشكيل يجمع من 50 ألفًا إلى 70 ألف مقاتل.
ديون وحوالات
يعمل “سليمان”، إلى جانب عمله العسكري في صفوف “الفيلق الثالث”، بأعمال كالإنشاءات والنجارة والزراعة وغيرها، مقابل أجر يومي يتراوح بين 30 و50 ليرة تركية، لكن لأيام محدودة خلال الشهر، فهو يدرس بجامعة “حلب في المناطق المحررة” بمدينة اعزاز.
“دون الحوالات حالتي صفر”، ينتظر “سليمان” مع عائلته المكوّنة من أربعة أفراد “ما تيسّر” من مبالغ يرسلها إليه شقيقه المقيم في تركيا كل شهر، من أجل تأمين احتياجات العائلة الأساسية، فراتبه الشهري البالغ 700 ليرة تركية (تعادل 36 دولارًا أمريكيًا) لا يكفيه سوى أسبوع، فضلًا عن مساعدات مالية من بعض الأصدقاء.
وأوضح الشاب لعنب بلدي أن أغلبية العناصر في “الجيش الوطني” يعملون بأجر يومي في مهن مختلفة، ويقتاتون على الديون من المحال مع الاقتصار على الحاجات الأساسية اللازمة، وبعضهم لديهم إخوة أو أقارب في الخارج يعينونهم قليلًا.
ويعرف “سليمان” ضمن كتيبته نحو 50 إلى 60 عنصرًا لديهم عائلات مكوّنة من ستة إلى سبعة أشخاص، لا يكفيهم الراتب ثمن خبز أو حليب أو “حفاضات” للأطفال، وتنتهي رواتبهم مع أول أسبوع من بداية الشهر.
ولم يرغب الشاب بشرح تفاصيل أكثر عن حياة رفاقه من المقاتلين، لافتًا إلى وجود تكاليف أخرى “إجبارية” يدفعها العناصر، كفيلة بصرف الراتب في وقت تسلّمه، منها فواتير الكهرباء وإيجار المنزل.
من جهته، حسين، وهو مقاتل في “الجيش الوطني”، قال لعنب بلدي، إن الديون تلاحقه وتتراكم عليه وعلى أفراد عائلته المكوّنة من سبعة إخوة أيتام، مضيفًا أنه يدفع كل راتبه بعد تسلّمه، لمحل المواد الغذائية الذي يستدين منه.
ويقيم حسين مع عائلته في خيمة طالتها أضرار الهطولات المطرية والعاصفة الهوائية التي ضربت المنطقة مؤخرًا، حالها كحال مئات الخيام، ولا يزال يبحث عن خيمة بديلة تكون أمتن لكن دون جدوى.
بكلمات ممزوجة بالعجز والخيبة، سأل الشاب كيف يمكن لمبلغ 700 ليرة تركية أن يسد احتياجات أساسية لعائلة يلزمها من ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف ليرة شهريًا، مضيفًا أنه لا يعمل خارج إطار العمل العسكري، وتحصل عائلته بشكل غير ثابت كل شهر أو كل 45 يومًا على سلة غذائية.
وعود “خلّبية” ورواتب منخفضة
في 4 من آذار الماضي، قالت وزارة الدفاع في “الحكومة المؤقتة”، إن الزلزال الذي ضرب المنطقة أدى إلى تأخير تسليم الرواتب، بسبب توحيد جميع الجهود نحو مواجهة الكارثة، ووعدت بتعويض راتب الشهر الماضي (شباط) للمقاتلين وتسليمهم راتبين معًا.
حصل مقاتلون تحدثت إليهم عنب بلدي على رواتب شهرين (غير مقبوضين)، ولم يحصلوا على الزيادة التي وعدت بها وزارة الدفاع، مشيرين إلى أن الأمر ينطبق على جميع العناصر، معتبرين أن عدم تنفيذ وعود زيادة الراتب وانتظام تسليمه صار “أمرًا متوقعًا وواقعًا لن يتغير”.
وفي 9 من تشرين الثاني 2022، وعدت وزارة الدفاع برفع قيمة المنحة المالية المقدّمة لجميع المقاتلين والعاملين في “الجيش الوطني” والقوات الأمنية التابعة له، بهدف تحسين أوضاعهم المعيشية، مشيرة إلى أنه سيتم تسليم المنحة بشكل شهري ومنتظم.
وتختلف رواتب عناصر “الجيش الوطني” من فصيل لآخر ومن منصب لآخر، وبطريقة تسليمها سواء عبر قائد الكتيبة أو المجموعة أو عن طريق التسليم باليد في المقار.
وتصل الرواتب من الجانب التركي إلى غرفة العمليات في قرية حوار كلّس بريف حلب الشمالي، وتضم الغرفة قيادات في “الجيش الوطني”، وتعمل بالتنسيق مع القوات التركية.
ويتراوح راتب العنصر شهريًا بين 600 و1000 ليرة تركية، وتبدأ رواتب الإداريين من 1200 ليرة تركية وتصل إلى 3000 ليرة، بحسب المهام والاختصاص.
وتعد رواتب مقاتلي الفصائل هي الأدنى في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري”، التي تشمل ريفي حلب الشمالي والشرقي ومدينتي تل أبيض ورأس العين شمال شرقي سوريا، مقارنة بجميع رواتب الموظفين في اختصاصات الصحة والإفتاء والعدل والجمارك وغيرها.
أدنى الرواتب في المنطقة بعد العناصر، هو راتب المؤذن وعمال النظافة، وتبلغ رواتبهم 1140 ليرة تركية للعازب، و1225 للمتزوج.
دافع للفساد والفوضى
أوضح “سليمان” أن استمرار عناصر “الجيش الوطني” في عملهم العسكري يعود لسببين، الأول أن العنصر اعتاد العمل العسكري ولا يريد أن يترك سلاحه، والثاني قلة فرص العمل، فالمنطقة صغيرة ومكتظة بالسكان.
وأضاف، “حين لا يجد المقاتل المرابط على الثغور ثمن رغيف خبز لعائلته، فأنت تدفعه لترك السلاح أو للسرقة”، مشيرًا إلى أن الخيارات “ضيقة” أمام المقاتل مع استمرار تأخير الرواتب وانخفاض قيمتها.
بدوره، اعتبر حسين أن ظروف العسكريين المعيشية المتردية، يقابلها ترف ورفاهية وبذخ وجمع أموال في حياة القياديين، وهو ما يدفع العنصر لارتكاب الانتهاكات كالسرقة وغيرها، حتى يصبح فاسدًا في عمله.
المحلل العسكري الرائد طارق حاج بكري، أوضح لعنب بلدي أن راتب العنصر في الشمال السوري هو مصدر عيشه الوحيد، وتأخير تسليمه يعني أن عائلته قد تعرضت للجوع، وأن إيجار منزله تعرض للتهديد، وبات مهددًا في معيشته وسكنه.
واعتبر حاج بكري، وهو محامٍ ضمن نقابة “المحامين السوريين الأحرار”، أن هذه الحالة تؤدي إلى لجوء العنصر لأساليب “غير قانونية” للحصول على المال، وينجم عن ذلك فوضى أمنية وهي ملحوظة في الشمال، وتؤدي إلى ضغوط نفسية كبيرة تدفع العسكري إلى اللجوء ربما لتعاطي المخدرات وارتكابه الجرائم والانتهاكات.
ويؤدي تأخر الراتب إلى تهاون العسكري في مهامه من تدريب أو مناوبة أو حرس، وعدم مبالاته وتغاضيه عن كثير من الأخطاء التي عليه ضبطها والوقوف في وجهها بحزم، وربما يصبح جزءًا من هذه الأخطاء العسكرية العامة، وفق حاج بكري.
وتتكرر الانتهاكات والاعتداءات التي ترتكبها الأجهزة الأمنية التابعة لفصائل أو جهات ومؤسسات عسكرية تنشط في مناطق سيطرة “الجيش الوطني”، حتى أصبحت حالة عامة تعيشها المنطقة.
وجاء في دراسة ومشروع بعنوان “مجموعة الأدوات حول نزاهة الشرطة” لمركز “جنيف لحوكمة قطاع الأمن” (DCAF)، أنه في حال كانت أجور العناصر أقل بكثير من تلك التي يمكنهم تقاضيها في وظائف أخرى، سيبرر البعض السلوك غير الأخلاقي أو غير الملائم على أساس أن صاحب العمل لا يعاملهم كما يجب.
وبالنسبة للأفراد الذين يتقاضون أجرًا ضئيلًا ويواجهون مشكلات مالية في حياتهم، فمن الصعب أن يقاوموا الإغراء الناتج عن الفساد، وفق الدراسة.
وأوصت الدراسة بضرورة تلقي الأفراد والعناصر رواتبهم بانتظام وموثوقية، وعندما تكون ظروف عملهم أقل من مثالية، يزداد احتمال انتشار الفساد، وتعتبر الرواتب السبب الأساسي للفساد.
ورقة ضغط أم كسب طاعة
شهدت المنطقة مظاهرات لعناصر عبر السنوات والأشهر الماضية، أحدثها في 13 من آذار الماضي، حين نظّم عناصر من “الجيش الوطني” وناشطون وقفة احتجاجية في مدينة مارع بريف حلب الشمالي، تنديدًا بتأخير تسليم رواتب العناصر.
ناشطون ومقاتلون شهدوا الوقفة، أوضحوا لعنب بلدي أنهم باتوا يشعرون أن قضية تأخير الرواتب مقصودة لأسباب متعددة، بينها دوافع سياسية هدفها “الضغط عليهم”، خاصة مع صرف الرواتب للجهات الأخرى العاملة في المنطقة.
يرى المحلل العسكري حاج بكري، أن تأخير الراتب وانخفاضه يدفع المقاتل إلى التخلي عن العمل العسكري والتوجه إلى العمل المدني، ويوصله إلى حالة تجعله يفضّل النظام السوري على فصيله الذي يعمل فيه.
ويرجح حاج بكري أن يكون التأخير مقصودًا في بعض الحالات، من أجل أن يتوجه الجميع إلى ترك البندقية، وبالتالي التأثير على الثورة من الناحية العسكرية، وإضعاف المقاومة والروح الثورية في الشمال.
واعتبر حاج بكري أن عدة أطراف، سواء خارجية ولها أجنداتها أو داخلية كالنظام، تسعى لإجهاض الثورة وإجبار المدنيين والعسكريين على التخلي عن الثورة والسلاح، والقبول بأي حل يُفرض عليهم مقابل مكاسب مادية أو مقابل استقرار معيشي لهم.
وتتباين الرواتب بين فصيل وآخر بشكل غير مفهوم، وتُصرف بعض المكافآت لبعض العناصر المقربين من القياديين أو “المحسوبين” عليهم، الأمر الذي خلق رغبة لدى العناصر بتغيير الفصيل والانضمام إلى فصيل آخر يمنح دعمًا او مكافآت أو مساعدات.
عملية تأخير الرواتب وتباينها تؤدي، بحسب حاج بكري، إلى فوضى عسكرية وعدم التزام وانضباط المقاتل بفصيله وتنقله إلى آخر، ويصبح ورقة يتلاعب بها القادة الذين يسيطرون على هذا الأمر، والذين بدورهم يستغلون العناصر من أجل كسب “انصياعهم بشكل كامل وكسب طاعتهم العمياء”.
ويرى حاج بكري أن الولاء هو الغاية الأولى والأكبر للقادة الذين يتحكمون بمصير عناصرهم، ويكسبونه بالضغط على المقاتلين، ما يدفعهم إلى التحول من العمل الثوري إلى الولاء للقائد.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :